الخميس 2015/03/05

آخر تحديث: 14:05 (بيروت)

ليالي المدن: دمشق تحيل سهرها إلى نهارها

الخميس 2015/03/05
ليالي المدن: دمشق تحيل سهرها إلى نهارها
أعطت المدينة متعة ليلها للصوص وطيور الظلام (غيتي)
increase حجم الخط decrease
من يتأمل طريق التل - جمرايا، يدرك حجم الخواء الذي أصاب دمشق، وأحال ليلها صمتاً مخيفاً. فهذا الطريق الذي كان، حتى الأمس القريب، يعج بالنوادي الليلية، وليله أهم من نهاره، بازدحام السيارات ورواد من معظم الدول العربية وخصوصاً الخليجية، والإعلانات المنشورة في طرقات دمشق مُعلنةً عن حفلات (سواريه وماتينيه) يحييها مطربون من كل صنف ولون، ترافقهم راقصات في صخب موسيقي يختلط مع صوت المطرب وغيوم الدخان ومشاجرات النُدّل والزبائن...

مع بداية الأحداث- الأزمة وتصاعد العنف والحرب، أغلقت النوادي أبوابها، وصدئت إعلاناتها، وتكسرت لوحاتها المضاءة، وتشوهت عناوينها، وشد كُثر من "فنانيها" الرحال الى أمكنة وبلدان أكثر أماناً (لبنان- الأردن- بعض بلدان الخليج). بل حولت الأحداث قسماً منهم، إلى شحاذين يملأون الحدائق والشوارع، أو بنات هوى صار رجالهم قوادين... مع تنزيلات كبرى للزبائن المحليين، ذلك أن البحث عن القوت أصبح مضنياً للجميع.

في المقلب الآخر، رحّلت المؤسسات الثقافية أنشطتها الى النهار، بدلاً من الليل المخيف. فغالبية عروض المسرح السوري صارت تبدأ الساعة الرابعة أو الخامسة عصراً. ورغم ازدحام بعض العروض بالجمهور، وانتعاش مسرح العاصمة خلال العام 2014، إلا أن الجمهور يتلاشى مع تحية الممثلين في نهاية العرض، ليسارع كل شخص الى بيته قبل حلول الظلام... فأحاديث الخطف والاشتباكات في المناطق الساخنة، وكثرة الحواجز، تجعل الناس يلتزمون بيوتهم ليلاً، ليقتصر خروجهم بعد غياب الشمس على الضروريات، وإن تحسنت الحالة الليلية لبعض الأحياء، مع اعتياد الأزمة والقذائف، والأمان النسبي في قلب العاصمة، فنشطت، إلى حد مان كافيتريات ومطاعم باب توما والمزّة وأبورمانة والمالكي، مساءً، قياساً بأحياء أخرى أبعد، يلفّها السكون.

وما يعزز قلة الحركة في الليل، الوضع الكارثي للكهرباء. التقنين لساعات طويلة يؤثر في روح المدينة وحركتها، والكثير من العروض المسرحية توقف بسبب انقطاع الكهرباء في منتصف العرض، وبعضها كان يستمر على ضوء الشموع. في حين تهمد الحركة تماماً في مقاهي المثقفين. فمَن بقي منهم في البلد، وهؤلاء قلة، اقتصر نشاطه الاجتماعي على النهار. اللقاءات مع الأصدقاء والأحاديث عن الأزمة والأحدا،ث وتشابك المواقف والحوارات الساخنة (القليلة)، انتقلت الى بعض الزوايا النهارية في مقاهٍ أصبحت تحدد ساعات عملها.

حتى الملتقيات الناشئة، في ظل الأزمة، لسد بعض الفراغ الثقافي الناتج عن رحيل غالبية مثقفي سوريا الى الخارج، تقيم نشاطها نهاراً وقبل الغروب، مثل "أضواء المدينة" الأسبوعي في مقهى "نينار" الساعة الرابعة من عصر كل سبت، وكذلك ملتقى "خمر وشعر"، و"ثلاثاء الشعر"... وهذه ملتقيات يشرف عليها شباب يتمتعون بحساسية أدبية وفنية جديدة، فضلوا البقاء في البلد والسعي إلى إبقاء شيء من روح دمشق متقداً، رغم الموت والدمار...

لكن، ورغم هذا الصمت الدمشقي الليلي، ثمة من يستثمره أفضل استثمار. فإثر "تراجع" سلطة الحكومة وانتشار السلاح بين الناس والمجموعات المساندة للحكومة، انتشرت ظاهرة سرقة السيارات بكثرة، وفي أحياء راقية مثل المزّة وابن النفيس ومساكن برزة... كل ليلة، تسع عن سرقة سيارة أو أكثر، وأحياناً تتم هذه السرقات في مناطق محروسة جيداً، وقرب الحواجز المنتشرة في المدينة بكثرة. وانتعشت أيضاً "أسواق التعفيش" في بعض المناطق، حيث تباع، في المناطق الآمنة، المحتويات المسروقة من منازل المناطق الساخنة. وهذه تنشط مع غروب الشمس، ولفترة محددة، في أزقة جانبية، كسوق جرمانا مثلاً.
المدينة المضاءة والمتلألئة بمحلاتها وبمقاهيها ومطاعمها وازدحام شوارعها وحوارات مثقفيها، أعطت متعة ليلها للصوص وقطاع الطرق وطيور الظلام...

ويحدث أن تخرق خوف الليل الدمشقي وعتمته، كاميرا التلفزيون السوري، التي تلتقط صور الأفراح وبعض الحركة في قسم من الأسواق، لتنقل الفرح والرقص ودخان النراجيل إلى جمهور البيوت، سعياً منها إلى إقناع الرأي العام (في الخارج) بأن كل شيء طبيعي في العاصمة ويسير كما كان قبل الحرب، و"للتأكيد" بأن ما تبثه التلفزيونات الأخرى (المغرضة) ما هو إلا أكاذيب وفبركات إعلامية، هدفها ضرب محور "المقاومة"، فيما الموت وأزيز الرصاص يملاً الهواء، على بعد أمتار من مكان الكاميرا وابتسامة المذيعة...

وتزيد من حلكة الليل الدمشقي، قذائف الهاون التي يطلقها متطرفون إسلاميون من ريف دمشق على العاصمة. فلا يبقى أمام المواطن إلا الجلوس في بيته، محتمياً بالجدران، ومتسمراً أمام شاشة التلفزيون (في حال عدم انقطاع الكهرباء)، لمتابعة الأخبار والمسلسلات، ونسيان ما يجري في الخارج، كمحاولة شجاعة للبقاء على قيد الحياة والتأقلم مع حرب قد تطول أو ربما تبدو لبعضنا أبدية....

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها