الأربعاء 2024/01/17

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

طرابلس والحداثة.. علاقة إشكالية مع بيروت والدولة

الأربعاء 2024/01/17
طرابلس والحداثة.. علاقة إشكالية مع بيروت والدولة
طرابلس(تصوير ادريان بونفيس حوالي 1890).
increase حجم الخط decrease
في العام 1917، وقبل نهاية الحرب العالمية الأولى، صدر كتاب بعنوان ولاية بيروت أعدّه موظفان في إدارة ولاية بيروت، بتكليف من الوالي عزمي بيك. وقد قام المؤلفان رفيق التميمي ومحمد بهجت بجولة دراسية في كل المناطق التي تضمها الولاية من اللاذقية شمالاً إلى جنوب عكا. والكتاب عبارة عن مسح شامل تاريخي وجغرافي واقتصادي وسكاني وغير ذلك لكل مناطق الولاية.

وعند وصولهم إلى الكلام عن طرابلس يبدآن بالعبارة التالية: "إن طرابلس هي أبهى بلدة على ساحل سورية". ويضيفان: "إن طرابلس هي معرض فخم للبدايع والمحاسن والأحجار الكريمة". وبعد أن يسهبان في الكلام عن طبيعتها يقولان: "لا بلدة في سورية تستطيع أن تفاخر بمناظرها الوافرة كطرابلس، ولا تكون غنية مثلها، أما دمشق فوأسفاه ليس لديها بحر. وبيروت أيضًا التي هي ملكة سواحل سورية لم تكن غنية بالبدايع بهذه النسبة".

يشتمل التقرير عن مدينة طرابلس ما يزيد على ستين صفحة يتناول موضوعات من الطبيعة إلى العمران إلى الاقتصاد إلى التعليم إلى الصناعة والمعتقدات وغير ذلك، فهو مرجع فريد عن تلك الفترة السابقة لنهاية الحرب العالمية الأولى. نتعرف من خلاله على طرابلس قبل ما يزيد على مئة سنة. وبالإضافة إلى الحديث عن آثار طرابلس ومساجدها وتاريخها منذ القدم. يتوقف الكتاب عند التحديث الذي عرفته طرابلس في العمران والمؤسسات، يشير الكتاب إلى موقع القبّة الذي هو بمنتهى اللطافة، وهو المكان المرغوب من الطرابلسيين، فالبيوت التي شيّدت أعالي هذا الموقع متباعدة عن بعضها بصورة تفسح للهواء بالاسترسال. أما الموقع الآخر فهو التل الذي شيّدت فيه كل البنايات الفخمة التي تفتخر بها طرابلس، من دار الحكومة (السرايا) وبرج الساعة وروضة البلدة ودار البريد والقنصليات والفنادق ومركز الترام... ويمكن القول أن طرابلس الجديدة عبارة عن هذا الموقع. ولا يفتأ الطرابلسيون يترنمون بامتداح ما كان من حسن هذا الموقع قبل نشوب الحرب العامة، يزعمون انه كان يلتطم نهارًا بازدحام هائل من الناس والمركبات حتى لقد يعسر المرور فيه. أما في الليل فكان يُنار فيه أكثر من ستين مصباحًا تجعله غريقًا في لجة نور".

واقتبس أخيرًا هذه العبارة من الكتاب: "نعم لا تزال تبنى على حفافي شارع الترام (طريق الميناء) الأبنية المنتظمة، التي تناهت في الظرافة والمتانة. فإذا ثوبر على هذا الاعمار، وكثر عدد تلك المباني تترشح طرابلس أن تكون أول بلدة في سورية بخطوطها الداخلية أيضًا كما في مناظرها الخارجية".


(خالد زيادة وزهيدة جبور خلال الندوة)

بدأ التحديث متأخرًا في طرابلس بالمقارنة مع بيروت التي أصبحت مرفأً ناميًا مع دخول المصريين إلى بلاد الشام عام 1831، أما بداية التحديث في طرابلس فيمكن إرجاعها إلى زيارة والي سورية مدحت باشا عام 1879، وكان قبل عمل موظفًا اداريًا في دمشق قبل أن يصبح صدرًا أعظم ويكتسب اسم أبو الدستور العثماني. قام مدحت باشا بزيارة للمدن والمناطق في سوريا، وفي طرابلس نصح وجهاءها بإقامة خط الترام الذي يصل المدينة بالميناء كما نصح بإقامة بعض المرافق، وخلال أقل من أربعة عقود من الزمن أصبحت منطقة تل الرمل ساحة الحداثة في طرابلس، إذ أقيمت فيها كل المؤسسات والمرافق الحديثة مثل المصرف والقنصليات والمدرسة المهنية والمقاهي، إضافة إلى السرايا التي هي رمز السلطة والإدارة، وبرج الساحة الذي يرمز إلى الزمن الجديد. وانطلاقًا من التل بدأ العمران يتمدد في الاتجاهات المختلفة.

إلا أن التحديث لا يقتصر على العمران، فالتربية والتعليم عاملٌ أساسيٌ في تحديث الذهنيات والأفكار. قام الشيخ حسين الجسر بإنشاء مدرسة حديثة، هي المدرسة الوطنية عام 1880، إلا أن اسم "الوطنية" مصطلح جديد كان استخدمه بطرس البستاني الذي أسس المدرسة الوطنية في بيروت عام 1863. وفي عام 1881 تأسست مدرسة بكفتين الأرثوذكسية، ويبدو أن انشاء هذه المدارس كان رد فعل على إنشاء المدرسة الانجيلية في طرابلس عام 1868 ثم مدرسة الفرير 1878.

وقد عرفت تلك الفترة طفرة في بناء المدارس الحديثة. فالدولة العثمانية أقرّت نظام المعارف عام 1864، على النمط الحديث، وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني شهدت الولايات العربية تأسيس المدارس الابتدائية والرشدية والاعدادية والسلطانية في مراكز الولايات والمدارس العليا في استامبول. وكان في طرابلس من مدارس المعارف 11 مدرسة للبنين و4 مدارس للبنات.

كانت المدارس التقليدية في الكتاتيب أو المساجد، أما الذين يريدون التحصيل الشرعي والفقهي فكانوا يذهبون إلى الأزهر في القاهرة وأحد هؤلاء هو الشيخ حسين الجسر (1845-1909)، الذي درس في الأزهر مدة أربع سنوات وعاد سنة 1867، في وقت كانت القاهرة تشهد نهوضًا في مجال الصحافة والعمران في عهد الخديوي إسماعيل. وعاد ليمارس التعليم الديني. ولكن تأسيسه للمدرسة الوطنية التي لم تعش سوى سنة لأنها لم تحصل على اعفاء طلابها من الخدمة العسكرية، كان بداية دورة الإصلاحي والتحديثي، إذ انتقل إلى بيروت للتدريس في مدرسة المقاصد. وقد اكتسب الكثير خلال هذه الإقامة فقد التقى هناك بالشيخ محمد عبده رائد الإصلاحية الإسلامية. كما اطلع على الكتب العلمية التي كانت تترجم في الجامعة الأميركية وهذه التجربة هي التي أفادته في تأليف كتابه الأشهر الرسالة الحميدية.

وفي العام 1893، أسس محمد كامل البحيري أول مطبعة في طرابلس وأسس أول صحيفة طرابلس بتشجيع من الشيخ حسين الجسر الذي تولى تحريرها واستمر في الكتابة فيها حتى وفاته، ونشر فيها العديد من المؤلفات المتسلسلة... الشخصية الأخرى المجايلة لحسين الجسر هي جرجي يني (1854-1941) الذي درس لمدة سنة في المدرسة الانجيلية في طرابلس ثم التحق بالمدرسة الوطنية في بيروت. وعاد إلى طرابلس الوظائف الإدارية وألّف كتاب تاريخ سورية. وربما يعود ذلك إلى تأثره ببطرس البستاني الذي كان أصدر جريدة نفير سوريا. ويبدو أن فكرة سوريا كانتماء قد حصلت بعد أن أقرّت الدولة العثمانية إنشاء ولاية سوريا (بدلاً من دمشق) عام 1864، الممتدة من حدود حلب إلى خليج العقبة. كذلك ألّف يني العديد من الكتب وأصدر صحيفة المباحث بعد العام 1908.

أضيف إلى هذا الجيل الأول من الرواد الذين يعبرون عن الاتجاهات الجديدة الإصلاحية والتحديثية شخصية لم يتم الاهتمام بإنتاجها الأدبي أقصد عبد الحميد الرافعي (1851-1932) بلبل الفيحاء الشاعر والقاضي والإداري. درس على يد الجسر ومحمود نشابة وسافر إلى الأزهر ثم إلى استامبول وله العديد من الدواوين. نفي إلى المدينة المنورة وله ديوان المنهل الأصفى في خواطر المنفى.

(رشيد رضا)

أما الجيل الثاني من رواد العلم والثقافة في طرابلس فإنهم أكثر تنوعًا وتعبر اتجاهاتهم عن اتساع دائرة التعليم. وأول هؤلاء هو رشيد رضا (1865-1935) الذي درس على يد الشيخ حسين الجسر في طرابلس وتكون لديه الاتجاه الإصلاحي بسبب اطلاعه على مجلة العروة الوثقى. فقرر أن يهاجر إلى مصر ويلتقي بالشيخ محمد عبده ويصدر مجلة المنار وأصبح وريث الاتجاه الإصلاحي، وانتشرت المنار في أرجاء العالم الإسلامي. والرائد الثاني هو فرح أنطون (1874-1922) الذي درس في مدرسة بكفتين ثم قرر الهجرة إلى مصر أيضًا وأصدر مجلة الجامعة والتزم الاتجاه العلماني والدعوة الاشتراكية وكان له اطلاع واسع على الثقافة الفرنسية وله مؤلفات عديدة وترجمات وروايات أدبية ينبغي أن نذكر أن كل من الشيخ رشيد رضا وفرح أنطون كان لكل منهما التأثير المستمر حتى يومنا هذا. الثالث من أبناء الجيل الثاني هو الشيخ عبد القادر المغربي (1867-1956) الذي درس أيضًا على يد حسين الجسر، وهو من الإصلاحيين الذين ذهبوا إلى القاهرة بعد اطلاعهم على مجلة العروة الوثقى، ونشر مقالات في الصحف المصرية بعد ان قربه الشيخ محمد عبده. وهو إصلاحي ولغوي وله مؤلفات. انتخب عضوًا ثم رئيسًا لمجمع اللغة العربية في دمشق، وعضو المجمع اللغوي في مصر. وكان من دعاة تعليم المرأة. وله مؤلفات منها: الاشتقاق والتعريب، السفور والحجاب، الاخلاق والواجبات.

(فرح انطون)

من أبناء الجيل الثاني أذكر حكمت شريف يكن (1870-1948)، وهو كاتب غزير الإنتاج أصدر جريدة الرغائب بعد الانقلاب الدستوري عام 1908. أضيف إلى أبناء الجيل الثاني الدكتور عبد اللطيف البيسار (1875-1942) وهو أول طبيب متخصص درس الطب في استامبول وألمانيا. وبنى في طرابلس مستشفى وصارت له شهرة كبيرة بسبب تطبيب الفقراء كما أنه كان من رجالات الوطنية في طرابلس.

اما الجيل الثالث من الرواد الذين اتجهوا في العلم اتجاهات متفرقة أذكر أبرزهم: عثمان سلطان (1883-1958) درس الحقوق في استامبول وانتخب نائبًا عن طرابلس إلى المؤتمر السوري (إبان الحكم العربي) وكان عضو في لجنة صياغة دستور الحكومة العربية عام 1920، ثم عمل أستاذًا في كلية الحقوق في دمشق، له مؤلفات عديدة.



والثاني من أبناء الجيل الثالث هو سابا زريق (1886-1974)، شاعر الفيحاء، ورئيس تحرير جريدة الحوادث التي أصدرها لطف الله خلاط. والملفت أنه لم يغادر طرابلس. اما الثالث من أبناء هذا الجيل هو فوزي القاوقجي (1890-1876) درس في الكلية الحربية في استامبول، وحارب في الجيش العثماني، التحق بالأمير فيصل عند مروره في طرابلس عام 1925، كانت له أدوار عسكرية وثورية في الثورة السورية الكبرى عام 1925، وثورة 1936 الفلسطينية وكان في العراق مع الانقلابيين عام 1942، واختارته الجامعة العربية قائدًا لجيش الإنقاذ عام 1947-1948.

وإذا أجرينا تحليلاً سريعًا لأوضاع الثقافة والعلم من خلال الأجيال الثلاثة التي استعرضناها نجد أن تأثير العلم والثقافة كان حاسمًا في إبراز شخصيات طرابلسية لعبت أدوارًا كبيرة خارج المدينة وكان لها إشعاع عربي وإسلامي. وما زال بعض هؤلاء يملك تأثيرًا في الاتجاهات الفكرية المعاصرة.

وكان لانتشار العلم المدني على حساب العلم الديني أثره الثقافي والاجتماعي ويمكننا الاستشهاد بآراء السيد رشيد رضا الذي عاد إلى طرابلس عام 1908، بعد الانقلاب الدستوري، فقد رأى: "ان داخل طرابلس (المدينة القديمة) على ما تركتها عليه منذ احدى عشر سنة كأنما لم يتبدل ولم يتحول فيها شيء، حتى خيّل لي أن ما رأيته في الدكاكين ومخازن التجار هو الذي تركته فيها بعينه. أما ضواحي البلد فقد تجدد فيها دور وقصور كثيرة على عدم نمو الثروة الطبيعية، فالزراعة لا تزال على حالها وعليها مدار معيشة السواد الأعظم، والصناعة كذلك على حالها". ويمكن أن نستنتج من كلامه أن الحداثة العمرانية لم تكن مرتبطة بنمو اقتصادي. وأن التحديث العمراني يؤدي إلى شرخ بين المدينة القديمة والمدينة الحديثة.

وقد قام السيد رشيد رضا برحلة ثانية إلى سورية وزار خلالها طرابلس عام 1919، وقد لاحظ التغيرات الكثيرة التي حدثت بعد عشر سنوات على زيارته الأولى، يقول: "سريان عدوى التهتك فيها، وقد بدأ ذلك فيها في أوائل العهد بالحكومة الدستورية الاتحادية، ثم كان لمفاسد الحرب ثم الاحتلال الأجنبي تأثيرًا في استشراء فساده، حتى أن طرابلس صارت دون بيروت ودمشق في الحالة العلمية والأدبية الإسلامية"، يقول: "ان طرابلس أصيبت بالعقم من العلماء والعقلاء والزعماء، فلا خلف فيها في العلم والرشد للشيخ محمود نشابة والشيخ عبد الرزاق الرافعي والشيخ عبدالله الصفدي، ودرويش المشنبور والمفتي مصطفى أفندي كرامي الذين أدركناهم في شيخوختهم، ولا الشيخ حسين الجسر والشيخ عبدالله البركة، والشيخ نجيب الحامدي والشيخ محمد كامل الرافعي ومحمود أفندي المغربي والمفتي رشيد أفندي كرامي والشيخ خليل صادق الذين أدركناهم في كهولتهم.

يعوذ ذلك إلى انصراف أبناء العلماء عن وراثة العلم عن آبائهم وتوجههم إلى العلم المدني، والتخصص في الحقوق والطب والصيدلة. ولم تعد الوجاهة الاجتماعية منوطة بالعلم الديني والتملك العقاري أو النجاح التجاري فقط، بل أن الذين اكتسبوا العلم الحديث صاروا أقرب إلى ممارسة أدوارًا سياسية واجتماعية.

إن الحداثة لا تقتصر على العمران والعلم، ولكنها تتجلى في الأفكار السياسية أيضًا. وخصوصًا ان أفكار التنوير الفرنسي كانت قد بدأت التأثير في العالم خارج فرنسا وأوروبا. والواقع ان عصر التنظيمات العثماني الذي تؤرخ بدايته بإعلان السلطان عبد المجيد خط كلخانة (1839) الذي نص على مواد إصلاحية ومساواة بين الرعايا، كان بداية تحديث الإدارة والقضاء والعسكرية، وبرز خلال هذا العهد رجال دولة مصلحون أمثال رشيد باشا وعالي باشا. أحد الأفكار السياسية كانت تدور حول اعتماد. وبدفع من مدحت باشا اعلن الدستور السلطان عبد الحميد الثاني في بداية عهده الدستور عام 1876، وتقرر اجراء انتخابات في طرابلس وانتخب نقولا نوفل وكان اداريًا ومترجمًا، وهذه الأمور كانت من أسباب اختياره من جانب الطرابلسيين.

ولكن السلطان عبد الحميد الثاني علّق الدستور بعد حوالي السنة. فنشأت من جراء ذلك حركة سياسية تحت اسم تركيا الفتاة تطالب بعودة الدستور، ولا يبدو أن هذه الحركة كان لها أتباع معلنين في طرابلس. ولكن طرابلس انفعلت بعد الانقلاب الدستوري الذي أعاد العمل بالدستور عام 1908، فصدرت في طرابلس صحف عديدة مستفيدة من قانون المطبوعات الليبرالي. وبعض هذه الصحف لم يعمر طويلاً، ولكن بينها صحف استمرت لسنوات، منها: المباحث لجرجي يني والوجدان لسامي صادق والحوادث للطف الله خلاط والبرهان لعبد القادر المغربي والبيان لجميل عدرة والرغائب لحكمت شريف يكن وشمس الاتحاد لعبد الرحمن عز الدين (ويلزمنا دراسة اتجاهات هذه الصحف السياسية والاجتماعية).

ولكن كما هو معروف، فإن الأحداث تسارعت وبدأ الشقاق بين العرب والأتراك بسبب سياسة حزب الاتحاد والترقي القومية التمييزية. وعقد أول مؤتمر عربي في باريس شاركت طرابلس فيه بالمراسلة. وقد أرسل هذا الكتاب/ الرسالة إلى المؤتمر وجاء فيه:

طرابلس الشام في 14 أيار (مايو) 1913

إلى لجنة المؤتمر العربي الموقرة

سلامًا واحترامًا، وبعد فنحن فئة من أبناء الفيحاء، رأينا جهدكم الشديد في سبيل هذا الوطن العزيز الذي طوى رفات أجدادنا. وتآلفت في طيب ترابه أجسادنا. فشاقنا سعيكم الشريف وغدونا من حين إلى آخر ناظرين اليكم نظرة صاحب الدار إلى أخيه الجندي الذي يزود عن حياضه فيتمنى أن يضع حياته في كفه مع السيف، حتى إذا دعا الجهاد إلى بذل الحياة فلا شيء أرخص منها سلعة تباع من أجل صيانة الدار، وبما أن الوفود تواردت اليكم من كل قطر وطأته أقدام شعبنا الكريم فقد رأينا أن نطير اليكم بعواطفنا ونحمل اليكم تحية أخوانكم بني الفيحاء الذين قد جمعوا كلمتهم متضافرين على السير معكم أينما سرتم والرحيل أيان رحلتم، وثقوا بأن البلاد بأجمعها تنتظر بفارغ صبر نتيجة عملكم الشريف الذي سيضع حجر الزاوية لبنيان الوطن المجيد بمنّ الله وكرمه.

التواقيع
محمد رفيق الفتال- توفيق يازجي- حسن رعد- عزت مقدم- محمد صبحي الملك- صبحي البابا- محمد منير ملك- محمد كمال بركة- محمد كامل- راجي دانيال- محمد منير- حسين محمد رعد- مصطفى عادل مولوي- محمد نهاد ملك- محمد توفيق زيادة- محمد واصف- محمد صلاح الدين سلهب- حميد عدره- سليم رزق الله- بشير عدرة- عثمان غندور- عبد الرزاق أحمد بيضون- عثمان غندور- محمد مصطفى البابا- عبد الرزاق أحمد بيضون- عبد القادر حسن شيخ النجارين- ميخائيل جرجس سميرة.

وفي اليوم التالي 15 أيار (مايو) سنة 1913 أُرسلت إلى المؤتمر من طرابلس رسالة ثانية:

"إلى إدارة لجنة المؤتمر العربي في باريس

لنا الشرف نحن الشبيبة الطرابلسية أن نعلن لجانبكم سرورنا الذي لا يوصف حينما بلغنا خبر الغيرة التي صدرت من رجال الوطن في المهجر والاجتماع الوطني العظيم الذي سيجري في باريس، فقلوبنا قبل ألسنتنا تشكركم وتحمد عملكم هذا الذي سيسطر لكم على صفحات قلوب السوريين بحروف من نور، ولا ينسى فضلكم كل وطني غيور على وطنه وملّته. وقد أصبح كل فرد يشعر بواجب الشكر الجزيل لجنابكم ولكل أعضاء المؤتمر المحبوب الذين وقفوا جهدهم على ارتقاء بلادنا وسعادتها. فنحن نحبذ عملكم الشريف مع تقديم احتراماتنا العميقة لكم، لأنه واجب مقدس علينا أن نشكر هممكم الشماء بمبادرتكم إلى تخليص الوطن من الاضمحلال. طالبين من الله المعونة لإتمام هذا العمل المجيد الذي تتوقف عليه حياة الوطن العزيز. ودمتم مظهر الهمة والارتقاء في حياتنا الاجتماعية.
فريد زريق- جرجير خير- محمد ناجي- عزت مقدم.

في الرسالتين شارك العديد من أبناء عائلات طرابلس، وأغلبهم شخصيات معروفة يتوزعون على الملاكين ورجال الدين وتجار وموظفين اداريين، وأصحاب مهن: أطباء- محامون- صحافيون- صيادلة..

كان ذلك قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى ثم دخول الدولة العثمانية فيها إلى جانب المحور. وتعيين جمال باشا حاكمًا على سورية ولبنان والاعدامات التي قام بها. وقد اتهم اثنان من طرابلس هما الأديب أنطوان زريق وأخوه، واتهما بأنهم ضد الدولة والعمل لمصلحة الأجنبي فسيقا إلى الديوان العرفي دمشق فحكم عليهما بالإعدام.

وكان شباب من طرابلس قد انضموا إلى المنتدى الأدبي العربي خلال دراستهم في استامبول، بينهم سعدي المنلا وحسن رعد ومصطفى عادل الهندي وعمر زكي الأفيوني وعزت المقدم. ومن بين الذين قاتلوا مع الأمير فيصل إبان الثورة العربية وجيه علم الدين، الذي اشتغل لاحقًا بالتأليف.

انحازت طرابلس إلى الحكومة العربية في دمشق، وانتخبت مندوبيها إلى المؤتمر السوري، عبد الحميد كرامي وعثمان سلطان. وقد انتخب رشيد رضا لاحقًا رئيسًا للمؤتمر السوري الذي هو بمثابة برلمان سوريا، وقد لعب دورًا في صياغة دستور المملكة السورية الذي يعتبر أكثر الدساتير العربية ليبرالية وكان عثمان سلطان الحقوقي عضوًا في لجنة صياغة الدستور. ولكن الدستور لم يقر لأن الجنرال غورو هزم الجيش العربي في ميسلون في 23 تموز/ يوليو عام 1920.

وقعت طرابلس تحت السيطرة الفرنسية مثل سائر البلاد السورية اللبنانية. ولم ينتظر غورو وقتًا طويلاً ففي الأول من أيلول أي بعد خمسة أسابيع على معركة ميسلون أعلن قيام دولة لبنان الكبير.

وكان الاعتراض على هذا الإعلان قد جاء من أطراف متعددة، أولها بعض الموارنة الذين اعترضوا على ضم هذا العدد من المسلمين إلى الدولة المعلنة، وكان الرفض الإسلامي السني والشيعي واسعًا، إلا أن التعبير عن الرفض كان مختلفًا، ففي الجنوب اللبناني اتخذ رفض الانتداب شكل مقاومة مسلحة، وقتل العديد من الجنود الفرنسيين واستخدم الفرنسيون العنف وأحرقوا القرى، وألقي القبض على أدهم خنجر المتهم بمحاولة اغتيال غورو وأعدم شنقًا عام 1921.


أما في طرابلس، فلم تحدث مقاومة مسلحة، بل أن الجنرال غورو نفسه قام بزيارة طرابلس في 23 أيلول، وقد وصلها على ظهر بارجة، وكان بعض أهل الميناء احتشدوا لمشاهدة الزائر، وتوجه إلى منزل رئيس البلدية (نور علم الدين) ثم توجه إلى سرايا طرابلس بصحبة قائد البحرية الفرنسية وضباط آخرين واستقبل استقبالاً حافلاً شارك فيه رجال دين مسلمون ومسيحيون.

وبعد المراسم والكلمات انتقل إلى منزل رئيس بلدية طرابلس (هاشم ذوق) للغداء، ثم قام بزيارة لأسواق المدينة، والمولوية والقلعة. وخلال احدى الخطب ردّ على أحد الحضور الذي قال أن حظ بيروت أفضل من حظ طرابلس، فقال أن كل المناطق اللبنانية متساوية في نظره. ويبدو أن أهل طرابلس كانوا يستشعرون بتقدم بيروت على مدينتهم، علمًا أن النمو الذي عرفته بيروت سابق على الانتداب الفرنسي ويعود إلى أوائل القرن التاسع عشر.

ويلزمنا أن نعيد النظر في ثلاثة أمور:

1- موقف طرابلس من الانتداب وإعلان دولة لبنان الكبير.

2- العلاقة بين طرابلس والعاصمة بيروت.

3- الموقف من الدولة.

1- بالرغم من اشتهار موقف طرابلس المعارض لإقامة دولة لبنان الكبير، فإن الواقع يفيد بأن المدينة كانت منقسمة بين اتجاه شعبي معارض للانضمام إلى الدولة المعلنة، وبين اتجاه آخر تعاطى مع الدولة المنتدبة انطلاقًا من مبدأ الأمر الواقع. وكان على رأس كل اتجاه رجل دين، فكان المفتي عبد الحميد كرامي ابن المفتي رشيد كرامي متزعمًا تيار الوحدة السورية، أما الاتجاه الآخر فكان يتمثل بالشيخ محمد الجسر ابن الشيخ حسين الجسر. ولم يحدث صدام بين الاتجاهين. فالمعارضة كانت ذات طابع شعبي ومبدأي تشترك فيه مع قوى ومناطق أخرى من لبنان. أما الشيخ الجسر فقد عُيّن وزيرًا ثم انتخب رئيسًا لمجلس الشيوخ ثم رئيسًا لمجلس النواب.

وفي العام 1932، ترشح لرئاسة الجمهورية، ويبدو أن حظوظه لم تكن قليلة مما حدا بالمندوب السامي الفرنسي إلى تعليق الدستور. وإذا نظرنا إلى هذه الوقائع التاريخية بموضوعية سنجد أن طرابلس بمشاركتها في السلطة قد أعطت مشروعية للدولة الناشئة. أما المعارضة فقد غيّرت موقفها بعد الاتفاق السوري- الفرنسي عام 1936، وأصبح عبد الحميد كرامي أحد رجالات الاستقلال (عام 1943).

2- ولكن خارج المواقف السياسية، نشأت إشكالية بين طرابلس والعاصمة بيروت. وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن طرابلس خلال عصور متعاقبة كانت مركزًا لولاية أو نيابة سلطنة، وكان مرفأها مزدهرًا حين لم تكن بيروت سوى بلدة صغيرة. وفي مطلع القرن التاسع عشر كان عدد سكان بيروت أقل من خمسة الآف نسمة بينما كانت طرابلس لا تزال مركزًا لولاية وسكانها يقترب من عشرين ألف نسمة. ولكن بيروت سرعان ما أصبحت مرفأ يستقطب السفن القادمة إلى ساحل المتوسط الشرقي بسبب إقامة الكرنتينا قرب مرفأها، واجتذابها الارساليات الغربية، وأصبحت نافذة التجارة الأوروبية مع الداخل السوري والعربي. وقد شهدت نشاطًا ثقافيًا مبكرًا وصحافة ومدارس أهلية. وشهدت تحديثًا عمرانيًا واستقطابًا للعادات الغربية، وإقامة فنادق ومقاهي ومطاعم. نشطت مع توافد الجاليات الغربية، وبسبب دورها التجاري أقيم خط لسكك الحديد بين بيروت ودمشق، اختصر المسافات كما أقيمت فيها أول جامعات حديثة في الشرق، الجامعة الأميركية عام 1864، واليسوعية العام 1875.

وفي العام 1887، صدر قانون يجعل بيروت مركزًا لولاية ممتدة من اللاذقية شمالاً إلى عكا جنوبًا، وأصبحت طرابلس لواء ضمن ولاية بيروت. وقد جاء في حيثيات القانون: "نتيجة لزيادة أهمية مدينة بيروت وحساسيتها والوقوف في وجه النفوذ الأجنبي والتقليل من شأنه وأسبابه، بالإضافة إلى اتساع ولاية سورية واتخاذ ولاتها دمشق مركزًا لهم، الأمر الذي يجعل بيروت في وضع دون أهميتها. ولذلك استدعت الضرورة السرعة في جعلها ولاية مكونة من ألوية بيروت وعكا والبلقاء وطرابلس الشام واللاذقية ومع بداية القرن العشرين أصبح عدد سكان بيروت يفوق المائة ألف نسمة، بينما عدد سكان طرابلس عام 1915، كان بحدود أربعة وعشرون ألف نسمة والميناء ثمانية الآف وخمسمئة.

ومع قيام الدولة اللبنانية وفق النظام المركزي، على عكس ما كان عليه نظام الولايات، فإن العاصمة تستقطب النشاطات الرئيسية السياسية والاقتصادية والثقافية. وكانت بيروت مؤهلة لذلك بسبب ما أحرزته من تطور خلال عقود سابقة.

وبغض النظر عن ازدهار المرفأ، والمطار الوحيد في لبنان. فإن الدراسة الجامعية كانت محصورة في بيروت. وقد أدى ازدهار الحياة الثقافية في العاصمة إلى تهميشها في طرابلس. وصارت الطاقات الثقافية والمواهب الفنية تهاجر إلى بيروت لتجد مجالاً يلبي طاقاتها، نذكر على سبيل المثال رضوان شهال ونزار ميقاتي وعصمت شمبور وآخرين كثيرين. أدى ذلك إلى غلبة الطابع المحلي على الإنتاج الثقافي والإعلامي، وبطء في تطور الاقتصاد التجاري أو الصناعي في طرابلس.


(رضوان الشهال)

3- والاشكالية الأخرى التي عاشتها طرابلس بعد إعلان دولة لبنان الكبير هي مع الدولة الناشئة. صحيح أن طرابلس كانت لواءً تابعًا لولاية بيروت بين 1888 و1918، إلا أن النظام الإداري لم يكن يمنح لمركز الولاية سلطة إجرائية على الألوية والمدن. فكان لبيروت مجلس ادارتها كما كان لطرابلس محلها كما غيرها من المدن. ثم أن الولايات لم تكن سوى تدبير اداري متغيّر عندما تشعر الحكومة باستامبول ضرورة تبديل حدود الولايات، أو انشاء ولايات جديدة. وخلال القرن التاسع عشر نجد أن طرابلس التي فقدت كونها مركز ولاية ممتدة صارت تابعة لولاية عكا، وبسبب نفوذ أحمد باشا الجزار منحته الدولة ولاية دمشق، وأصبحت وبعد أن اختفت عكا، استحدثت صيدا التي ألغيت لصالح ولاية سوريا، التي اقتطعت منها ولاية بيروت إضافة إلى استحداث متصرفية جبل لبنان.

ومع إعلان الدولة اللبنانية، نشأ ما يمكن أن نسميه التناقض بين مفهوم المدينة ومفهوم الدولة. فالمدينة مجموعة من العلاقات الاجتماعية والثقافية والأهلية، أما الدولة فهي مفهوم مجرد يقوم على مبادئ دستورية ومؤسسات ذات اختصاص بغض النظر عن الأشخاص الذين يديرونها. وقد زاد من التناقض القطيعة بين المدينة والدولة، أن طرابلس قد اتخذت موقفًا معارضًا من إنشاء لبنان الكبير ومطالبتها بالانضمام إلى سورية. وقد نشأ شعور بالغبن، وأن الدولة منحازة ضد المدنية، وأنها دولة تراعي مصالح طائفة معينة دون طوائف أخرى. وقد يكون لهذا الشعور أساسه إذ أن مطران الموارنة في طرابلس أنطوان عريضة خلال الفترة (1908-1932) والذي أصبح بطريركًا حتى وفاته عام 1955، كان قد أقام مقرًا للمطرانية في موازاة شارع عزمي الشهير، وكان له نفوذ سياسي واقتصادي بالرغم من أن أبناء الطائفة في المدينة أقلية محدودة العدد.

وخلال الفترة الانتدابية عانت المدينة من محافظين وأمنيين عينوا لتطويعها. وقد يكون بعض هذا الشعور مبالغًا فيه، وانتقل إلى الفترة الاستقلالية حين لعبت الكيدية السياسية دورها في إذكاء المشاعر العدائية بين المسؤولين. ومع ذلك ينبغي أن نذكر أن طرابلس قد لحظتها الدولة خلال الخمسينات (عهد الرئيس شمعون) بثلاثة مشاريع كبرى، الأول: هو أوتوستراد بيروت- طرابلس الذي لم يكتمل إلا بعد مرور أربعين سنة، والثاني: توسعة مرفأ طرابلس، والثالث: مشروع توسعة مجرى نهر أبي علي بعد الطوفان، إضافة إلى مشروع معرض طرابلس الدولي في بداية عهد الرئيس شهاب إبان حكومة صائب سلام.


(معرض طرابلس)

كما حظيت طرابلس خلال الخمسينات بافتتاح العديد من المدارس التكميلية، إضافة إلى ثانوية رسمية. إلا أن المشكلة مع عهد شمعون كانت في مواقفه السياسية، التي أدّت إلى انفجار الثورة في أيار 1958، التي كانت أسبابها الداخلية تتعلق بسعيه إلى تجديد ولايته، وأسبابها الإقليمية بسبب وقوفه إلى جانب حلف بغداد وتناقضه مع صعود القومية العربية، إلا أن ثورة 1958، كانت طرابلسية. فلم تشهد المناطق الأخرى في لبنان ما شهدته طرابلس من عنف وضحايا.

لقد فجرت طرابلس في أيار 1958، كل ما اختزنته من تناقضات وسوء تفاهم بينها وبين الدولة. وقد كشفت الثورة الانقسام الحاد بين المدينة القديمة والمدينة الحديثة. كان الحيّز الحديث من المدينة يعيش حياته العادية، بينما سيطرت الأحزاب والقيادات المحلية على المدينة القديمة وانتشر فيها السلاح والمقاتلين وارتفعت المتاريس التي فصلت بين المدينتين، والتي رُفعت تفاديًا لرصاص قناصة الجيش اللبناني الذي حصد العديد من الضحايا. لقد استمرت الثورة حوالي الثلاثة أشهر أعلنت خلالها المدينة مشاعر العداء للدولة والحكومة عبر اذاعات مرتجلة كانت تبّث البيانات التحريضية ضد الرئيس شمعون ورئيس حكومته ووزير خارجيته.


(حرب 1958)

وكانت التغيرات التي أعقبت نهاية الثورة كبيرة على الصعيد الاجتماعي والعمراني والسياسي والانمائي. وأول النتائج بعد انتخاب فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، واعتبر ذلك انتصارًا على الخط الذي انتهجته طرابلس، المصالحة بين الدولة والمدينة، فتضاءلت مشاعر العدوان والحذر، خصوصًا أن أبواب الوظيفة العامة قد فتحت من خلال مؤسسات مجلس الخدمة المدنية. وأن الرئيس شهاب قد اتبع سياسة إنمائية شملت كل المناطق.

يُضاف إلى ذلك أن الحكومة الأطول مدة في الفترة الشهابية بل الأطول على امتداد تاريخ الحكومات اللبنانية، كان يرأسها ابن طرابلس رشيد كرامي وهي الحكومة التي أقرت أغلب المشاريع الإصلاحية والإنمائية في عهد الرئيس شهاب. وعلى مستوى السياسة العربية، حظي الرئيس شهاب بدعم من جمال عبد الناصر الذي كان آنذاك زعيم القومية العربية التي تبنتها طرابلس في الخمسينات والستينات.

لكن التغيرات الاجتماعية والتحديثية كانت أعمق أثرًا في المدينة. خلال عقد الستينات، ويعود ذلك إلى عوامل متعددة، أولها: التغيرات داخل طرابلس نفسها، فقد أدى طوفان النهر إلى اضطرار العائلات المتضررة من الطوفان، ثم توسعة مجرى النهر إلى مغادرة منازلها إلى القديمة والسكن في مناطق كانت في طور النمو واتساع العمران فيها مثل: منطقة أبي سمرا والزاهرية وغيرها من المناطق. كذلك فإن الثورة أدّت بطريقة غير مباشرة إلى مغادرة السكان للمدينة القديمة التي حوصروا فيها خلال ما يزيد على ثلاثة أشهر. فحصلت موجة هجرة من المدينة القديمة إلى أحياء وشوارع كانت تشهد حركة عمران كثيفة.

أما العامل الثاني فيتعلق بالسياسات الشهابية خلال الستينات مع ما يؤدي إلى تغيّر العادات التي قامت على تنمية المناطق الأقل نموًا، ومن خلال نشر التعليم وافتتاح كليات في الجامعة اللبنانية منها الحقوق والآداب والعلوم وغيرها، إضافة إلى افتتاح جامعة بيروت العربية، التي استقبلت بعد افتتاحها عام 1960 المئات من أبناء الطبقة الوسطى الذين استطاعوا أن يحصلوا على التعليم العالي والحصول على وظائف في القطاع العام كالإدارة والتعليم الثانوي أو في القطاع الخاص. إضافة إلى مشاريع تنموية منها بشكل خاص إيصال الكهرباء إلى المناطق النائية التي سمحت باقتناء أدوات يسّرت الحياة وحدثّت الأدوات المنزلية ورفعت جزءًا من الضغوط عن المرأة. وفي هذه الفترة من الستينات حدثت تغيرات في الحياة الاجتماعية ليس في طرابلس ولكن في لبنان حيث نشأ نمط لبناني من الثقافة المنفتحة على العالم، ساهمت فيه وسائل الاعلام من صحف وإذاعة وتلفزيون. إضافة إلى العروض السينمائية، هذا النمط قرّب اللبنانيين بعضهم من بعض في السلوك والعادات، إذ غابت الرموز التي تدل إلى الانتماءات المناطقية أو الدينية مثل الحجاب والطربوش والشروال. ولعل أبرز مظاهر التحديث كان إقبال الاناث على التعليم ودخول المرأة سوق العمل في القطاع الخاص والعام.


(مدينة الصالات)

أما العامل الثالث فيتعلق بموجة تحديثية عمت العالم، بعد أن أعادت أوروبا البناء وإزالة آثار الحرب العالمية الثانية فانتهى زمن التقشف وتوجهت السياسات في أوروبا نحو ما يسمى مجتمع الرفاه والازدهار واستهلاك كافة أنواع السلع. وإذا أردنا أن نلخص نقول أن طرابلس شهدت خلال تاريخها المعاصر ثلاثة موجات من التحديث.

الموجة الأولى، في ثمانينات القرن التاسع عشر حين خرح بعض الأهالي الميسورين من المدينة القديمة إلى المنطقة الحديثة أي التل وبنوا العمارات ذات النمط الأوروبي ونشأت ساحة حديثة للمدينة تقوم فيها المصارف والمقاهي والمؤسسات التجارية. كان طابع التحديث آنذاك طبقيًا، يقتصر على الوجهاء والأغنياء الذين أرسلوا أولادهم إلى المدارس الحديثة وتحولوا إلى العلم والمهن الجديدة.

الموجة الثانية، بعد الانقلاب الدستوري وخصوصًا مع الانتداب الفرنسي حيث أخذ التحديث طابع التغريب في العادات مما أدى إلى انقسام ثقافي، وانقسام المدينة إلى حيّزين متقابلين. حيّز يتمسك بعاداته وتقاليده، في سبيل مجابهة الانتداب وثقافته وحيّز يندمج في العادات الغربية تميّزه معرفة اللغة الأجنبية. وفي تلك الفترة ظهرت الأحزاب الأيديولوجية الشيوعية والقومية.

الموجة الثالثة، في الستينات التي كسرت الحواجز بين الحديث والتقليد. وانتقل التحديث إلى الفئات الممانعة أي الطبقات الوسطى والدنيا. واتخذ التحديث طابعًا جماهيريًا وديمقراطيًا فلم تعد الرموز تميّز الطبقات بعضها عن بعض، وقد شملت الديمقراطية التعليم الذي انتشر في كل الطبقات كما شمل الأدوات المنزلية خاصة، إضافة إلى الأزياء. ولم يعد التحديث يرتبط بالتغريب اللغوي أو الفكري، رغم أن الأدوات والأزياء صارت تستورد من الغرب. وعلى العكس من ذلك فإن المظاهر التحديثية ترافقت مع تصاعد العداء للغرب.

واتخذ التحديث طابع القطيعة مع الماضي والعادات والتقاليد وهي قطيعة شكلية ومخادعة. وقد رأينا كيف أن أفراداً وفئات انتقلت من المدينة القديمة إلى الحيّز الحديث، أو من الريف إلى المدينة، يبالغون في التنكر لأصولهم وعاداتهم وانتماءاتهم بتطرفهم في تحديث مظهرهم ولكنتهم. وقد انتشرت ظاهرة التخلّي عن الأثاث والمقتنيات المنزلية والكتب إذا وجدت، واستبدالها بأثاث جاهز.

في المرحلة الثالثة من التحديث تكاملت أربع عوامل تقوم عليها الحداثة:

1- العمران: اتجه إلى اختصار الجماليات وتجاوز الطابع الخاص لكل مبنى، السكان والهجرة من الريف إلى المدينة، وغلبة الطابع التجاري والنفعي.

2- التعليم والثقافة، انتشار التعليم بحيث شمل كل الفئات الاجتماعية في المدن والأرياف. التعليم الجامعي أصبح ميسرًا مع افتتاح كليات الجامعات اللبنانية وجامعة بيروت العربية. وسهولة المواصلات عبر استخدام وسائل النقل العامة (الحافلات، البوسطات) وعلى المستوى الثقافي انتشار أنماط عالمية موحدة مثل الأزياء عبر الأقلام السينمائية ووسائل الاعلام.

3- السياسة: تصالح المدينة مع الدولة، مشاركة طرابلس في السلطة، وانخراط المعارضة الحزبية في النظام اللبناني عبر المشاركة في الانتخابات.

4- الاقتصاد: تحوّل في اقتصاد المدينة من الزراعة والحرف إلى بروز الصناعة وخصوصًا معامل غندور والصفدي في البحصاص، إضافة إلى شركة الترابة ومصفاة النفط في البداوي- المنية.

عاشت طرابلس خلال سنوات الستينات أكثر مراحل التحديث إيجابية. وحتى بداية الحرب عام 1975، كانت طرابلس تجمع بين سهولة العيش وتوفر الخدمات والانفتاح على محيطها، وأصبحت مركزًا للأعمال والخدمات لمنطقة الشمال بأقضيتها، وأصبحت مكانًا ملائمًا للسكن بالنسبة لأبناء الأقضية المجاورة. وكادت أن تكون أبهى مدينة كما توقّع كتّاب ولابة بيروت.

كل ذلك قبل أن تظهر الجوانب التخريبية الكارثية للتحديث المتسرع والعشوائي وخصوصًا مشروع النهر ومشروع معرض طرابلس الدولي. وقبل أن تسلبها الحرب كل خصائصها الإيجابية.

----------
(*) محاضرة ألقيت في مركز الصفدي الثقافي في 12 الجاري بدعوة من "تجمع فيحاؤنا-  حاضنة الثقافة لكل الأزمان".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها