السبت 2024/05/04

آخر تحديث: 22:23 (بيروت)

"بتشرب شي؟"...وفظاعات أخرى

السبت 2024/05/04
"بتشرب شي؟"...وفظاعات أخرى
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
بعد القبض على عدد من أفراد عصابة اغتصاب الأطفال، وخلال الأيام القليلة التي تلت تفجّر التفاصيل المرعبة لهذه الحكاية، كان راشدون ما زالوا يقلّدون تلك التفاصيل، وما زال أطفال يُستغلون فيها... بفيديوهات "النكتة"! تنويعات عديدة على "اسكتش" تمثيلي، حيث يدعو رجل بالغ، طفلاً أو مراهقاً إلى دخول صالون حلاقة، فيما الطفل يُبدي تخوّفه المصطنع، وأحياناً بألفاظ بذيئة من النوع المستخدم في النكات السوقية على زعم استدراج القهقهات. وفجأة، في الفيديو، يعرض الحلاق على الطفل في صالونه: "بتشرب شي؟"، وهي العبارة التي كان أحد أفراد العصابة الموقوفين يستخدمها لجرّ الأطفال إلى تناول ما يخدّرهم. وفي الفيديوهات الاستهزائية، يكفي التلفّظ بهذه العبارة المفتاحية ليهرول الأطفال خارجين من المكان... ويفترض أن يضحك المشاهدون، ويفترض أن يضعوا علامات الإعجاب، ويفترض ان يتداولوا هذه السماجة التي تبلغ من السفالة ما يجعلها انتهاكاً افتراضياً جديداً للأطفال الضحايا في القضية، وللأطفال "الممثلين" فيها أيضاً!

استمر ذلك أياماً، والأيام في مثل هذه الحالات تساوي دهراً... إلى أن كلّفت القاضية الناظرة بقضايا الأحداث، جويل أبو حيدر، مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، بحذف عدد من الحسابات في "تيك توك" وواحد في "انستغرام"، "بعدما تبيّن أنّ أصحابها يقومون بإنزال فيديوهات مع قصّر تستهزئ بما حصل مع الضحايا"، ولم تُعرف بالضبط الآلية التي ستُعتمد لتنفيذ هذا القرار.

معضلة حماية الأطفال والقاصرين، في الإنترنت عموماً، ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً، عالمية. هذه الجريمة في لبنان ليست حالة استثنائية، ليس من حيث المبدأ. لكن الاستثناء اللبناني هو افتقاره لكل الوسائل التي تستخدمها الدول والقوى المجتمعية لحماية الأطفال، بل لحماية المواطنين عموماً. الاستثناء اللبناني هو اهتراؤه، رغم صحوات متفرقة لأجهزة الأمن، وبكفاءة متفاوتة، ومنها الإنجاز الأخير بكشف عصابة تخدير واغتصاب وابتزاز الأطفال.

فالجريمة المُكتشفة حديثاً، مستمرة منذ سنوات، مسرحها الأساس هو الفضاء الإلكتروني. وهذا جوهر مهام مكتب جرائم المعلوماتية الذي أُغرق، خلال السنوات الأخيرة، بملفات استدعاء ناشطين وصحافيين وفنانين، على خلفية رأي هنا، تجرؤ على "مقدسات" هناك، أو "شتيمة" لشخصية عامة أو نافذة. حتى بات "القدح والذم" تعبيراً فضفاضاً قادراً أحياناً على التهام الحق في النقد العلني لمسؤولين وسياسيين وحتى مشاهير، فيما انخرط المكتب، أو دُفع إلى الانخراط، تارة في حسابات سياسية وطوراً كيدية. التعامل مع الابتزاز الالكتروني ومجرمي اصطياد الفئات الأضعف، لا سيما الأطفال والنساء، هو بالتعريف من أبرز المهام التي أنشئ من أجلها المكتب والذي يملك تقنيات وإمكانات تُعتبر جيدة. اللبنانيون يتمنون اليوم أن يستعيد مكتب الجرائم المعلوماتية زخمه في الاتجاه الصحيح.

والإعلام... جريدة لبنانية "عريقة" تنشر قصيدة مديح وشوق كتبها وزير حالي وأهداها للأب منصور لبكي. يعرف القاصي والداني أن الكاهن مُدان في القضاء الفرنسي وفي سجلات الفاتيكان، بالتحرش بأطفال واغتصابهم(ن)، بل وجُرّد من رُتبه الدينية. وكأنه لا يكفي أن المعادلات الطائفية في البلد أبقته خارج السجن، فقد وجد من يدافع عنه، من شخصيات عامة وجماهير.. وها هو وزير ما زال في منصبه، أحد ممثلي الحكومة والدولة ومؤسساتها، لا يردعه رادع عن تدبيج عيون الكلام، للمُغتصِب، ويجد جريدة لا تتحرج من النشر.

ونرى "إعلاميين" من صنف الإثارة والتشويق اللذَين تدلّ عليهما عناوين برامجهم، يثابرون على استضافة حثالة السوشال ميديا، والحالات الفاقعة والأكثر تطرفاً في المناحي كافة، حتى الحقوقية. يستضيفونهم طمعاً في الاستفادة من ترنداتهم ومتابعيهم، مساهمين في زيادة شهرتهم، بموازاة خلق ترندات إضافية للمذيعين والمذيعات وتحقيق "راتنغ" أعلى للبرامج. فمفهوم النجاح انحدر إلى الانتشار معياراً وحيداً، الانتشار الصرف. وسقطت التسلية إلى مصاف الرثاثة، نفايات الإضحاك والأدرينالين. وحصل أن أحد مجرمي عصابة اغتصاب الأطفال، كان قد حلّ ضيفاً "كوميدياً" على أكثر من برنامج. وإن قيل أن الإعلاميين وقتها ما كانوا ليعرفوا، فماذا عن الحلقة الموعودة، الأسبوع المقبل، مع أحد كاشفي أطراف العصابة؟ هل هو "المصدر" المؤهل والمخوّل لكشف المزيد للرأي العام، وعبر البرامج الواعدة دوماً وأبداً بحلقات "ساخنة"؟ هل عُرف ما يكفي عن خلفية الضيف وعلاقته بالملف، قبل منحه الشاشة والهواء والوجدان العام؟

والأهل.. يلجأ بعضهم إلى الانترنت والأجهزة الذكية لإلهاء أولادهم، ولا يعرفون بالضبط كيف وأين يبحر الصغار في العالم الافتراضي، ومَن يتواصل معهم عبره. بل يمضون هم أنفسهم أوقاتاً طويلة أمام الأجهزة عينها، ينثرون الصور والفيديوهات لأطفالهم بلا وقفة للتفكير في من سيرى هذه الصور ومآلات استخدامها. أما الأولاد الذين نالوا قسطاً من الحرية لم تواكبه حماية الأهل والقانون والتوعية المدرسية، سواء في العالم الافتراضي أو الحقيقي، فقد يقصدون وحدهم مصوراً من أجل جلسة تصوير "غرائبية" روّج لها عبر حسابه في "تيك توك" أو سواه، ربما طمعاً في مشاركة هذه الصور في بروفايلاتهم، أو تصوير إعلانات مقابل المال، فهم أيضاً يحلمون بالتريند والإعجابات. هذا المصوّر، يُرجّح أنه صوَّر أيضاً واقعات اغتصاب. والحلقة الجهنمية المفرغة لا تتوقف.

"تيك توك" في حد ذاته ليس المشكلة، رغم أنه أخطر من سواه بين المنصات الاجتماعية (ولا ننسى ألعاب الفيديو) من حيث معايير الأمان المنخفضة، ما يدفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ اجراءات أكثر صرامة معه من فايسبوك وانستغرام وسنابتشات وغيرها، إضافة إلى الحد العمريّ الأدنى الذي يسمح به "تيك توك"، بل وتجد أولاداً أصغر من ذلك بكثير موجودين فيه. لكن المشكلة أعقد وأوسع، ومنع "تيك توك"، رغم أنه يبدو مغرياً كفشّة خلق، ليس الحل.

قالت لجنة خبراء شكلها الرئيس إيمانويل ماكرون، مؤخراً، إنه يتعين على فرنسا الحد من استخدام الأطفال والمراهقين للهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وسط قلق عالمي متزايد بشأن تأثيرها السلبي في العقول اليافعة، وخطرها النفسي والجسدي عليهم، وتحركات تشريعية على مستوى الاتحاد الأوروبي كله. وأفاد تقرير اللجنة إنه يجب منع الأطفال دون سن 11 عاماً من امتلاك هاتف محمول، وحظر استخدام الهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت لأي مستخدم يقل عمره عن 13 عاماً، إضافة إلى حظر تطبيقات الوسائط الاجتماعية على أي شخص يقل عمره عن 15 عاماً، مع محاولة ضمان ألا يتمكن القاصرون الذين تزيد أعمارهم عن 15 عاماً من الوصول إلا إلى المنصات التي تعتبر "أخلاقية"، وذلك عبر تكليف المشرعين بتحديد المنصات التي يمكن اعتبارها كذلك.

لا جدول زمنياً للتشريع الجديد، وليس من الواضح إلى أي مدى ستُتّبع توصيات الخبراء التي تحول دونها معوقات تقنية وتحديات كثيرة لها علاقة بخصوصية البيانات وسهولة التحايل على القيود. يقول توماس رومير، رئيس ومؤسس المرصد الفرنسي للتربية والتعليم الرقمي، إن حوالى 19% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و10 سنوات قالوا إنهم يستخدمون "تيك توك"، ما يجعل تغيير هذا الاتجاه صعباً. ويضيف أنه "لا يؤمن بالقيود بل بالتنظيم والتوعية".

لم تُحلّ المشكلة بعد، وربما لن تُحلّ في وقت قريب، لكن على الأقل هناك من يقوم بالبحث والتفكير والحديث عن الموضوع في أكثر المحافل والمؤسسات جدية وتأثيراً... فيما اللبنانيون يتفرجون على مصائبهم في التلفزيونات، ويستقون أحدث التسريبات من مجموعات "واتسآب".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب