في أغنية "عالحاجز" لفرقة "مشروع ليلى" اللبنانية، يغني حامد سنو ما يشبه الحوار بين رجل ميليشيا أو أمن، وبين شاب يمرّ على الحاجز الأمني الذي يحرسه "العنصر"، وظاهرة الحواجز "الأهلية" أو المليشيوية لم تقتصر على فترة الحرب الأهلية، بل ما زالت ماكثة في العديد من المناطق حتى يومنا هذا. والأصح أن الحوار الذي يغنيه حامد، ذو صوت واحد، الصوت العالي لحارس الحاجز، فيما صوت الشاب مكتوم، إذ نسمع أفكاره لا كلماته. يصيح العنصر: "تس تس تسسس.. يا حلو.. فك الشنطة.. ع اليمين.. ورجينا وراقك.. من وين؟ لوين؟ الهوية تقبرني.. شو هالشعرات؟ لك يؤبش!". ثم يصلنا كلام الشاب من مكان عميق في صدره: "وأنا بخرس بما إنو.. دمعة أمي أغلى منه".
"شو هالشعرات؟؟"، من بين محطات تنمّر وتهديد بالإيذاء الحقيقي، لا يقولها فقط المليشيوي أو الأمني المستقوي على مُواطن بلا ظَهر. بل كذلك دكانجي الحي، وأستاذ المدرسة، والأقارب الزائرون في الأعياد. وفي بلادنا أيضاً، قد تَحُولُ "الشعرات" دون حصول أصحابها على وظيفة أو سكن. بل ربما تتجاوز عواقبها، بكثير، رشقات الشتائم التي تحفل بها أغنية "عالحاجز". هذا بالنسبة إلى الشّّعر.. ولم نتكلم بعد عن الجندر والطائفة والطبقة الاجتماعية وأسلوب الحياة.
هنا قانون فرنسي، وبكل ما له من احترام وقوة إنفاذ، يمسي مدوّنة سلوك، غير متروكة للضمير العام أو الأعراف والتقاليد والأخلاقيات المتفق عليها نظرياً وشفوياً، وبما يفوق سطوة القانون العقابية ورمزيته كإطار لاحتكار الدولة للعنف. يصبح القانون حماية، ليس فقط للمجتمع ككل وللأفراد بتنوعهم، بل أيضاً للأفكار والمفاهيم الاجتماعية والثقافية التي ترفد السّلم الأهلي بالحق في القبول والمساواة.
والدستور، ما زال روح القانون وبوصلة السياسة والقضاء والمواطنية، ولذلك أقيمت طقوس احتفالية خاصة بكل تعديل من التعديلات الـ25 التي طرأت عليه منذ العام 1958... هذا الدستور عُدّل أخيراً، ليس من أجل التلاعب بالسلطة، ولا لتسويغ قمع، بل من أجل حفظ حق النساء الفرنسيات في القرارات الخاصة بأجسادهن، بما في ذلك الحق في الإجهاض.
في ذلك ما هو أعمق من الترف، وأقوى من البداهة، بل هو بالتعريف مضادّ للسّخف.
والقانون ليس مُنزَلاً أيضاً. إذ أثار قانون الهجرة الجديد، اعتراضات قوى سياسية ومجتمعية وازنة، عبّرت في الشارع والإعلام، ولقيت استجابة في المجلس الدستوري الذي عدّل نحو 40% من المواد في عملية تشذيب حثيثة. والاستجابة لم تكن بشعبوية "سمعناكم". لكن، مجدداً، بالاستناد إلى القانون وروحه وهَديِه، لحذف ما يسمى بـ"مُمتطيات التشريع"، أي المواد التي اعتُبرت مُقحَمة وغير ذات صلة بالقانون المعنيّ، لا سيما حق المهاجرين في الرعاية الاجتماعية أسوة بالمواطنين الفرنسيين، ورفض استدخال كوتا للمهاجرين.
هذا لا يعني أن تلك المواد لن تجد طريقها إلى النور عبر قوانين أخرى، أو حتى كقوانين مستقلة. لكن اللعبة ستظل نفسها: التجاذب والتكامل والتناقض بين المؤسسات، يكفل توازناً وصوابية بالحد الأدنى، بل فوق الحد الأدنى بكثير. اللعبة، حين تكون مؤسساتية حرة وديموقراطية، تحمي نفسها بنفسها، وبالقانون الذي يحكمها والذي تولّده أيضاً.
ليس معنى ذلك أن للقوانين مفعول السحر الذي يمحو من الواقع أشكال التمييز والظلم. ولذلك ما زالت تعمل المخافر والمحاكم وجماعات الضغط. لكنها مجرد خاطرة للقول إنه لا شيء سخيفاً بما يكفي كي لا يُصاغ له قانون، في بلاد حُكم القانون... وإلا توقفت الحياة على مزاج ذاك العنصر عند الحاجز.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها