الإثنين 2015/03/30

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

"العاشق" لعبد اللطيف عبد الحميد: الحب في مرمى الشعارات

الإثنين 2015/03/30
"العاشق" لعبد اللطيف عبد الحميد: الحب في مرمى الشعارات
يحاول عبد اللطيف عبد الحميد العودة مجددا إلى سيرته الذاتية
increase حجم الخط decrease
يحاول المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، في فيلم "العاشق"، الذي يعرض حالياً في صالات دمشق، العودة مجدداً إلى سيرته الذاتية، أو ملامح منها، ليعيد تشكيل صورة بانورامية عن سوريا بين زمن السبعينيات والزمن الحالي، عبر سرد رومانسي مفعم بالألم لقصة المخرج السينمائي (مراد – عبد المنعم عمايري) وعائلته بالتوازي مع قصة الفيلم الذي أنجزه ويجري له عمليات المونتاج الأخيرة. هنا تتداخل الصورة بين الفيلم وبين السيرة الذاتية بين الآن (مراد المخرج) وماضي الطفل الذي كان مراهقا ثم تابع درايته ليصبح مخرجاً.

في المشهد الاستهلالي نرى مراد وريما (حبيبته- ديما قندلفت) في الطريق إلى موقع المونتاج، حيث تتوقف السيارة لحظات ليشتري السائق شيئا ما، فيتقدم شخص من المخرج ويسأله: "أنت المخرج السينمائي مراد"؟ وعندما يجيب بنعم، يقول له: "أنت أجحش مخرج في العالم"... ويتبع ذلك ببصقة، وحين تسأله ريما: مين هاد؟ يقول لها: هذه صورة من النقد السينمائي في البلد.

ننتقل في جزيرة المونتاج لرؤية فيلم مراد المنجز حديثا.. أسرة ريفية تعيش في قرية ساحلية تعاني البؤس، تعمل في الأرض (مصدر رزقها الوحيد)، فيما الطفل مراد يدرس في الصف التاسع ويساعد عائلته، إضافة لإحضار الخبز يومياً من الفرن.. الأب يعقد الاجتماعات البعثية بشكل دائم في بيته. فبعد ترديد الشعر "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، يبدأ الرفاق بمناقشة المنطلقات النظرية لحزب البعث. فيما الزوجة وابنتها مشغولتان بصنع الشاي والأكل للرفاق مع التبرم من هذا الواجب القاسي الدائم (تقول الابنة ما في غير بيتنا يعملوا الاجتماعات فيه؟) الأب بنظرة حالمة يقول لزوجته: "تخيلي يا أم نزار الأمة العربية من المحيط إلى الخليج دولة واحدة"!


ترديد شعار البعث (أمة عربية واحدة) سيكون لازمة الأب في صورة بليغة وساخرة عن الشعارات الجوفاء والوهم الذي ساد لأكثر من نصف قرن كغطاء إعلامي وأيديولوجي للهزائم الواقعية وتعميم الاستبداد..

يكمل صورة الأب، مدير المدرسة صاحب الكرش (فادي صبيح)، القاسي والجلاد الذي يتجسس على المدرسين ليعرف ماذا يقولون في الدروس، المدير يحمل العصا بيده دائما ويدخل الصفوف بشكل مفاجئ. انه صورة المدير المرعب البعثي الذي يقدس ترديد الشعار (أمة عربية واحدة)، فعندما يرى مراد صامتاً لا يردد الشعار يصفعه بقوة على خده رغم تبرير التلميذ أنه مريض.

حين يكتشف المدير صوت أبو نزار (والد مراد) القوي القادر، يقترح عليه ترديد الشعار من منزله ليرد الأساتذة والطلاب وراءه رغم بعد المسافة بين المدرسة والبيت، فكل يوم يرن منبه الساعة المعلقة على الشجرة في الثامنة صباحا، فينطلق صوت أبو نزار (أمة عربية واحدة) فيردد الطلاب وهم بعيدون عنه "ذات رسالة خالدة... أهدافنا وحدة، حرية، اشتراكية" في مشهد كوميدي مؤلم يشي بكل الخراب الذي حدث في ما بعد. المدير يذهب إلى الشام ليصبح ضابط مخابرات، فيكون يوم مغادرته عيد لدى المدرسين والطلاب، فهو رمز للقسوة والعنف في المدرسة.  

الأب القاسي (يلعب الدور المخرج نفسه) وفي الوقت نفسه الحنون والطيب، يمنع ابنه (مراد) من تقديم الامتحان في اللاذقية، لأنه بحاجته في الأرض، تتدخل أخته وتقول للأب: "أنا بشتغل وبجيب الخبز خلي خيي يروح يقدم امتحان". يرضخ الأب فيرسل ابنه إلى أخيه الساكن في اللاذقية في غرفة بائسة والمغرم بالنساء والجنس، حيث يرى وجود أخيه معه تضييقاً لحريته وعلاقاته فيبدي غضبا منه.

ومن جديد يتلقى مراد صفعة جديدة من والد فتاة أحبت مراد في اللاذقية حين طلب يدها على الباب وهو برفقة صديقه عمر، لكي ينقذها من الزواج بملاكم صديق لوالدها في الملاكمة..

نعود لنتابع تفاصيل حياة المخرج السينمائي الآن.. حيث يقع - أثناء عمليات المونتاج لفيلمه - في حب جارته الصبية الجامعية ريما (ديمة قندلفت)، والتي تعاني أيضا من القمع حيث تتعرض للضرب كلما تأخرت عن البيت. وهنا أيضا ولأكثر من مرة تصفع ريما مراد حين كان يحاول تقبيلها: "بحس حالي عارية لما تبوسني من تمّي".

ومن المفاصل المهمة في الفيلم استدعاء المخرج من قبل الأمن وهو في المونتاج بسبب لقاء تلفزيوني معه تحدث فيه عن طفولته وقسوة مدير المدرسة! وللمفارقة الكوميدية يكون ضابط الأمن هو مدير المدرسة القاسي نفسه: "شوف ولا، إذا ما بتقصر لسانك أنا بقصلك ياه". يستغرب مراد: أنا بشتغل بالسينما وبس. يقوله له الضابط في حوار مهم وذي دلالة عميقة على النهج البعثي "لو لم نكن قساة معكم ما صرتو"؟ يجيب مراد: "كنت بدي اترك المدرسة بسببك لكن اجا بعدك مدير عاملنا متل ولادو مشان هيك كملنا دراسة"...

ريما تهجر البيت بسبب قسوة والدها، وتسكن في بيت مراد بعد اضطراره للسفر إلى الضيعة لإصابة والده بغيبوبة. حيث تكون ريما عندما أُخبر بمرض والده في بيته فتبقى في البيت.

في المشهد الأخير نراهما في الصباح الباكر على سطح البيت، توقظه ريما مع مشهد طبيعي ساحر تنقله برومانسية كاميرا عبد اللطيف، فيما والده يحاول ترديد شعار "أمة عربية واحدة" لكن بصوت مبحوح ضعيف يتلاشى صوته فنسمع وهو يموت بتراجيدية هتاف قوي ينبعث من الطبيعة ومن عمق الأرض "واحد واحد واد الشعب السوري واحد" الشعار الذي عنون بدايات حركة الاحتجاجات الواسعة في سورية وحل محل شعار البعث.

عبد اللطيف عبد الحميد يصوغ فيلمه العاشق بمهارة عبر سرد بصري مؤثر من خلال كاميرا تنتقل بين ثلاث أمكنة (الضيعة، اللاذقية، دمشق) لتحيك رؤيا المخرج التي تمزج الماضي بالحاضر عبر مسارين متداخلين (خاص وعام). في الأولى عبر الفيلم، وفي الثانية عبر حياة المخرج، وهو يتابع انجاز فيلمه، حيث يفكك المخرج من خلالهما الوهم الأيديولوجي القومي المحمول على عصا الاستبداد والقسوة والصفعات (الأب، المدير، ضابط المخابرات) والذي أوصلنا للخاتمة الحزينة التي فيها نعيش الآن.

الفيلم بحث عن هوية مفتقدة ومحاولة ترميمها عبر صداقة مراد وعمر في إحالة لرفض المسار الطائفي للأحداث. فصداقة الاثنين المتينة تشكل صورة مغايرة لخطاب الأطراف المتصارعة خلال الأزمة السورية المتمحور على البعد المذهبي.. وفي الوقت نفسه الفيلم ينتصر للريف في مواجهة المدينة القاسية، فهو يهرب إليها لتحميه من والد ريما ومن الصفعات ومن الأمن، فالضيعة تمثل البراءة والطهرانية.

ديمة قندلفت تتجلى في دورها كوجه معبّر، مع رقة في الأداء الصوتي، ونعومة في الحركة، وإغراء شفاف، تناغم مع الاداء الواثق لعبد المنعم عمايري الممسك بشخصيته وبتفاصيلها النفسية والخارجية مع مسحة رومانسية خالطت جديته.

ورغم مهارة المخرج في صنع لوحة فنية غنية بصريا وفكريا، إلا أن الفيلم تضمن بعض نقاط الضعف منها: مشهد السكير المفجوع بموت أهله في مجزرة صبرا وشاتيلا، فكلما سكر يصعد السطح حيث يسكن المخرج مراد ليصرخ ويشتم العالم، انه مشهد نشاز في سياق الفيلم. ومشهد صفع المخرج من قبل مواطن في الشارع والبصاق عليه وغمز المخرج من قناة النقاد رغم أنه لم ينجز فيلمه الأول بعد. جاء هذا المشهد مقحماً، يضاف إلى ذلك مشهد خلع الباب، عندما يعود مراد من الضيعة يستعين بجاره والد ريما لفتح الباب لأنه نسي المفتاح في الداخل، بينما تكون ريما في الداخل نائمة دون معرفة مراد طبعا، ففيه شيء من صدف الدراما الرديئة، وكذلك بعض مشاهد الدكتور عمر في المستشفى حيث تبدو زائدة عن الحاجة وكأن القصد منها التأكيد على مهنة عمر.

الجدير بالذكر أن الفيلم أُنتج العام 2011 وكان السيناريو منجزاً العام 2010، فعدّله المخرج ليناسب المستجدات، والفيلم تعرض للمنع في مهرجان القاهرة 2011 حيث هدد بعض المعارضين بإحراق دار الأوبرا إذا عرض الفيلم، كون المخرج حسب هؤلاء محسوب على النظام. كما منع الفيلم بسبب ضغوط المعارضة من العرض في مهرجان دبي 2012.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها