الثلاثاء 2024/02/06

آخر تحديث: 13:34 (بيروت)

شربل داغر... كيف كان لصفوان أن يرقص مثل فراشة؟!

الثلاثاء 2024/02/06
شربل داغر... كيف كان لصفوان أن يرقص مثل فراشة؟!
increase حجم الخط decrease
"وهناك صفوان، في دفعتي، الذي ما كان يصرِّح حينها عن أنه يكتب الشعر. كان الشاب البعلبكي مولعًا بالمسرح، وبالسيجارة على أنواعها، ما كان يشتريه أو يعدُّه بنفسه. كانت له غرفة مستقلة في بيت أهله، القريب من تمثال بشارة الخوري، في "رأس النبع"، ولها باب مستقل، ما كان يتيح لنا، حسن وأنا، أن نزوره من دون أن تقلقنا أمه ذات الصوت العالي، وذات الحضور المتشدِّد بعد وفاة رب العائلة. كنا نلتقي في غرفته، نحن الثلاثة، أو مع جهاد الزين، الذي فاجأنا بإحدى قصائده عن "الشرخ"... كان صفوان يسلينا، ويربكنا أحيانًا، من دون أن نتيقن من حقيقة ما كان يُقدم عليه من أفعال ومواقف، كانت تصدمنا بقدر ما كانت تسلّينا. هذا ما أضحكنا، عندما وجدناه ينتعل كلسات خاصة براقصي وراقصات "الباليه"، وهو ما كان يتدرب عليه في بعض تمارين المسرح في "معهد الفنون". هذا ما جعلني أتندر معه: كيف لهذا الهيكل الضخم أن يرقص مثل فراشة؟!

إلا أنه أربكَنا، حسن وأنا، عندما ناداني أسعد، أمام هاتفه الوحيد، وطلبَ مني الرد على مكالمة صفوان: تعالْ بسرعة... سأُقدم على الانتحار! انتقلنا على عجل، من دون أن نصدق بالطبع حديثه. كانت المفاجأة، عند دخولنا إلى غرفته، أننا وجدنا أمامه، فوق مكتبه، كمية كبيرة من علب السجائر. فكان أن سألَه حسن: ما الذي تنوي القيام به؟ فأجاب من دون تردد: سأدخن، ثم أنتحر... فكان أن تابع حسن مفاكهته لصفوان: علينا أن نعود، إذًا، في الغد... أنت تحتاج إلى ساعات وساعات قبل الوصول إلى لحظة الانتحار.

ضحكنا، بالطبع، لكن بدا السهر المتغضن معتمًا في عيني صفوان. كان هناك حزن، بل عبوس، ما كَفَت دعاباتنا لتبدِّده؛ وما ارتحنا إلا بخروج صفوان معنا إلى الكلية (...).
صفوان وحده لم يلتقِ بأي واحد منا، لا في غداء، ولا في "الواتس"، مع أن أخباره بلغت بعضنا، عدا أنه كان ينشر مقالات أدبية في جريدة "السفير" قبل توقفها النهائي.

صفوان سألَ عني على صفحات "ملحق" جريدة "النهار" الأدبي، إذ بلغَه خبر عودتي إلى لبنان، فيما كان مقيمًا في سجن رومية. هذا ما كشفتْ عنه صحافية لبنانية، هدى سويد، في تحقيق أثار ضجة صاخبة بين المثقفين والكتاب. كان صفوان عليل النفس منذ سنوات بعيدة، ما ظهر في سنوات الدراسة، خاصة لي، الأقرب إليه في الصف. غير أنه لم يجد العلاج النفسي المناسب له؛ وهو إذا كان قد حصل عليه، لا يلبث أن يتخلى عنه، من دون متابعة من أحد. 
أُخرج صفوان من السجن المركزي إثر الضجة، وجرى وضعه في "مستشفى دير الصليب"، وقمتُ، حسن داوود وأنا، بزيارته، من دون أن ينتظم الحوار بيننا تمامًا. ما كنا لنصدق –كما في أيام الجامعة– أنه عليل النفس: هذه مسرحية جديدة من مسرحيات صفوان، كنتُ أقول لحسن، أو يقول لي، خصوصًا وأنه كان يدرس المسرح بشغف ومتابعة في "معهد الفنون"، إلى جانب دراسته العربية معنا. وما كان هو، بدوره، يصدق أنه عليل النفس، ويحتاج إلى متابعة نفسية وعلاجية مستدامة. كنا نظن أنه يلهو، وكان يظن –على الأرجح– أننا لا نقر بألمعيته.

لم ينقطع صفوان عني، ولم أنقطع عنه، على الرغم من تباعدنا الجغرافي. كان يتتبع أخباري، على ما عرفت، وكنت أتتبع أخباره بدوري. وإذا كانت هيئته تغيرت بعض الشيء، بخلاف الآخرين، كما تحققتُ بنفسي، فإن صوته لم يفارقني. بل تعرفت إليه من دون وجه.

كنتُ، في مقهى "كوستا"، في أول الحمراء، مع مترجم ألماني، سبستيان هاينه، الذي كان يريد التعرف إلى سياقاتي الثقافية والأدبية والإنسانية، قبل الشروع الجدي بترجمة مختارات من شعري، مع الشاعر والمترجم سرجون كرم، إلى الألمانية. كنا نتقابل أمام طاولة فوق رصيف المقهى، عندما بلغني صوته القوي، صوته المدرَّب مسرحيًّا. ما كان يخاطب أحدًا منا، من روّاد المقهى، بل كان يتوجه إلينا. كانت حرب اليمن في اشتدادها الأول مع الحوثيين و"قوات التحالف". كان صفوان يتقدم المَلّالات ويحرِّض على القتال. هذه المرة بالكلام، بخلاف ما حصل معه في صيف العام 1982، عندما خرج إلى الشارع (على ما بلغني)، وواجه دبابة إسرائيلية، طالبًا عدم تقدمها، في نقطة غير بعيدة عن كليتنا...

يومها، بلغ صفوان طاولتي، بل وضع يده اليسرى على كتفي الأيمن، فأدرتُ رأسي، والتفتُّ إليه مبتسمًا. لعله تنبه إلى جلوسي في المقهى، لكنه لم... يَرَني واقعًا. كان يريد الاتكاء وحسب... قبل متابعة مشيه العالي في شارع الحمراء (...)".

(*) مقتطف من كتاب شربل داغر "الخروج إلى الشارع"، الصادر حديثًا عن "دار المتوسط"، في ميلانو.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها