وعدا عن القلّة القليلة من الخريجين الذين يتمكنون من متابعة التحصيل العالي (الدبلوم والدكتوراه) فإن الغالبية العُظمى من الخريجين تتجه إلى الوظائف التي تؤمنها الدولة، أما في التعليم أو في الإدارات العامة، عبر المباريات التي يجريها مجلس الخدمة المدنية أو الدخول في نقابة المحامين، أو التدرج في معهد القضاء الذي يُخرّج بدوره قضاة. وهكذا منذ الدفعة الأولى من خرّيجي كليات الجامعة اللبنانية (1963-1964)، يمكننا مراقبة هذا التغيير في التعليم والادارة. وقبل نهاية عقد الستينات كانت الجامعة اللبنانية قد مدّت المجتمع اللبناني بمئات من أصحاب الكفاءات يتوزعون على ستة أو سبعة أفواج من الخريجين في الفروع العلمية المذكورة أعلاه. وسيكون لكل هذا أثره على تكوّن النخب الفكرية والأدبية والاجتماعية والسياسية. وإذا أجرينا إحصاءً بسيطًا سنجد أن أدباء وشعراء وتشكيليين وممثلين ومحامين من خرّيجي الجامعة اللبنانية سيرفدون الحياة الثقافية والمهنية والسياسية ابتداءً من السبعينات ويبدلون في تركيب النخبة اللبنانية.
وأتاحت الجامعة اللبنانية، لجيل من الأساتذة الكبار أن يدرسوا في كلياتها أمثال أنيس فريحة وصبحي الصالح في الآداب، وصبحي المحمصاني وادمون رباط وحسن صعب في الحقوق، وخليل حاوي وجورج خضر في كلية التربية، وحسن إبراهيم وقيصر نصر ورينيه حبشي في معهد العلوم الاجتماعية، وحسن مشرفيه في كلية العلوم وغيرهم الكثير من الأساتذة الذين قامت الجامعة اللبنانية على أكتافهم.
ومن خلال روابط الطلاب والانتخابات التي تجري سنويًا لاختيار مجالس الطلبة برزت قيادات سيكون لها دورها في الحياة السياسية والنقابية في العقود اللاحقة. وقد دخلت الأحزاب من خلال أعضائها إلى كليات الجامعة، لكسب المناصرين والمؤيدين ولقيادة التظاهرات الطالبية ذات الطابع النقابي أو الوطني. وقبل نهاية عقد السبعينات كانت التظاهرات تنطلق من احدى كليات الجامعة، الحقوق أو التربية. وبلغت ذروة النشاط الطلابي في الجامعة مع الاعتصامات داخل الكليات، بعد العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1968، وتدميره 13 من طائرات شركة طيران الشرق الأوسط (اللبنانية) بحجة أن عمليات خطف الطائرات تنطلق من مطار بيروت. وقد تعطلت الدراسة في الجامعة اللبنانية والثانويات الرسمية على امتداد الخريطة اللبنانية، الذي جعل من طلاب الجامعة اللبنانية في طليعة التحركات والاحتجاجات الوطنية.
ولا يمكن أن نغفل مدى تأثير الجامعة اللبنانية الاجتماعي وخصوصًا لجهة اتاحتها الفرص للتحصيل العلمي لأبناء المسلمين الشيعة والسُنّة من جهة ولأبناء المناطق البعيدة عن العاصمة والأرياف من كل الطوائف. ولا شك بأن مجانية التعليم من جهة أولى واعتماد اللغة العربية لغة تدريس، قد أتاح لأبناء المسلمين من الطبقة دون الوسطى أن تنال تعليمًا وفّر لها فرص الوظائف والتدرج نحو الطبقة الوسطى. وكانت اللغة الفرنسية إحدى العوائق التي تقف حائلاً دون دخول الجامعة اليسوعية التي كانت تُخرّج النُخب السياسية والحقوقية والإدارية (أغلب رؤساء الجمهورية اللبنانية والوزراء وخصوصًا الخارجية كانوا حتى عام 1970 من خريجي الجامعة اليسوعية). وكان بعض المسلمين المتوسطي الحال أو الميسورين يرسلون أبناءهم لمواصلة تعليمهم العالي في القاهرة أو دمشق.
لكن الجامعة اللبنانية أفسحت المجال أيضًا لأبناء البيئات المسيحية وخصوصًا الريفية الذين يعجزون عن تسديد أقساط الجامعة اليسوعية، أن يتابعوا تحصيلهم الجامعي. وكان من نتائج ذلك نشوء حركة "الوعي" في كلية التربية ومعهد العلوم الاجتماعية التي عقدت مؤتمرها الأول في آب/ أغسطس 1969، في دير سيدة ميفوق، وقد أصدرت الحركة وثيقتها الأساسية وفيها: اعتماد الفكر العلمي ورفض التبسيط النظري، والعمل من أجل لبنان قوي فاعل، وتحقيق الديمقراطية الفعلية ذات المضامين الاجتماعية والاقتصادية وتطوير قدرات الشعب اللبناني وتكثيف قواه المادية والفكرية.
يقول أنطوان الدويهي رئيس حركة الوعي: "كان هناك فارق كبير بين القوى الكيانية اللبنانية في الجامعة اللبنانية وفي الجامعة اليسوعية، كما كان الفارق عميقًا بين طبيعة الجامعتين، على المستويات الاجتماعية والجغرافية والسياسية. على الرغم من كون القوى الكيانية في غالبيتها الكبرى ذات أصول مسيحية، فإن الجامعة اليسوعية كانت تضم طلاب الفئات الاجتماعية الميسورة منها، القادرين على دفع الأقساط، الآتين في معظمهم من بيروت ولبنان الأوسط، والمؤيدين عمومًا لأحزاب الكتائب اللبنانية والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية. أما الوضع في الجامعة اللبنانية فكان مختلفًا بسبب مجانية التعليم. إذا كانت القوى الكيانية فيها متحدرة من الفئات الاجتماعية المحدودة الدخل أو الفقيرة، وبينها غالبية آتية من المناطق الداخلية. وتضم الكثيرين من المستقلّين عن الأحزاب. لذلك كانت تلتقي مصالحهم وتطلعاتهم مع الأفكار التغييرية، ومع التطوير والتحديث وإقامة العدل الاجتماعي، ما شكّل بيئة ملائمة لظهور حركة الوعي (أنطوان الدويهي، حركة الوعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2019، ص 46).
ومع ذلك فإن حركة الوعي لم تستطع الصمود أمام الاستقطاب الطائفي والحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، أما أعضاؤها فقد برز منهم قيادات نقابية وشعراء وأدباء وأساتذة جامعيون بارزون كانوا من نتاج الجامعة اللبنانية في الستينات الواعدة.
أخذت الجامعة اللبنانية مسارًا مغايرًا مع أحداث الفروع في المحافظات ابتداءً من عام 1977، في خضم الحرب الأهلية. لينحسر دورها في أعداد النُخب الوطنية على امتداد لبنان، إلى تخريج جامعيين على المستوى المناطقي والطائفي.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها