الإثنين 2024/04/01

آخر تحديث: 18:33 (بيروت)

التمييز على أساس الشَّعر

الإثنين 2024/04/01
التمييز على أساس الشَّعر
تجهيز للفنانة الجنوب إفريقية ماري سيباند
increase حجم الخط decrease
في سن السادسة، قامت كنزة بأول عملية تمليس لشعرها، وهذا ما سيمهّد لثلاثة عشر عاماً من الرضوخ للحديد الساخن والمواد الكيماوية. هكذا، راحت كنزة تكافح التنمّر الذي تعرضت له في المدرسة بسبب شعرها الأجعد، بدءاً من دسّ الأيدي أو الأقلام فيه، وصولاً إلى التعليقات الجارحة. وبعدما كبرت، وأصبحت موظفة، ظلّت تتذكر بشكل خاص يوم وجّه لها صاحب العمل ملاحظة غريبة: "لقد كان شعري نصف مربوط، مثل زميلة ذات شعر أملس"، تقول لصحيفة "لوموند" الفرنسية، "لكنه طلب مني العودة إلى المنزل لتغيير تسريحة شعري وإخفائه، وإلا فلا عمل".

لكن كنزة بالقناديل، الناشطة ضد التمييز على أساس الشَّعر، عاهدت نفسها، منذ سبع سنوات، التخلي عن مكواة الشعر وعدم تعريض رأسها لكيماويات التمليس. وفي موقع "إنستغرام"، حيث يتابعها ما يقرب من 260 ألف شخص، تلجأ إليها نساء كثيرات، معظمهن من غير البيضاوات، للتنديد بملاحظات أصحاب العمل حول طريقة تصفيف شعرهن.

ولعل القصص المماثلة لتجربة كنزة في فرنسا، هي التي دفعت النائب أوليفييه سيرفا (غوادلوب) إلى اقتراح مشروع قانون لإدراج التمييز المتعلق "بقَصّة الشَّعر أو لونه أو طوله أو ملمسه" في لائحة التمييز المُعاقَب عليه بالإدانة في قانون العمل وقانون العقوبات والقانون العام للوظيفة العامة. وحظي مشروع القانون الجديد بموافقة الجمعية الوطنية، بغالبية 44 صوتاً، مقابل صوتين، قبل إرساله إلى مجلس الشيوخ حيث ما زالت مآلات إقراره الكامل غير مؤكدة.

بالنسبة إلى سيرفا، فإن اعتماد هذا القانون من شأنه أن يسمح "لجميع ضحايا التمييز في الشعر بالاعتماد على الترسانة التشريعية والتذكير بأنه لا ينبغي لصاحب العمل تحت أي ظرف من الظروف أن يُجبر الموظف على تغيير شَعره".

وإذا كان التمييز المرتبط بالمظهر الجسدي يعتبر غير قانوني بالفعل، يرى أوليفييه سيرفا أن نصه يوضح ذلك، مُذكّراً بمثال مضيف الخطوط الجوية الفرنسية الذي اضطر إلى الذهاب إلى محكمة النقض لإثبات تعرضه للتمييز بسبب شعره المصفف في ضفائر، وهي عملية قانونية استمرت عشر سنوات. ويقول سيرفا إنه اطلع أيضاً على تجربة الولايات المتحدة، حيث قامت ولايات عديدة بسنّ تشريعات تتناول هذا النوع من التمييز تحديداً... لا سيما حين يحول دون حصول الأفراد على وظيفة أو سكن، إذ يُنظَر إلى "الشَّعر العِرقي"، بمختلف تسريحاته، كمؤشر إلى "غرابة الأطوار" أو عدم الاحترافية أو حتى "القذارة".

قد يبدو الأمر سخيفاً، خصوصاً في عيون المشرقيين الآتين من بلدان تحترق بالفقر والحروب والأزمات. بل إن أحد المعلّقين الكوميديين الفرنسيين، سخر من مشروع القانون، مستغرباً أن ينال قسطاً من النقاش والأضواء، فيما الحرب على أبواب أوروبا، وفرنسا نفسها تعاني أزمات اقتصادية واحتكاكات هوياتية–سياسية وأحياناً أمنية هي الأجدر بالتركيز الآن. وإن شاء أحدهم تصنيف مشروع قانون "التمييز على أساس الشعر"، بشكل أكثر دبلوماسية ولباقة، فلعله يقول إنه أحد مظاهر المجتمعات الأكثر استقراراً، والتي تمتلك ترف مثل هذا العمل البرلماني الذي يوصل التشريع إلى هذا المستوى من اليومي والخاص.

المشرقي والكوميدي والدبلوماسي، لا يفتقر أي منهم لشيء من الصواب. لكن للموضوع زاوية أخرى أيضاً. بالأحرى هي نافذة، قد يطل عبرها المستهجنون، على معنى العيش في كنف دولة مؤسسات، أياً كان تقصيرها، ثقلها، إنجازها أو عجزها، في هذا الملف أو ذاك. البرلمان  كمؤسسة. ومجلس الشيوخ. والقانون كإيقاع ناظم للحياة، كل الحياة، بمَلاحمها وسفاسفها وهوامشها، وما بَين بَين.


في أغنية "عالحاجز" لفرقة "مشروع ليلى" اللبنانية، يغني حامد سنو ما يشبه الحوار بين رجل ميليشيا أو أمن، وبين شاب يمرّ على الحاجز الأمني الذي يحرسه "العنصر"، وظاهرة الحواجز "الأهلية" أو المليشيوية لم تقتصر على فترة الحرب الأهلية، بل ما زالت ماكثة في العديد من المناطق حتى يومنا هذا. والأصح أن الحوار الذي يغنيه حامد، ذو صوت واحد، الصوت العالي لحارس الحاجز، فيما صوت الشاب مكتوم، إذ نسمع أفكاره لا كلماته. يصيح العنصر: "تس تس تسسس.. يا حلو.. فك الشنطة.. ع اليمين.. ورجينا وراقك.. من وين؟ لوين؟ الهوية تقبرني.. شو هالشعرات؟ لك يؤبش!". ثم يصلنا كلام الشاب من مكان عميق في صدره: "وأنا بخرس بما إنو.. دمعة أمي أغلى منه".

"شو هالشعرات؟؟"، من بين محطات تنمّر وتهديد بالإيذاء الحقيقي، لا يقولها فقط المليشيوي أو الأمني المستقوي على مُواطن بلا ظَهر. بل كذلك دكانجي الحي، وأستاذ المدرسة، والأقارب الزائرون في الأعياد. وفي بلادنا أيضاً، قد تَحُولُ "الشعرات" دون حصول أصحابها على وظيفة أو سكن. بل ربما تتجاوز عواقبها، بكثير، رشقات الشتائم التي تحفل بها أغنية "عالحاجز". هذا بالنسبة إلى الشّّعر.. ولم نتكلم بعد عن الجندر والطائفة والطبقة الاجتماعية وأسلوب الحياة. 

هنا قانون فرنسي، وبكل ما له من احترام وقوة إنفاذ، يمسي مدوّنة سلوك، غير متروكة للضمير العام أو الأعراف والتقاليد والأخلاقيات المتفق عليها نظرياً وشفوياً، وبما يفوق سطوة القانون العقابية ورمزيته كإطار لاحتكار الدولة للعنف. يصبح القانون حماية، ليس فقط للمجتمع ككل وللأفراد بتنوعهم، بل أيضاً للأفكار والمفاهيم الاجتماعية والثقافية التي ترفد السّلم الأهلي بالحق في القبول والمساواة.

والدستور، ما زال روح القانون وبوصلة السياسة والقضاء والمواطنية، ولذلك أقيمت طقوس احتفالية خاصة بكل تعديل من التعديلات الـ25 التي طرأت عليه منذ العام 1958... هذا الدستور عُدّل أخيراً، ليس من أجل التلاعب بالسلطة، ولا لتسويغ قمع، بل من أجل حفظ حق النساء الفرنسيات في القرارات الخاصة بأجسادهن، بما في ذلك الحق في الإجهاض.

في ذلك ما هو أعمق من الترف، وأقوى من البداهة، بل هو بالتعريف مضادّ للسّخف. 

والقانون ليس مُنزَلاً أيضاً. إذ أثار قانون الهجرة الجديد، اعتراضات قوى سياسية ومجتمعية وازنة، عبّرت في الشارع والإعلام، ولقيت استجابة في المجلس الدستوري الذي عدّل نحو 40% من المواد في عملية تشذيب حثيثة. والاستجابة لم تكن بشعبوية "سمعناكم". لكن، مجدداً، بالاستناد إلى القانون وروحه وهَديِه، لحذف ما يسمى بـ"مُمتطيات التشريع"، أي المواد التي اعتُبرت مُقحَمة وغير ذات صلة بالقانون المعنيّ، لا سيما حق المهاجرين في الرعاية الاجتماعية أسوة بالمواطنين الفرنسيين، ورفض استدخال كوتا للمهاجرين.

هذا لا يعني أن تلك المواد لن تجد طريقها إلى النور عبر قوانين أخرى، أو حتى كقوانين مستقلة. لكن اللعبة ستظل نفسها: التجاذب والتكامل والتناقض بين المؤسسات، يكفل توازناً وصوابية بالحد الأدنى، بل فوق الحد الأدنى بكثير. اللعبة، حين تكون مؤسساتية حرة وديموقراطية، تحمي نفسها بنفسها، وبالقانون الذي يحكمها والذي تولّده أيضاً.

ليس معنى ذلك أن للقوانين مفعول السحر الذي يمحو من الواقع أشكال التمييز والظلم. ولذلك ما زالت تعمل المخافر والمحاكم وجماعات الضغط. لكنها مجرد خاطرة للقول إنه لا شيء سخيفاً بما يكفي كي لا يُصاغ له قانون، في بلاد حُكم القانون... وإلا توقفت الحياة على مزاج ذاك العنصر عند الحاجز.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب