الخميس 2024/03/14

آخر تحديث: 18:02 (بيروت)

الأخت مايا زيادة

الخميس 2024/03/14
الأخت مايا زيادة
increase حجم الخط decrease
الراهبة مايا زيادة صادقة، جداً. مع نفسها بالدرجة الأولى، ومع موقعها، وكذلك مع تلامذتها. العِظة التي تلتها على الأطفال المجتمعين في باحة مدرسة الراهبات، لا لُبس في خروجها من القلب، صافية. قلب لبناني أصيل، لا يفصل الدين عن حب الوطن والانتماء السياسي، في بلد نظامه السياسي طائفي تحاصصي وندلّعه فنسمّيه تشاركياً.

طلبت الأخت مايا من تلاميذها الصلاة لأطفال الجنوب (عظيم)، للوطن الذي يمر بمحنة (ممتاز)، لأهالي الجنوب وأمهات الجنوب (رائع)، وللرجال، رجال المقاومة "لأنهم رجال من لبنان، يتعبون ليحموا الوطن، وإذا لم نُصلِّ لهم ونحبهم، بغض النظر عمّا نفكّر فيه، فسنكون خونة لأرضنا ووطننا ولكل كتاب نفتحه ونقرأه"(!).

أمينة جداً، الأخت مايا. فهي، كمعلّمة في مدرسة دينية، وبكل ما يعنيه الدين والتعليم الديني في بلد مثل لبنان، قامت بواجبها. أَملَت على الصغار أفكارهم ومشاعرهم واصطفافهم، وصلواتهم بالطبع. سحبت فتيل النقاش أو التفكير الحر، فلا مكان لهذه الشياطين بيننا. بكل مناقبية، كراهبة مدرسية، قررت، نيابة عن براعم الرعية، مَن يحمي البلد ومَن يكشفه على المجهول، مَن يفعل ذلك الآن، ومَن فعل ذلك بالأمس، ومَن يجب على هؤلاء الصغار أن يحبوا بصرف النظر عن أي سياق. وهي التي، نيابة عن أهاليهم، حددت في مخيلاتهم الغضّة، مَن هو البطل، فالأهالي أصلاً سجلوا أولادهم هنا من أجل ذلك. ولولا أن دوغما مايا لم توافق دوغماهم، لما دخل الدار شرّ. وعلى سبيل حقن الأطفال باللقاح اللازم للوقاية من الخطيئة، كما يُنتظر من رتبتها المهنية-الروحية، لقّنتهم مسبقاً وجهة شعورهم بالذّنب، وِجهةٌ طريقها يمرّ عبر التخوين. هذا لبنان الذي نعرف ويجري في عروقنا. هكذا هم اللبنانيون الأقحاح، أياً كان زيّهم الزمني أو اللاهوتي.

أما التضاد الذي نشأ مع إدارة المدرسة التابعة لمرجعية روحية، تمتلك، بالبداهة اللبنانية، خطاباً سياسياً هو أحد  الخطابات الوافرة في وطن النجوم والخصوم، فلا خوف منه: إنها حيوية الشروخ ضمن المذهب الواحد. والمدرسة أوضحت أن الراهبة ليست من هيئتها التعليمية، ووعدت بـ"إجراءات"، أو هكذا قال بعض من أحزاب الطائفة. لكن ذلك لم يثبت فعلياً حتى الآن، إذ يتطلب الأمر تحقيقاً يفترض أن توافق عليه سلطات ليست أقل من الفاتيكان.

دين ودنيا يا لبنان.. دين ودنيا. 

والحق يقال، أن أهالي التلامذة أيضاً صادقون. استنكارهم، خوفهم، غضبهم. فثمة من يحاول انتزاع أولادهم من حضنهم الإيديولوجي الذي، من دونه، ربما لا يعودون يتعرفون على أنفسهم. أولادهم لهم، وليسوا أبناء الحياة. فالحياة في لبنان حيوات تحكمُ كلاً منها سلطةٌ سماوية-أرضية. وهم يريدون تنشئة فلذات أكبادهم في كانتونهم الدافئ.

طبيعي يا بلد، طبيعي.

السياسيون فاضوا، كذلك، بصدقهم. تميزت تصريحاتهم بالشفافية التي يتمناهها واحدنا في الموازنات والمصارف. فلئن كان بينهم مَن هاجم الأخت مايا، ومَن أثنى عليها، فكلٌّ من زاوية تموضعه في البازل وبالضبط كما هو متوقع منه. هم الدليل الدامغ على صدق الراهبة ولبنانيتها، على صميم السياسة الوطنية التي تترفّع وتتسامى عن صغائر الأمور وسفاسفها، مثل التوقف للحظة والتساؤل عما إذا كانت "المقاومة" مسؤولة، ولو حتى جزئياً، عن انقسام اللبنانيين إزاءها. السياسيون المرآة، ومايا وجه الوطن. أو العكس، لا فرق.

ومثلهم المدارس الدينية في الجهات المقابلة. المؤسسات التربوية الحقيقية، التي لم يضنّ الله بها على أي من الجماعات اللبنانية، دعت مايا زيادة للانضمام إلى صفوفها، وبضعف راتبها الحالي. فهي تشبههم وهم يشبهونها، مع الفيديو الأخير ومن دونه. بألوان الإيمان المرفرفة هي نفسها فوق مقرات حزبية، بالمحبة والتسامح اللذين تُحاك بهما سجادة ضخمة يُكنَس تحتها القانون والقضاء، الواجبات والحقوق، وكل قضية لم ينل أصحابها إنصافهم. ليس أحلى من الوضوح في لبنان المنارة الذي، ذات مرة، صَدَّر الحَرف، والآن يمتلك من الوعي ما يجعله يعيد تدوير رأسماله التربوي والسياسي والطائفي لضمان كفايته الوطنية.

وليس النقاش الدائر في السوشال ميديا حول موقعة الأخت مايا، سوى بحث مصغّر في تاريخنا المضيء، أو الأصح، المشتعل، كالنار التي تبدّى بها الله لموسى. فُتحت أبواب الذاكرات على صفحات مقطوعة من كتاب التاريخ المدرسي، لكن لو قُيّض للتلامذة أجراء امتحان فيها، لنجحوا جميعاً بتفوّق في "تسميع" كل الأسرار الذائعة. جرائم متبادلة من 1860، إلى 4 آب 2020، وصولاً إلى أفضل سيناريوهات الانهيار في 2024... انفجارات، قتلى وجرحى، اقتحامات أحياء وبلطجة وخسائر ومخطوفين، "عندنا" و"عندهم" اغتيالات ومجازر وتهجير.

يبقى الأطفال. في الباحة أمام الأخت مايا، وفي كل ساحة مدرسة ترفَع صورة للعبادة والمبايعة. هؤلاء لم يُسمع صِدقهم ولم يُرَ. ما زال في القالب في انتظار أن يجفّ.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها