لكن المعرفة المُستطاعة عن أندروميديا، في مواقع علوم الفضاء المتاحة لسائر البشر الفانين من كوكب الأرض، تفيد بأن "أندروميديا" هي مجرّة جارة لمجرّتنا "درب التبانة"، والوحيدة الممكنة رؤيتها بالعين المجرّدة في بعض الليالي الصافية. ورَدَ وصفُها، أول ما وَرَد، في كتابات الفلكي الفارسي عبد الرحمن الصوفي، وفي العام 1612 كان الفلكي الألماني سايمون ماريوس أول من وصَّفها بناء على ملاحظات بالتلسكوب. ربما يكون المصدر الألماني هو الرابط مع صفوان الذي اتقن الألمانية وترجم عنها. وربما أيضاً لأن العلماء لم يستبعدوا وجود كوكب مماثل لأرضنا في هذه المجرّة، وتوقعوا أن تصطدم بنا أندروميديا خلال بضعة ملايين من السنين.
صفوان حسم هذا كله، بجرّة قلم. هو ريان الأندروميدي الذي حط بيننا واستقرّ. وإن لم ينفجر في روّاد شارع الحمرا ومقاهيه وصُحُفه، فقد تميز حُلولُه المُسلَّم به في يوميات المثقفين والكتّاب والصحافيين، بالصخب الذي قد ينتجه ارتطام "العقل" بـ"الجنون" حينما كان الارتطام هذا جزءاً من المشهد الثقافي البيروتي... ليس عن سعة صدر صوابية، وليس بالضرورة عن وعي تسامحي أو متراكض لدمج الأندروميديين المحَقَّقين مع المجتمع. بل كان هكذا، من تلقاء الأمور وعفويتها، جزءاً من المشهد وكفى، كأنه وُلد معه، شامَة على خدّه.
طبيعي كان حضور صفوان بيننا، وخارق أيضاً. قصصه وصَلَتنا، نحن الذين بلغنا رُشدَنا في تسعينات القرن الماضي، ممن عرفوه شاباً، وشهدنا بدورنا الكثير من مواقفه كهلاً وعجوزاً. في مقاهي الحمرا المتحولة، وفي مكاتب جريدة "السفير" حيث نُشرت قصائده وترجماته بجوار مقالاتنا وتحقيقاتنا، تلك التي كتبها ونقّحها صباحاً على ما تيسّر له من طاولات قبل وصول أصحابها. كان صفوان الظاهرة التي تكشف نفسها وتفرقع بلا هوادة، لكنها محبوكة مع الجدران والأقلام وأباريق الشاي الأسود من "كافيتيريا" أبو أحمد في الطابق الأرضي.
تعايشُه معنا، أو تعايشنا معه، كان أبعد من العطف أو الِمنّة. لقد كان تسليماً عميماً بصفوان كاستثناء خفيض يرافق الحياة الثقافية البيروتية، وتحديداً قريتها الحمراوية. لا ليُثبت قاعدة عقلانية مناقضة لما يؤلف حالته، بل فقط ليكون وينوجد. كان الظِلَّ الملوّن لتلك الحياة، هذيانها المُتقَبَّل، الغصن الناتئ من شجرة عائلتها من دون أن يبتر نفسه أو يبتره أحد، فاستمر هكذا معلّقاً بها وهي لا تنوء بحمله.
كأن زمن شارع الحمرا، كان زمنَين. واحد يتقدّم بالأدب والنشاط السياسي والإعلام والمسرح والسينما، قبل الحرب وخلالها وبعدها. وآخر، في ما يخص ريان الأندروميدي، يقف عند عصر النهضة كما أرّخ له ميشال فوكو في "تاريخ الجنون"، أي حينما صوَّرَ الفن، أندروميديي تلك الحقبة، كممتلكي حكمة أو معرفة بحدود العالم أو بالأحرى لا-حدوده، وصوَّرَهم الأدب ككاشفين عن الفرق بين حقيقة البشر وما يتظاهرون به. أولئك الأندروميديون، قدَّمهم المنتج الثقافي آنذاك كمنخرطين فكرياً مع العقلاء، لأن "خطابهم" يمثل القوى الغامضة للمأساة الكونية. وإذ قارَن فوكو بين نَصّ عصر النهضة عن "سفينة الحمقى"، والمفاهيم اللاحقة للعزل، فقد أخبرنا بأن تلك الحقبة، وبدلاً من عزل المستعصين على "المنطق" في مصحّات، ضمنت حريتهم وحركتهم باعتبارهم "ركّاباً" و"عابرين"، رموزاً للحالة الإنسانية.
بهذا المعنى، لم تنتقل الحمرا، في ما يتعلق بالشاعر الأندروميدي، إلى عصر التنوير وعقلانيته الصارمة التي لا تقبل تحدياً أو مقارعة، بل مكثت مرفأً لسفينته الفضائية... كان ذلك قبل أن تصبح زيارة المعالج النفسي بعاديّة الجلوس في المقهى، والقلق والاكتئاب ونوبات الهلع كلمات على كل لسان، و"مدربو الحياة" نجوماً يحصدون المعجبين.. كانت الحمرا هي التي أنقذت صفوان من سجن رومية حيث لا ينتمي، حاربت معه أعداءه الحقيقيين في الأجهزة الأمنية، وانتصرا معاً.
ما إن انتشر خبر رحيل صفوان، حتى راح كل من تقاطعت طُرُقه معه، يستذكر حادثة عاصَرها وإياه. وفاته كانت مناسبة لسَيل من الذكريات، عن أنفسنا، عن هذا الجزء من مدينتنا وزمنه الضائع، أكثر مما هي عنه. الضحك والدهشة المرافقان لكل حكاية من حكاياته، ليسا عليه، بل من قبيل ما ينخرط فيه أفراد العائلة الواحدة فيما يتصفحون ألبوم صورهم القديمة... ولذلك، وَجَب شُكر الأندروميدي، مرة أخرى وأخيرة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها