الخميس 2024/04/25

آخر تحديث: 17:31 (بيروت)

عرب المستقبل

الخميس 2024/04/25
عرب المستقبل
(الفنان المغربي Skyseeef)
increase حجم الخط decrease
أن تُدعى إلى صناعة المستقبل بيديك، حرفياً. أن تحلمه، أن تركّبه كيفما استشرفت، وبمطلق الحرية. هذه فرصة خيالية، صدقاً ومجازاً. امتياز للشباب الذين يمتد أمامهم من المستقبل، أكثر مما انطوى خلفهم من الماضي. فكيف يستثمرها فنانون عرب؟ ما هو المستقبل في عيونهم، وكيف يعبّرون عن بصيرتهم ورؤاهم بلغة الخيال العلمي والتخييل المحض؟ الفرصة يتيحها، لزواره أيضاً، معهد العالم العربي في باريس من خلال معرض Arabo Futurs  أو "نحو المستقبل".

بيد أن أسئلة لا تخلو من الشوك ترافق الجولة على تجهيزات وأعمال فيديو ولوحات الفنانات والفنانين العرب في الصالة. أبرزها، وأبسطها: هل هذا هو المستقبل؟ هل هذا هو المشتهى، المنشود، المتوقع تفاؤلاً أو تشاؤماً؟ أم أنه الماضي والحاضر بأدوات فنية مستقبلية؟ وهل يستتب هذا من دون تلك؟ هل كان يجب أن ينفصلا، أم أنهما حُكماً متشابكان؟

كأننا هنا محظيون بمنظار سحري يُرينا ما يعتمل في دواخل شباب عرب مشتغلين بالفن. معظمهم أو كلهم في الاغتراب والمهاجر، وقد بدوا أقرب إلى توظيف المفردات البصرية المستقبلية من أجل التقاط امتياز النقد، أو اجتراح الحلول لمعضلات الحاضر، المستجد منها كما الموروث. يبدو المستقبل هنا غاضباً من الحاضر، أو إجابة عليه. كأن المستقبل لن يأتي ومعه مشاكله التي من زمنه. كأن الماضي والحاضر باقيان إلى الأبد. وكلما أوغلت في التجوال بين الأعمال المعروضة، كلما ألحّت عليك تيمة خاصة بك: لعله لا فكاك لهؤلاء الشباب. ليس فقط من الأمس واليوم. بل أيضاً من ذهنيتهما، سواء كانت أفكاراً ضاغطة، أو مواضيع ناشبة كالموضة في مدارات الفن والثقافة المعاصرَين.

ولعل وجود هؤلاء الفنانين خارج أوطانهم الأصلية، للدراسة والعمل والعيش، يطرح في حد ذاته إشكاليات موازية لما اختاروا طرحه في مستقبلهم هذا. فالأرجح أنهم، لولا هجراتهم تلك، لما تسنت لهم الإمكانات اللازمة لهذا البوح والانفلات الذي لا يبلغ مداه، وبموازاة نقدهم لمجتمعاتهم الجديدة ربطاً بأوطانهم المتقادمة، بل ربما دون تلك الأوطان. والأرجح أيضاً أنهم، وبسبب هجراتهم، ظهروا أكثر ميلاً إلى المصطلحات المفاهيمية والفنية الرائجة والمستقطبة للقيمين على صالات العرض... من مخيمات المهاجرين/اللاجئين، إلى الحروب والاستعمار والاحتلال والهويات.

مجدداً، هل هذا هو المستقبل؟ الحاضر معاداً تدويره، هارباً إلى الأمام؟ هل فشل هؤلاء الشباب في اختبار تصوّر غدهم، غدنا جميعاً؟ أم نجحوا بتفوق لدرجة يصعب معها ابتلاع هذه المرارة كلها؟
***


تلجأ المغربية مريم بناني، إلى عالم ديستوبي، حيث يحل "النقل الفوري" teleportation محل الطائرات. وعبر شخصية التمساح "فيونا"، تخبرنا قصة جزيرة تم تحويلها إلى مخيم للاجئين، حيث يقيم مهاجرون غير شرعيين أوقفهم الجيش الأميركي. هنا تيمات الهجرة، المنفى، العِلم والجمال، وأسلوب الحياة المغاربية، في سياق الواقع الفائق الذي يغلف حفلة عيد ميلاد في الحي المغربي في الجزيرة. نظرة نقدية إلى مفهوم الحدود، مجتمعات السيطرة، أو النيوليبرالية، بحكس الفكاهة وخوارق الطبيعة.



المغربي "سكايسيف" Skyseeef، يزور هو أيضاً تيمات الحدود، لكن بالسيارات الطائرة التي ينتظرها العالم منذ عقود، ولعلها باتت على وصول فعلاً إلى الأسواق كما تخبرنا المواقع العلمية. لكنه لا يصور سيارات "مستقبلية" مدججة بالتكنولوجيا، بل يستحضر السيارات المعاصرة، بل والمُستعادة من سبعينات القرن الماضي، تلك التي ما زالت تستخدمها الفئات الاجتماعية الأكثر تواضعاً، وأحياناً شاحنات وحافلات صغيرة، نازعاً عنها عجلاتها، جاعلاً لها ارتفاعاً انسيابياً طفيفاً فوق الأرض. يريد "سكايسيف" إبراز هوية ثقافية مغاربية مرئية، في مستقبل متحرر من الهيمنة، على تخوم حدود ممحية، منزوعة الآثار الاستعمارية. بسياراته الطائرة تمسي الحركة الحرة، حركة اليوم وسيارات اليوم، هي نفسها للغد المقبل، تتحرر من العجلات، وتحلقّ.



أما السوري أيهم جبر، فيقدم سلسلة صور بعنوان "دمشق تحت الحصار". سماء دمشق محتلة بالمركبات الفضائية، ورسالة من زوار الفضاء الخارجي تقول: "لقد جئنا لكم بالسلام"... فيما المركبات هكذا في علاها، شكل من أشكال التهديد. بأسلوب قصص الخيال العلمي المصورة، يروي الحرب. إنه العنف وقصف السماء للأرض السورية... لكن، هل يقصفها ويحاصرها "الأغراب"؟ أم أنهم أبناء جلدتها الذين يغتالونها وكأنهم ليسوا من ناسها؟ لا نعرف بالضبط، لكن المَشاهد تبقى مدهشة ورهيبة في آن واحد.



صوفيا الماريا، القطَرية الأميركية، وفاطمة القادري، الكويتية الأميركية، تستكشفان الرأسمالية الفائقة في المولات التجارية، والتجارب الاستهلاكية التي تتضمنها. بالمونتاج الفوتوغرافي تحللان مراكز تسوق وفنادق فارهة، لاعبتَين بعناصر ثقافة البوب وأضواء النيون التي تأخذنا إلى فضاءات محسوسة بشكل مختلف، مُبرزة الخصائص التي أرادتاها مصطنعة لتلك الأماكن.



ويقرر الفرانكو-مغربي، منير عياش، الذهاب إلى الروابط التاريخية بين الماضي والحاضر والمستقبل. يجعل شخصية حسن الوزان، المعروف بـ"ليون الإفريقي"، جزءاً من لعبة فيديو، حيث يتقمصها اللاعب-المتلقي بمجرد أن يمسك عصا التحكم، ويذهب متلبساً بها إلى القرن الـ26، فنكتشف جغرافيا فانتازية مستقبلية محفوفة بالإحالات إلى العمارة الإسلامية، أو بمنحوتات ثلاثية الأبعاد، مع خلفيات ثابتة ومتحركة. الافتراضي والحقيقي يتعانقان ويتمازجان، في محاولة لإعادة امتلاك المتخيل من التجارب والهويات العربية.



لوحة الفنان(ة) الفلسطيني(ة)، غابي سحار، لا شيء عضوياً فيها، لا شيء عضوياً يحتل مساحة في ذلك العالم فائق الحداثة وموحّد المعايير. هنا عنف مجتمعاتنا، وتنافسيتها.



أما الفلسطينية لاريسا صنصور، والدنماركي سورين ليند، فينجزان معاً فيلماً تركيبياً يقدم نفسه كوثائقي خيالي مستوحى من تسييس علم الآثار في فلسطين/اسرائيل. يجمع لقطات من الحياة الواقعية والصور المولدة بالكومبيوتر والصور الفوتوغرافية الأصيلة، لاستكشاف دور الأسطورة والتناوب على كتابة التاريخ وخلق الهويات. هكذا، تقوم مجموعة من "المقاومين" بدفن قطع خزفية في الأرض، مزينة بزخارف الكوفية الفلسطينية. هذه جماعة تنشد التأثير في التاريخ. وبمجرد اكتشافها، ستكون هذه الخزفيات شاهدة على وجود "الشعب المزيف"، ومن خلال ترسيخ مثل هذه الأسطورة، يصبح الإجراء الذي قامت به هذه الجماعة تدخلاً تاريخياً. هل هي المأساة الفلسطينية التاريخية، مقلوبة؟ معضلة الآثار العربية والفلسطينية ومزاعم هيكل سليمان وغيره، معكوسة مستقبلاً لإثبات الحق الضائع راهناً؟ هل تحقق انتصار ما أم هزيمة ساحقة؟ أم أنها أحجية "ماذا لو...؟". المؤكد أننا هنا أمام الكثير من التهكم المتخيل إزاء مقولات الاحتلال عن "أرض بلا شعب"، والسخرية حينما تأتي من المستقبل تبدو أكثر سوداوية، وتجرح حيث يجب. 



ويبقى مكان لتيمات غير سياسية، بيئية حالمة إن جاز التعبير. يحلم فنانون بأن يصبح التواصل مع الطبيعة والكائنات الحية أمراً معقولاً في المستقبل الذي لن يتمحور حول الإنسان وحده. اللافت إن إحدى الضالعات في هذا العنوان، لبنانية، هي هالة شقير التي تبدو كمن قطع كل القيود مع الحاضر اللبناني المعقّد والأليم، لتتهادى في عالم آخر، كونيّ، ومع ذلك لا يبتعد كثيراً عمّا يلمّ بلبنان من تصحّر، وكذلك لا ينحصر فيه. ولم لا؟ فكرة المستقبل إذ نشكّله كيفما أحببنا، قادرة على مدّنا بمثل هذا الترف وهذه المتعة. هكذا، "تتحدث" شقير بلغة تصويرية عضوية، ويسعى عملها الدقيق إلى تضخيم التكرار اللامتناهي.. تكرار يوتوبي على الأغلب. عوالم عضوية أو عصبية أو حتى مائية تستدعي لوحات سوبر-كونية مغايرة، تتأرجح بين الغاية في الصِّغَر والكِبَر. علاقة حميمة غير محسوسة للحفيف الدائم في العالم العضوي، والذي غالباً ما نهمل أصواته وتراكيبه. كائنات فيزيائية، متحولة وشاعرية، ومرادفة للأمل ولحيوات جديدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها