الأحد 2023/04/02

آخر تحديث: 08:16 (بيروت)

من ذاكرة الستينات-10:الحركات اليسارية

الأحد 2023/04/02
من ذاكرة الستينات-10:الحركات اليسارية
ياسين الحافظ
increase حجم الخط decrease
عندما يكون المستقبل قاتماً، كئيباً إلى هذا الحد، يصبح الترحال في الماضي القريب، علاجاً نفسياً أكثر مما هو تنقيبٌ عن الدروس والعبر. القول إننا كنا هناك، في فترة الستينات، باشراقاتها واحباطاتها، لا يعكس الرغبة بالعودة إلى الوراء. بل مجرد التوكيد على أننا لا نستطيع أن نظل هنا، في عشرينات القرن الحالي من دون ذكريات، يستعيدها الدكتور خالد زيادة، بلغة المثقف، ودقّة المؤرخ، وشغف الباحث... عن مستقبل"... بعد الحلقة الأولى والثانية والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة، والتاسعة، هنا العاشرة.


شهد عقد الستينات تقاربًا بين التيار القومي العربي والأحزاب الشيوعية، وذلك تحت تأثير عوامل عديدة، منها تبنّي جمال عبد الناصر الاشتراكية عام 1961 التي تُرجمت بتأميم الملكيات الخاصة، والتقارب مع الاتحاد السوفياتي. ومنها تسرّب الأفكار الماركسية إلى داخل حزب البعث وقد ظهر ذلك جليًا في المؤتمر السادس للحزب (دمشق 1963) من خلال التقرير الختامي الذي كتبه ياسين الحافظ، الذي انشق لاحقًا عن البعث مع علي صالح السعدي وحمود الشوفي، وأسسوا "حزب العمال الثوري العربي"، الذي تبنّى الماركسية وعمد إلى صياغة فكر ماركسي عربي. مما يعني الابتعاد عن الشيوعية السوفياتية آنذاك.

وإذا عدنا إلى تلك الفترة سنجد أن الانشقاق عن الشيوعية السوفياتية قد ظهر في أوروبا، وتمثّل في ابتعاد كبار المثقفين (مثل جان بول سارتر عن الحزب الشيوعي الفرنسي) ونقدهم لممارسات النظام السوفياتي. وبروز تجارب ماركسية كان لها وقع عالمي مثل التجربة الصينية وخصوصًا بعد الثورة الثقافية (1966) والغيفارية (1967) إضافة إلى أحداث مثل احتلال السوفيات لتشيكوسلوفاكيا (1968) وثورة الطلاب في فرنسا في السنة نفسها.

وفي لبنان ظهرت أول جماعة يسارية تبنّت الماركسية تحت اسم "لبنان الاشتراكي"، مكوّنة من مجموعة من الخريجين الجامعيين أو على عتبة التخرّج تدور أعمارهم حول 24 سنة، تميز أفرادها أو بعضهم بمعرفتهم بالأدبيات الماركسية غير السوفياتية، وكان بعضهم قد انسحب من حزب البعث الذي كانت تعصف فيه الصراعات بين القيادة القطرية والقيادة القومية ليصبح حزبين سوري وعراقي. وقد أصدرت جماعة "لبنان الاشتراكي" نشرة مطبوعة على "الستانسل" تحمل الاسم نفسه، تميزت موضوعاتها من مقالات ودراسات باعتنائها بقضايا المجتمع اللبناني، فلا بدّ أن نأخذ هنا في الاعتبار مناخ اللبننة الذي أحدثته الشهابية، الذي كان له أثره في لبننة اليسار. إلا أن جماعة لبنان الاشتراكي التي كان أعضاؤها يتخذون أسماء مستعارة- على عادة الأحزاب السرية- وخشية من مراقبة المخابرات التي عرفت آنذاك باسم "المكتب الثاني". نشط مثقفوها بترجمة بعض الأعمال عن الفرنسية أو الإنكليزية، والتعريف بالمفكر الشيوعي الايطالي أنطونيو غرامشي، وكانت لديهم الجرأة في تقديم ترجمة جديدة "للبيان الشيوعي" لماركس وانجلز غير تلك التي توزعها بكثافة وبسعر رمزي دار التقدم في موسكو.

وقد حدث انشقاق داخل الحزب الشيوعي، تعود بعض أسبابه إلى مسائل تنظيمية وتحت تأثير العوامل التي أسلفنا ذكرها. فظهر ما عُرف آنذاك باتحاد الشيوعيين الذي نشط في بيئة الجامعة اليسوعية ومدرسة الآداب العليا. إلا أن هذا الفريق من الشيوعيين المنشقين لم يترك أثارًا أدبية ولم يكتب تاريخه القصير المدى.

والتحوّل الكبير نحو اليسار شهدته "حركة القوميين العرب"، التي كانت تُصدر في بيروت جريدة الحرية الأسبوعية، وذلك تحت تأثير الاشتراكية الناصرية، وترجم ذلك بالتحالف مع الحزب الشيوعي والحزب التقدمي الاشتراكي. إلا أن التحول صوب الماركسية حدث بعد هزيمة حرب حزيران، وابتعاد الحركة عن الناصرية وإعادة النظر بتجربتها، ومع بداية عام 1968 تشكلت وعلى نحو سري كالعادة، ما سمي بـ"الفصائل الماركسية" ولم تمض سوى أشهر حتى وُلدت منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، وصدر الإعلان عنها في كتاب صدر عن دار الطليعة تحت عنوان "لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين؟" بتوقيع محسن إبراهيم. وكان ذلك بمثابة إعلان عن حلّ حركة القوميين العرب التي كان تنظيمها الفلسطيني قد أعلن قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، والذي أصبح أمينًا عامًا لمن تبقى من القوميين العرب، الذين شكلوا حزبًا باسم "حزب العمل الاشتراكي العربي".

وسرعان ما جرت مفاوضات بين منظمة الاشتراكيين اللبنانيين والأطراف اليسارية النشطة، جماعة لبنان الاشتراكي واتحاد الشيوعيين، أسفرت عن ولادة "منظمة العمل الشيوعي"، التي أصبحت الناطقة باسم اليسار الجديد من خلال صحيفتها "الحرية". إلا أن ذلك لم يمنع ظهور جماعات يسارية أخرى مثل الماويين ودعاة الثورة الفلاحية والثورة الثقافية، أو التروتسكيين والأممية الرابعة، الذين كانت لهم أيضًا نشرتهم السرية. وكل ذلك تحت تأثير حركات اليسار في أوروبا والثورة الطلابية في فرنسا أيار 1968، كانت حركات اليسار اللبنانية منظمات من الطلبة الجامعيين والمدارس الثانوية يقودهم أساتذة ثانويون يمنون أنفسهم باستقطاب العمال وأبناء الفقراء بارتيادهم المناطق والضواحي التي تحيط بيروت.

ولا يمكن أن نفصل ولادة "منظمة العمل الشيوعي" عن تأثير المقاومة الفلسطينية، فالمنظمة كانت متحالفة مع الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة الذي انشق عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. إلا أن هذا التحالف سرعان ما أصبح مدار تساؤلات عن غرق "المقاومة اللبنانية" في "المقاومة الفلسطينية". وربما كان هذا أحد أسباب انسحاب بعض الأعضاء من المنظمة. ولم يكن عمر المنظمة قد جاوز السنتين أو ثلاث سنوات حتى بدأت الانشقاقات المتتالية، وأولئك الذين دخلوا جماعات خرجوا منها أفرادًا، ومع ذلك فإن المنظمة صمدت وواصلت تحالفها مع الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي، إضافة إلى أحزاب أخرى وشخصيات وطنية. وبعد عدوان إسرائيل على لبنان عام 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، صار الانكفاء أفضل السُبل لتفادي الأسوأ. في الوقت الذي كان بريق اليسار قد بدأ بالانحسار.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها