الخميس 2024/03/21

آخر تحديث: 15:08 (بيروت)

بطاقة معايدة لأمٍّ منسية

الخميس 2024/03/21
بطاقة معايدة لأمٍّ منسية
(لوحة للفنانة العُمانية حفصة التميمي)
increase حجم الخط decrease
في عيد الأمهات... ثمة أمٌّ مَنسية. قلما يتصل بها أحد. لا تتلقى باقة ورد، والأغلب أنها مجرّدة بقسوة من الاعتراف والسماح بالاحتضان. صوت مكتوم، ضحية رقّته وخُفوته. لُطف مهمّش، رغم الحاجة الماسّة إليه، في سنوات الرّشد دون الطفولة. أمومة قد نختار ألا نمارسها، نجمّدها، ننكرها ونتنكّر لها، رغم أمومتنا (أو أبوّتنا) المتحققة بالأولاد. الأمومة-الفِعل، الذي نلغيه، نجزمه ونلجمه ونُخرسه مرات كثيرة من دون أن ندري، ولو تحقق الإسم-اللقب بأمومتنا لصغارنا.

في عيد الأمهات، ننسى الأمهات اللواتي غالباً ما نحرم أنفسنا منهن، فندفع الثمن غالياً ومرهقاً. نسدده نزيف حبٍّ نتسبب في هدره بدلاً من التمتع به، رغم أنه من مصاف الحب الذي لا يُعوّض. نغفل أمومتنا لأنفسنا، نُقصي ذاتنا التي ترعى ذاتنا وتحبها وتحتويها في سويعات الإحباط والخوف وتعنيف العقل والأحاسيس. ولا ننتبه إلى أن ما نعانيه بعد ذلك ليس سوى يُتمٍ جَنَيناه علينا ولم يَجنِه علينا أحد.

ذلك الصوت الذي يخاطبنا من داخلنا بحنوّ... أُمّ. تلك اليد الذهنية التي تُربّت على الكتف بعد إنجاز، كبيراً كان أو صغيراً، بل غالباً أحد إنجازات الأمومة نفسها، كأن يفرح طفل أو ينجح، أو يكمل رضيع يوماً إضافياً في حياته بسلام وأمان. هذه اليد... أُمّ. والعناق الأثيري. ذاك الذي يُنتظر حدوثه بشَوق في بقعة عميقة بين قضبان القفص الصدريّ، في لحظة ضعف أو قلق، ترقّب أو انزلاق إلى الأفكار السلبية وسِياطها. هذا عناق أُمّ. قد نجده في أُمّ بيولوجية ما زالت حيّة، فقدت أو لم تفقد إدراكها وصحتها. لكن أمّهاتنا البشريات، في الكِبَر، لا يعُدن كافيات بالضرورة، إذ ما عدنا أطفال تلك النساء الذاهبات إلى سنّ متقدمة. ما عدنا أطفالاً...نقطة.

إنسان ما بعد الطفولة والمراهقة وأول الشباب، بحاجة إلى أُمّه التي يصنعها في داخله، بأنامل بَواطنه وعقولها العديدة المتصارعة... أحياناً في ما بينها. يوقظها بالأحرى، ويعطيها مساحتها، سواء وعى ذلك وأدركه، أو لم يفعل.

الخطاب الجوّاني الذي نقرأ في الكتب أنه يمكن "تحريره"، مثله مثل أي نص مكتوب. إخضاعه لمونتاج جماليّ هادف، مثله مثل أي نص مرئي ومسموع. الخطاب الذي يمكننا أن نتعلّم تهذيبه، نتدرّب على صوغه، بناءً لا هدماً، حبّاً في نواتنا-الجوهر، ويمكننا أن نتمرّن على جعل الإنصات المتعاطِف شريكاً فاعلاً لكلمات سرية يقولها كل منا لنفسه، ولا يسمعها إلّاها. هذا الخطاب.. حِوار أُمومي.. واليوم عيده أيضاً.

الأمومة مفهوم. يتجاوز التسمية، والميدالية الخفية على صدور الأمهات. أبعد من ملعب الرعاية الشاسع الذي يبدأ يرتسم مع الإنجاب. الأمومة فكرة رحبة. رُزمة، ليست مكونة فقط من مهام ومشاعر ومشاريع بشر ينشأون في كنفها. بل تؤلفها أيضاً احتمالات ذاتية، أدوار مُتخيّلة وشديدة الواقعية في آن معاً. فواحدنا حينما يحادث نفسه، في سريرته، يطمئنها، يتفهّمها، يكلّمها من دون تقريع أو تفريغ لقيمتها.. فإنه في هذه اللحظات، لا يتوهّم، ولا يجنّ، ولا يكذّب الواقع. بل يحمي الطفل الأصل من الانجرار خلف عواهنه.. المؤذية أحياناً.. المؤذية له بالدرجة الأولى. بالدردشة الناعمة هذه، يحول دون انتحار الطفل المعنوي، ألف مرة كل يوم.

هكذا، بدأت "الأنا الأمّ"، وبكثير من الجدية، تغزو عوالم النفس وعلومها منذ سنوات قليلة. وهكذا، ربما، نوجِدها بدورنا، ونحترم صوتها الهادئ فلا نُحرَم منه.. بأن نقول لها اليوم: كل عام وأنت بخير، نتمنى أن تبقي داخل رؤوسنا وقلوبنا العُمر كلّه.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب