الأحد 2014/11/16

آخر تحديث: 12:08 (بيروت)

"هوب هوب".. خرق فني في مشهد الدم السوري

increase حجم الخط decrease

كتب الروسي ميخائيل بولغاكوف مسرحية "الجزيرة القرمزية" ("هوب هوب" حسب الإعداد السوري لها) العام 1927، أي بعد عشر سنوات من انتصار الثورة البلشفية، وعرضت المسرحية في مسارح موسكو وتفاعل معها الجمهور الروسي بشكل كبير، واستقبلها النقاد بحفاوة بالغة حيث اعتمدت الشكل الهجائي الساخر من خلال إدانة النظام البيروقراطي الذي بدأت ملامحه بالتشكل في العقد الأول من عمر الثورة الروسية خلال عهد ستالين. فقد ناقش الكاتب، المجتمع الروسي بعين المتفحص، بعيداً من المنطق الايديولوجي والحزبي، وحرر نفسه من التوجيهات العليا (الحكيمة). من هنا تأتي أهمية قيام الكاتب جوان جان والمخرج عجاج سليم، بالتقاط هذا النص "هوب هوب"، وتوظيفه وإنباته من جديد من خلال الأزمة التي تعيشها سوريا...

اعتمد عجاج سليم في تقديمه العرض، على خشبة "مسرح الحمراء" خلال الشهر الجاري، على تقنية المسرح داخل المسرح، حيث ننتقل بين مسرحين مختلفين كلغة ومكان وفضاء مسرحي. فمن جهة نحن أمام مسرح واقعي، يتناول ما يدور في كواليس المسرح من خلاف بين الكاتب والمخرج والممثلين ومعاناتهم الحياتية. ومن جهة ثانية، نحن في خضم عرض مسرحي على الخشبة (اقتحام الجزيرة القرمزية من قبل غرباء، تجسد أمامنا هذا الاقتحام عبر عوالم غرائبية افتراضية من حيث الديكور والأزياء واللغة، لكننا نرى أيضاً تضامن سكان الجزيرة للدفاع عن جزيرتهم والحفاظ على نقائها).

بروفات العرض تسير برتابة ومعاناة، حيث يتأخر بعض الممثلين بسبب الحواجز وتعترضهم صعوبات كثيرة، إلا أن رتابة البروفا يكسرها دخول متعهد حفلات غنائية لبعض المطربين لتقديم عرض مغر للمخرج: تقديم العرض في أميركا وفي ولايات عدة... هذا العرض يزلزل ركود البروفا في ظل الحرب السورية الطاحنة... السفر إلى أميركا، إنه الحلم... لكن على المخرج وفريقه تطويع العرض ليكون مناسباً للعقلية الأميركية والمزاج السياسي الأميركي. لذلك يطلب المنتج تعديلات كثيرة على بعض المشاهد والمفردات والحوارات، وهنا نشهد صراعاً كوميدياً بين الكاتب من جهة، ومخرج العرض والمتعهد من جهة ثانية. إغراءات الشهرة والمال والمستقبل الفني، تجعل المخرج يتواطأ مع المتعهد ويقبل بكل التعديلات المطلوبة لتناسب العرض في أميركا، وتقوم الفرقة بتقديم البروفات ليُشاهدها المتعهد الذي يطلب الابتعاد عن كل العبارات التي تُدين الخارج والغرب والاستعمار... في حين ينفجر الكاتب غضباً مع كل تعديل، لكنه وفي كل مرة يرضخ تحت الضغط أمام حلم السفر الى أميركا...

الصراع بين كاتب مسرحي يتلعثم، ومتعهد أخبار الكباريهات ومجتمعها، يتفاعل مع زخم كوميدي، بعضه ارتجالي حيث وجد الممثلون مساحة للعب في متن النص وهوامشه، فكانت كوميديا استثارت الضحك والتصفيق، وإن ابتعدت عن تيمة النص. وفي بعض المشاهد، يتعالى الصراخ والانفعال المبالغ فيهما، من دون فاعلية درامية، وبدتا مقحمتين على العرض إقحاماً.

ثمة مستويان في "هوب هوب"، المستوى الأول: تجسد في أداء المجموعة كفريق تمثيلي يقوم بالتعديلات المطلوبة، يتداخل هنا أيضا صراعهم الحياتي مع صراعهم المسرحي. والمستوى الثاني: شخصياتهم على الجزيرة المهجورة، وما فيها من مبالغات أدائية باعتبارهم يجسدون شخصيات بدائية.‏

يتصاعد الصراع بين أفراد فريق العرض لنصل في النهاية الى رفض عرض المتعهد حيث تتغلب منظومة الشعارات القومية المستهلكة على رغبة السفر... وهنا تتسلل إلينا خيبة أمل، إذ يتناغم العرض مع الخطاب الإعلامي الرسمي. وقبل أن تتمكن منا الخيبة، يقدم المتعهد عرضاً جديداً للفرقة يقضي بإلغاء السفر الى أميركا واستبداله بعرض مغر بالسفر الى روسيا لتقديم العرض هناك. مع ما يتطلبه ذلك من تعديل جديد يناسب النمط الروسي وبهذه "العكفة" الدرامية ينتهي العرض وتنفجر الصالة بالتصفيق...

الديكور البسيط أعطى عمقاً لفكرة العرض، وخاصة خلال الكرسي الكاريكاتوري والقضبان التي توحي بأننا في سجن رحب، كإحالة للمعاناة التي تعيشها سوريا حالياً. واتخذت الإضاءة شكلاً ثابتاً خلال بروفات المسرحية أمام المتعهد، لتوحي بواقعية حياة أعضاء الفرقة، بينما تنوعت الإضاءة لتكون مناسبة للمشاهد في الجزيرة مع غنى لوني يعمق الإحساس بالبحر وبالبيئة البحرية وشخصيات الجزيرة التي تتعرض للابتزاز في صفقات التبادل بين اللؤلؤ والبيبسي كولا...

لعب دور الكاتب "فؤاد"، الفنان محمد خير الجراح، الذي يصر على الوقوف فوق خشبة المسرح الفقيرة رغم عمله التلفزيوني الوافر، فقدّم شخصية غنية بحركتها وبتلعثمها، ليكثف كيفية تعاطي المتعهدين والمخرجين مع الكتاب، كونهم الحلقة الأضعف في كل الأعمال الفنية. ولعب دور "المتعهد"، أسامة الحفيري، الذي يتلون بحسب اتجاهات الريح، مستخدماً لهجة أهل الساحل، لتزيد جرعة الكوميديا في أدائه وتعطي الانطباع بسطوته كمالك للمال ومفاتيح الشهرة. وجسّد الفنان كفاح الخوص، دور "المخرج" الباحث عن مجد ولو على حساب قيم الفن والفكر، انه المطواع لسطوة رجال المال. وأغنى الخوص أداءه بحرفية عالية باستخدام صوته وجسده حيث أمسك شخصيته بحساسية عالية مع عفوية أداء متقنة. أما فادي الحموي، فتابع كما هي عادته في كل العروض المسرحية التي يشترك بها، خفة دمه وتجليه على الخشبة التي يترك نفسه على سجيتها لتكون (الخشبة) فضاء وملعباً لروحه العاشقة للمسرح...

"هوب هوب" عرض مسرحي يتكئ بتسميته الشعبية الدارجة على الحدث السوري كخلفية لمقولة العرض مع لغة كوميدية ساخرة راقية. عرض يعيد للمسرح الشعبي ألقه الذي تجسد بازدحام شديد في صالة "الحمراء" وبشكل يومي، ورغم أصوات القصف والاشتباكات والحواجز المنتشرة في المدينة غامر الجمهور ليحتشد في المسرح بحثاً عن فرح مأمول ومفتقد ومتعة غيّبها التوحش...


"هوب هوب عن نص "الجزيرة القرمزية" لميخائيل بولغاكوف
اقتباس: جوان جان، وإخراج: الدكتور عجاج سليم.

تمثيل: محمد خير الجراح، كفاح الخوص، أسامة الحفيري، محمد حمادة، نجاح مختار، طارق عبدو، مي السليم، مهران نعمو، فادي حموي، نور الحسيني، مجد الحفيري، خوشناف ظاظا.تصميم ديكور: سمير أبو زينة.
موسيقى: سيمون مريش، تصميم إضاءة: بسام حميدي، ماكياج: سلوى حنا، مساعد مخرج: خوشناف ظاظا. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها