الأحد 2023/04/16

آخر تحديث: 09:59 (بيروت)

من ذاكرة الستينات-12:لبنان وحرب حزيران

الأحد 2023/04/16
من ذاكرة الستينات-12:لبنان وحرب حزيران
إحدى دبابات الجيش المصري في سيناء 1967
increase حجم الخط decrease
 عندما يكون المستقبل قاتماً، كئيباً إلى هذا الحد، يصبح الترحال في الماضي القريب، علاجاً نفسياً أكثر مما هو تنقيبٌ عن الدروس والعبر. القول إننا كنا هناك، في فترة الستينات، باشراقاتها واحباطاتها، لا يعكس الرغبة بالعودة إلى الوراء. بل مجرد التوكيد على أننا لا نستطيع أن نظل هنا، في عشرينات القرن الحالي من دون ذكريات، يستعيدها الدكتور خالد زيادة، بلغة المثقف، ودقّة المؤرخ، وشغف الباحث... عن مستقبل"... بعد الحلقة الأولى والثانية والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة، والتاسعة، والعاشرة. والحادية عشر... هنا الحلقة الأخيرة.

 

إذا كانت الستينات، بما تعنيه من ازدهار لبناني في الاقتصاد والفنون والآداب، مع استقرار سياسي بسبب حياد لبنان عن الصراعات العربية، قد بدأت مبكرة بعد أحداث 1958 وانتخاب فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، فإنها انتهت قبل نهاية العقد، مع اندلاع الحرب في 5 حزيران 1967، وما تلاها من تداعيات سيكون للبنان النصيب الأكبر منها.

كنا آنذاك في اليوم الأول من امتحانات نهاية السنة، حين دخل أحد نظّار المدرسة إلى قاعة الامتحان ليقول لنا أغلقوا كراساتكم، وقد بدا الاضطراب على وجهه، لقد نشبت الحرب واذهبوا إلى بيوتكم. عادة، حين كنا نحظى بإجازة مجانية نعبّر عن فرحنا، ولكن في تلك الصبحية اختلطت علينا المشاعر بين الفرح بنشوب الحرب الموعودة التي ستحرر فلسطين، وبين الخوف من تداعيات الحرب. في عودتنا إلى منازلنا تقصدنا المرور في وسط المدينة التي بدا الاضطراب على حركتها واستعجال المارة خطواتهم، بينما أجهزة الراديو تذيع على البيانات العسكرية.

أصاب الدولة والحكومة التي لا تمتلك سوى بيانات التضامن الخوف من أن تمتد الحرب إلى حدودها، فطلبت إلى المواطنين طلاء مصابيح السيارات وزجاج نوافذ البيوت باللون الأزرق، وهو إجراء من زمن حروب مضت حين كان الطيارون يرصدون أهدافهم بالعين المجردة. وطلبت إلى المواطنين تجهيز مخابئ غير موجودة أصلاً. كانت أيام الحرب بطيئة ومملة وأخبارها متكررة وبيانات اذاعتها مع الأغاني الحماسية لا تفيد شيئًا عن تقدّم في العمليات العسكرية.

أما مشاركتنا في الحرب وأحوالها فقد اقتصرت على تحليق طائرتين إسرائيليتين من طراز ميراج على نحو منخفض أثار زعيقها الرعب في النفوس.

(خليل الجمل)
طرأ تغيير على روتين الأيام الخمسة الأولى من الحرب في مساء يوم التاسع حزيران حين فرغت شوارع المدينة من المارة. بانتظار الكلمة التي سيلقيها جمال عبد الناصر. امتزج الحزن بالغضب حين أعلن خسارة المعركة وعزمه على الاستقالة. نزل الناس من فورهم إلى الشوارع، ونزلت مع أخي نعبر الشوارع حيث كان الناس ينزلون من منازلهم ليجتمعوا في المقاهي والساحات، سارت مظاهرات متفرقة لتتجمع بعد ذلك في ساحة المدينة. مرّت أشهر الصيف كئيبة، وكنت أبحث عن السبيل لأفعل شيئًا حتى اهتديت إلى احدى التنظيمات الحزبية.

كان أول ردّ فعل حماسي، أعاد بعض الثقة إلى النفوس، بعد عودتنا إلى المدرسة مع مطلع السنة الدراسية، خبر إغراق المدمرة ايلات في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1967، حين أغرق طرادين مصريين المدمرة البحرية التي دخلت المياه الإقليمية المصرية، فغرق معها عشرات من جنود البحرية الإسرائيلية.

لكن الحدث الذي ألهب المشاعر صدقًا أو تصنعًا، كان استشهاد الشاب خليل عز الدين الجمل الذي التحق بالعمل الفدائي في الأردن في 25 آذار/ مارس، وعاد شهيدًا بعد أسبوعين في 10 نيسان/ ابريل 1968، سعت الحكومة إلى استيعاب الحدث فأرسلت محافظ البقاع لاستقبال موكبه عند الحدود السورية اللبنانية، واستقبل الموكب محافظ جبل لبنان عند حدود المحافظتين. وعندما وصل الموكب إلى بيروت كان في استقباله مئة ألف مواطن، غير الذين واكبوه على الشرفات. كُتبت عنه المقالات الصحافية شارك فيها غسان تويني وجان عبيد، وصرّح بيار الجميّل إن الشهيد وحّد لبنان وأن الكتائبيين شاركوا في تشيّعه عند مروره في الجبل وقال رشيد كرامي رئيس الحكومة، أن خليل استشهد من أجل قضية العرب الأولى. وكانت الذروة في خطاب جمال عبد الناصر: "الشاب اللبناني الذي أخذ سلاحه وطلع من لبنان وترك رسالة لأهله يثبت أن الأمة العربية كلها بكل أبنائها قادرة على تحدّي هذا العدوان".

أسهم كل ذلك في موجة عارمة من الحماس للعمل الفدائي في لبنان، وغادر عشرات الشباب إلى الأردن للتطوع في المقاومة الفلسطينية. وكانت عناصر من حركة فتح قد باشرت منذ شهر آذار/ مارس في إقامة قواعد في جنوب لبنان، وتراخى الحصار الذي كان مفروضًا على مخيمات الفلسطينيين. وجاء العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت في 30 كانون الأول/ ديسمبر 1968 ليُلهب مشاعر الشباب، فعمّت الإضرابات والاعتصامات المدارس والجامعات، وتصاعدت الدعوة إلى التجنيد الإجباري، بينما طالب ريمون اده عميد حزب الكتلة الوطنية بالبوليس الدولي. وكان ذلك بداية انقسام في المواقف التي ستتصاعد. وبدأت المناوشات بين الجيش اللبناني وعناصر حركة فتح التي تحولت إلى صدامات. ودعمًا للمقاومة الفلسطينية دعت الأحزاب (الحركة الوطنية) إلى تظاهرة ضخمة في 23 نيسان/ ابريل 1969.

غادرنا صباحًا إلى بيروت في سيارة أحد الرفاق، تحسبًا لحواجز الجيش التي قيل إنها ستوقف الحافلات التي يشتبه بنقلها المتظاهرين إلى حيث ستنطلق التظاهرة. أخذنا موقعنا مع رفاق تنظيمنا الحزبي أمام سينما بيروت في كورنيش المزرعة، وعلى بُعد أمتار في المقدمة كنا نلمح محسن إبراهيم وسمير فرنجية وجورج حاوي. لم يخطُ المتظاهرون سوى أمتار قليلة حتى سمعنا أصوات طلقات رصاص وساد الهرج والاضطراب، فتفرقنا في الشوارع الفرعية، وخلفنا أصوات الرصاص وصرخات الذين يحملون القتلى والجرحى، استقال رئيس الحكومة رشيد كرامي ودخل لبنان في أزمة سياسية عميقة.

في شهر تشرين أول/ أكتوبر في عام 1969، حدثت صدامات واسعة بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية وخصوصًا في شمال لبنان حيث احتُلت المخافر من جانب المسلحين لبنانيين وفلسطينيين. ونزل فاروق المقدم (أحد السياسيين الطرابلسيين آنذاك) من قاعدة لفتح في جرود قضاء الضنيّة واحتل قلعة طرابلس، واستمرت المناوشات والصدامات أيامًا، ولم تهدأ إلا حين تقرر أن يتوجه وفد لبناني إلى القاهرة وكانت التسوية برعاية مصرية هي "اتفاق القاهرة"، الذي منح حركة فتح حرية الحركة في ما عُرف باسم "فتح لاند". هذا الاتفاق الذي كان سببًا لانقسام جديد سيحكم الحياة السياسية اللبنانية لسنوات طويلة.

غيّرت هذه الوقائع السياسة والمجتمع، وبالرغم من أن لبنان لم يشارك في الحرب، إلا أنه تلقى كل تبعاتها وتداعياتها. فقد اعتُبرت هزيمة عبد الناصر بمثابة هزيمة للشهابية. فتشكّل الحلف الثلاثي شمعون- الجميل- اده، الذي كان هدفه إسقاط العهد الشهابي الذي استمر مع ولاية الرئيس شارل حلو. وبالفعل نجح الحلف الثلاثي في إسقاط مرشح الشهابيين إلياس سركيس وفاز سليمان فرنجية بأغلبية صوت واحد.

في 16 أيلول/ سبتمبر بدأت الصدامات بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، وفي محاولة لرأب الصدع عقدت قمة عربية في 23 أيلول/ سبتمبر في القاهرة، وهو الموعد الرسمي لتسلّم رئيس الجمهورية اللبناني مهام منصبه ودخوله القصر الجمهوري، وفي 28 أيلول/سبتمبر توفي جمال عبد الناصر. وفي 16 تشرين الثاني/ نوفمبر قام حافظ الأسد بانقلاب على رفاقه في الحزب وتسلّم حكم سوريا.

وفي ظرف شهرين من سنة (1970) بين أيلول وتشرين الثاني، تغيرت أوضاع كل من الأردن وسوريا ولبنان ومصر والمقاومة الفلسطينية ودخلنا في زمن آخر.

بيروت 2023.02.16

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها