الأحد 2023/02/05

آخر تحديث: 07:49 (بيروت)

من ذاكرة الستينات(2):التجربة الشهابية

الأحد 2023/02/05
من ذاكرة الستينات(2):التجربة الشهابية
أمين سر البطريركية المارونية، والبطريرك الماروني لاحقاً، نصرالله صفير مع الرئيس فؤاد شهاب عام 1960(صفحة نقد بناء)
increase حجم الخط decrease
عندما يكون المستقبل قاتماً، كئيباً إلى هذا الحد، يصبح الترحال في الماضي القريب، علاجاً نفسياً أكثر مما هو تنقيبٌ عن الدروس والعبر. القول إننا كنا هناك، في فترة الستينات، باشراقاتها واحباطاتها، لا يعكس الرغبة بالعودة إلى الوراء. بل مجرد التوكيد على أننا لا نستطيع أن نظل هنا، في عشرينات القرن الحالي من دون ذكريات، يستعيدها الدكتور خالد زيادة، بلغة المثقف، ودقّة المؤرخ، وشغف الباحث..عن مستقبل"... بعد الحلقة الأولى هنا الحلقة الثانية:


بدأت الستينات مبكرًا في لبنان، بعد ثورة على الرئيس كميل شمعون عام 1958، أعقبها تدخل أميركي وعربي تمخّض عن تسوية وانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية. وانتهت قبل أوانها إثر حرب إقليمية بدّلت لبنان والعالم العربي. وخلال السنوات بين 1959 و1967، عرف لبنان ازدهارًا وإصلاحًا إداريًا وحيادًا بضمان عربي ودولي.
وكانت أبرز خطط وأفكار الرئيس فؤاد شهاب تدور حول إزالة أسباب الاحتقان الطائفي، وتنفيذ مشاريع تنموية في المناطق الأقل نموًا. واستقدم في سبيل ذلك بعثة ايرفد لدراسة الأوضاع الاقتصادية والسكانية والاجتماعية ووضع الخطط الإصلاحية. وقدّم في نهاية عمل البعثة رئيسها الأب لوبريه تقريرًا مفصلاً خلاصته أن من أسباب التوتر الطائفي هو التفاوت في النمو بين المناطق التي غالبيتها من المسيحيين، والتي تشتمل على المرافق التجارية والاقتصادية والتعليمية، وبين المناطق التي تسكنها غالبية من المسلمين والتي تنقصها الخدمات الأساسية من تعليم ومياه وكهرباء.

والواقع أن عهد الرئيس شمعون (1952-1958) كان قد عرف العديد من المشاريع وإنشاء المرافق الأساسية مثل مطار بيروت ومرفأ طرابلس وإنشاء مصالح المياه وتحديث بعض المرافق العامة مثل المستشفيات والمدينة الرياضية والسرايات الحكومية فضلاً عن كازينو لبنان وافتتاح مغارة جعيتا، المرفق السياحي الأبرز في تلك السنوات.

إلا أن الرئيس شهاب المتأثر بالديمقراطيات المسيحية التي انتشرت عبر أحزابها في أغلب بلدان أوروبا، بديلاً عن الشيوعية والفاشية والنازية، كان مقتنعًا بضرورة ردم الهوّة بين المناطق اللبنانية، وكان سبيله إلى ذلك، شق الطرقات بين المناطق، ومدّ شبكات الكهرباء لتعم أغلب مناطق لبنان تقريبًا، ومدّ شبكات المياه وافتتاح المدارس في المناطق التي سُميّت نائية. والتفت إلى الإصلاح الإداري، وهذا أهم ما ميّز عهده فأنشأ مجلس الخدمة المدنية وهيئة التفتيش المركزي. وقد سعى بذلك إلى تحرير الإدارة من هيمنة وتسلّط رجال السياسة وزعماء الطوائف، عبر إجراء المباريات لاختبار الموظفين من كل الفئات في كل الإدارات، وكانت تلك الخطوة الأبرز التي اتخذها الرئيس شهاب في عهده، مع الاستقرار المالي الذي أمنه مصرف لبنان آنذاك، وهي مؤسسة من مؤسسات عهده، وازدهار اقتصادي بفضل تدفق المال الخليجي والمصطافين العرب إلى بلدات عاليه وبحمدون، بعد أن كان العراقيون في الخمسينات يقصدون حمانا للاصطياف.

وفي سبيل شدّ أواصر العلاقات بين اللبنانيين تم إنشاء "كشاف التربية الوطنية" كهيئة تتوجه إلى تلامذة المدارس الرسمية عبر الأناشيد الوطنية والمخيمات الترفيهية والتربوية. وكذلك إنشاء "مصلحة الإنعاش الاجتماعي"، التي كثّفت نشاطاتها الشبابية في المناطق النائية بجمع الشباب والبنات من طوائف مختلفة في نشاطات تنموية في الشمال والجنوب، واجتهد الشهابيون في إنشاء مؤسسات تترجم اتجاهات السياسة في ذلك العهد، مثل: نادي 22 تشرين، وندوة الدراسات الإنمائية.

وقد خطت الفكرة اللبنانية خطوات إلى الأمام عبر اتساع الجهاز الوظيفي من جهة، وعبر السياسة العربية والدولية المتوازنة، وعبر البث الإذاعي والتلفزيوني، إلا أن الفكرة اللبنانية كانت تتجسد في أمور أكثير عينية ومادية، فقد أصبح للبنان عناوين مثل: المطار والمرفأ والكازينو والمدينة الرياضية ومغارة جعيتا وآثار صور وبعلبك وجبيل، وأصبح للبنان مترادفات: التعايش والازدهار والاصطياف والبحر والجبل وسويسرا الشرق وانتخاب ملكات الجمال.. وأصبح للبنان رمزيته الأدبية جبران ونعيمة والريحاني يُضاف إليهم سعيد عقل وعبد الله العلايلي، ورموزه الفنية، فيروز والرحابنة ووديع الصافي وصباح، وصار للبنان مسرحه وصحافته ومجلاته. ونهض الفن التشكيلي مع وجيه نحلة ورفيق شرف وعارف الريّس وغيراغوسيان والأخوة بصبوص.

كل ذلك ترافق مع تحديث اقتصادي واجتماعي، فنشأت مؤسسات مصرفية وسياحية وتجارية تخضع للشروط المتعارف عليها بين الدول. وكان لبنان قد عُرف بجامعتيه الأميركية واليسوعية، فكانت الأولى تُخرّج النُخب الفكرية والسياسية اللبنانية، وقد مدّت الجامعة اليسوعية دولة لبنان برؤساء جمهوريات والوزراء والمدراء العامين والقضاة والمحامين والأطباء، وأضيفت إليها في العهد الشهابي كليات الحقوق والعلوم والآداب والاجتماع، كما تأسست الجامعة العربية. مما سمح بنشوء نُخبة من أبناء المسلمين انخرطت في إدارات الدولة ومعاهد التعليم، وأصبحت مستشفيات لبنان مقصد أبناء البلدان العربية. وبرز نشاط الجمعيات الأهلية والمدنية والنوادي الثقافية، وأبرزها الحركة الاجتماعية التي أسسها الأب غريغوار حداد، وكان علامة من علامات ذلك الزمن.


لكن هذا التقدّم الذي أحرزه اللبنانيون في العديد من المرافق، لم يترافق مع تحديث للحياة السياسية، بالرغم من النشاط الحزبي بين أهل اليمين وأهل اليسار خصوصًا. فالطبقة الحاكمة التي تعود أصولها إلى زمن المتصرفية وما قبل المتصرفية، حافظت على مكانتها ووجاهتها واستئثارها بمقاعد المجالس النيابية المتعاقبة. ولم يخطو شهاب خطوة واحدة في سبيل دعم اتجاهات التغيير التي كانت تؤيده وخصوصًا الشباب الذين انتسبوا إلى نادي 22 تشرين، وبينهم كفاءات علمية من كل الطوائف. فلم يبذل أي جهد لدفعهم أو إتاحة الفرصة لهم للممارسة السياسية عبر الانتخابات النيابية، وكان فؤاد شهاب في قرارة نفسه يؤمن بأمرين: الدستور ويسميه الكتاب، والعائلات، وهو نفسه سليل عائلتين ترجع جذورهما إلى القرن الثامن عشر، شهاب وحبيش.

والقانون الانتخابي الذي أعده، وعُمل به لأول مرة في انتخابات عام 1960، وعرف بقانون الستين. فصّل الدوائر الانتخابية على قياس الأقضية بحيث تتطابق عن قصد أو غير قصد، مع نفوذ عائلات اقطاعية أو شبه اقطاعية أو عشائرية في الأرياف، والعائلات الوجيهة أو الأعيان في المدن المتحدرين من عائلات متأصلة بالتجارة أو من أبناء رجال الدين. وكان لهذا النظام الذي يمكن أن نسميه باسم "نظام الأعيان" قادرًا على تجديد نفسه، ليس عن طريق وراثة الأبناء لأبائهم فقط، بل إن هذا النظام يمتلك المرونة النسبية التي تسمح بانضمام أفراد أو عائلات لدخول طبقة الأعيان وليصبحوا أعضاء في الطبقة السياسية، وذلك عن طريق المال أو الخدمات.

وبالرغم من كل الإنجازات التي حققها العهد الشهابي وإدارته للتوازنات، بين الحساسية اللبنانية والسياسات العربية، وبين حداثة المجتمع وتقليدية الطبقة الحاكمة، فإن كل هذا البناء وما رافقه من تفاؤل. كان ينطوي على هشاشة كشفتها أزمة بنك انترا عام 1966، وصدعتها حرب 1967، والهزيمة التي أصابت المشروع الناصري التي اعتبرت هزيمة للشهابية نفسها. فعاد الانقسام الطائفي ليبرز من جديد مع دخول المقاومة الفلسطينية إلى جنوب لبنان، وتحالف قيادات الموارنة الذين اتخذوا على عاتقهم إنهاء العهد الشهابي بإنجازاته الإدارية والمدنية وتسلّط عسكره (المكتب الثاني) على الحياة السياسية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها