الجمعة 2021/02/12

آخر تحديث: 17:44 (بيروت)

الحاج علي والأم الحزينة

الجمعة 2021/02/12
الحاج علي والأم الحزينة
السيدة سلمى مرشاق سليم في مأتم ابنها لقمان (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في وضع طبيعي، لربما كانت "حركات" التبرؤ الدينية من المشاركة في تأبين الناشر والباحث والمثقف المُغتال، لقمان سليم، غير جديرة بالتعليق والتحليل، فيما دم الرجل ما زال على الأرض، كما المغدورين قبله وبعده، وفي ظل مَوات لبناني عميم، حَرفي واقتصادي وسياسي، وبأثر اليأس من تحقيق أو قضاء. ربما كان يكفي تلك "التبرؤات"، بعضُ التقريع والكثير من السخرية، وصولاً إلى التهكم بأن ورثة المتنبي هم أيضاً استنكروا حَفرَ شِعره على النصب الدائري لذكرى لقمان في حديقة دارته... ربما، لولا الدلالات المريعة التي أبرزتها الانسحابات والاعتذارات الدينية، للبنانيين، عن أنفسهم، ما يعيشون، وما ينتظرهم على امتداد طريقهم الوعر.

بداية،ً مرعب ومدهش حجم التطابق بين ما مثّله لقمان سليم في عيون المحرّضين عليه، وبين الـHomo Sacer، أو الشخص الذي وصفه القانون الروماني القديم بأنه "محظور/مُبعَد/منبوذ، يجوز لأيٍّ كان قتلَه، لكنه ممنوع من أن يكون الأضحية في طقس ديني"... وقد قُتل لقمان، كحياة مُجرَّدة، مُستباحة. واعتذر "الحاج علي" عن تلاوته القرآن في المأتم، واستنفر الجمهور العَوني لأن كاهناً رتَّل في تلك الواحة وسط الضاحية الحليفة "أنا الأم الحزينة". فباتت الضحية، في خطاب الجهل والهيمنة، الـHomo Sacer، أي حياة بلا أهلية، ولا حتى أهلية موتها كأضحية للآلهة... ومَن يصنّف الحياة؟ صاحب السيادة (ويقال له السيد أيضاً!)، الذي يخبرنا كارل شميت أنه مَن يمتلك سلطة إعلان "دولة الاستثناء"، حيث يُعلَّق القانون إلى أجَلٍ غير مسمّى، من دون التورط في لفظة إلغائه. الصورة ساطعة، لا تحتاج تفنيداً.

وقد اعتذر "الحاج علي" عن تلاوته القرآن في التأبين، الكلام الذي لا يملكه أحد، النص المفترض أنه رحمة مصدره وحده. اعتذر، من دون حتى محاولة إيجاد حجّة دينية واهية، بل قال أنه نادم لأنه ظهر في قنوات (تلفزيونية) مشبوهة، ولأن "هذا الإنسان (لقمان سليم) ليس من خطنا ومسيرتنا.. ولم أكن أعرف على مَن طُلبت مني القراءة"، طالباً عفو جماعته عند مقدرتهم القامعة، بعدما أنهكه فائض حملتهم الالكترونية عليه.

أما الهذر العَوني عن عدم جواز ترتيل "أنا الأم الحزينة" إلا في صلوات "الجمعة العظيمة"، وعن أن الترتيلة في مأتم لقمان سليم "ساوت بينه وبين المسيح"، و"ضربت صلب العقيدة" المسيحية، فهو هراء بائن. وربما لهذا، اقتصر بيان أبرشية بيروت المارونية على نفي علاقتها بالأب المرتّل جان عقيقي، والإيضاح بأن المطران لم ينتدبه لتمثيله في التشييع. وقالت كلاماً شبيهاً، جمعية الآباء المرسلين اللبنانيين التي ينتمي إليها عقيقي، وكذلك الرهبنة الأنطونية عن مشاركة الراهب الأنطوني جورج صدقة.

وإن بدت مواقف المرجعيات المسيحية عقلانية وهادئة، فإنها أيضاً جاءت ضعيفة، إذ اكتفت بالتنصل ولم تفسّر "للجماهير" أنهم يرطنون بهرطقات، فيما التفاسير الدينية الجدية، بديهيةإذ لم تُستخدم الترتيلة (سواء كانت طقسية أم لا، وهناك فرق يدركه العارفون) في سياق ساخر أو مُهين/ناقد للعقيدة (وهنا يُخاض نقاش حرية التعبير لكن هذا موضوع آخر).. بل رُنّمت في حضرة الموت، والموت ظلماً وغيلةً واغتيالاً، أي في مناسبة هي صورة المرآة عن مناسبتها الدينية. ثانياً، الترتيلة من تأليف الأخوين رحباني، كما أن Ave Maria هي لفرانز شوبرت (أنشدها بافاروتي في حفلات!)، أي أنهما "أغنيتان دينيتان" وليستا من النصوص المقدسة، وهما جزء من تراث موسيقي لطالما التحم بالمشاعر الزمنية. وليس أكثر دلالة على ذلك من الازدحام متعدد الطوائف وأطياف الإيمان والإلحاد، والذي شهدته كل كنيسة رتّلت فيها فيروز "الأمٍّ الحزينة"، اشتهاءً لطربها المقدس. وأخيراً، المسيح أيضاً، في سردية المؤمنين، قتيل، شهيد. وفوق ذلك هو الرب الذي تجسّد في بشر لفداء خطاياهم، أي أنه هو الذي تشبّه بالبشر قبل أن يسعى بشر إلى التشبّه به، ثم ارتضى الموت على صليبه حبّاً فيهم.

هكذا، يبدو جمهور "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، إضافة إلى التجبّر والاعتداء على خيارات الناس وإعلاء المفاهيم القروسطية، نازعاً للثقافي عن الديني، لوضع الديني في قوالب الإيديولوجيا والسياسة الإلغائية. هذا ليس غريباً على "حزب الله" منذ نحو أربعين عاماً، لكنه، وبنجاح كبير، يتمدد إلى الحلفاء، والخصوم أحياناً. وفي آخر تجلياته، عبّر عنه الحاج علي بالشبهات والتلفزيونات و"خطّنا ومسيرتنا"، أي كل "آخر" وكل ثقافاته.

يريدون احتكار حتى الموت، ومعناه، ولو كان قتلاً، ولو كانوا متهمين رئيسيين فيه.
هي طموحات هيمنة إضافية. ذو السيادة لا يشبع من تسيّده. شكل جديد للقبض والإطباق، تسهّله اليوم وسائل التواصل الاجتماعي التي تتحول في لمح البصر إلى حملات ضغط (ويا ليتها كانت نافعة هكذا في وجه السلطة والفساد وتغييب المساءلة والعدالة). هيمنة الاستزادة من الهيمنة. إما من الرأس إلى الأسفل، كما هي الحال مع الحاج علي الذي أذعن لحصار الجيش الالكتروني، والحزب حاكم مجتمعه. وإما من الأسفل، المتعصب والمتخلف والجاهل بعقيدته المسيحية، إلى الرأس الممثَّلة في المؤسسات الكنسية التي مارست بالتالي تقيّة معكوسة.

لكن الأديان كلها هي عناصر من ثقافات منابعها، في حين أن هناك ثقافات كاملة متكاملة عاشت وتعيش من دون عنصر ديني حيوي.

الثقافي هو التجربة، وما تغيره أو تكرسه فينا، وما الدين لمعتنقه سوى ذلك؟ شأنه شأن الحب، والمُصاب، والحياة برمّتها. هو الموروث، والذاكرة، وعلاقات الناس بعضها ببعض. وجميعنا سمع من أصدقاء وأقارب كيف كان يتم إحياء ذكرى عاشوراء، لا سيما في جنوب لبنان، قبل الثورة الإسلامية في إيران وحتى قبل ولادة "حزب الله" وانتشار التشادور الأسود و"الأسيد" الذي لطخ وجوهاً وأجساداً حاولت التمرد على استتباب هذه "الثورة" في الثمانينات. كلنا وصلتنا أخبار الراحة والبسكويت والهريسة في سياق اجتماعي طوعي، هادئ بل ومحبب، وربما اهتمّ به المسنّون والمؤمنون التقليديون أكثر من الشباب والعائلات التقدمية اليسارية أو الليبرالية التي لم تكن أقلية آنذاك. واليوم، كلنا يشهد ذكرى عاشوراء في ظل حزب يستحوذ عليها.

الثقافي هو الهوية، بالمعنى المُسالم والغني للكلمة. هو الاختبار، الفن، التشكيل والموسيقى، الأحاسيس. كل معنى بنكهات لا عدّ لها ولا حصر، سواء الأحادي الرسمي، أو ما يتجاوزه. الديني، لا يمكن نزع الثقافي عنه، إلا كما تُنزع عن الرأس فَروَتها، وهذا ما يفعلونه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها