بإيقاعٍ واضحٍ ومتسارع، تتماهى طبيعة علاقة مافيات الحكم في لبنان بالمحقّق العدلي بجريمة انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق بيطار، مع طبيعة علاقة مافيات الإجرام في إيطاليا بالقاضي جيوفاني فالكوني. لطالما كانت مشاعر النفور والارتياب أو حتّى الكراهية والعداء، بأيّ مسارٍ قضائي، متبادلةً بين المتّهم والقاضي. في الجوهر، وحدها مساحات المودّة بين الأخيرين تُفصح عن ارتيابٍ شديدٍ ومشروعٍ لمناصري العدالة. هذه العلاقة السلبية والعاصفة بين مسؤولي الحكم في لبنان وبين القاضي بيطار لا تأتي بالسياق الطبيعي لعلاقة متّهمٍ بدَيّانه، فالأسلوب اللبناني في الحكم، لا مثيل له أصلاً. ساسةٌ يتّهمون محقّقاً بالتسييس، وفي ذلك كمٌّ هائلٌ من الوقاحة والتناقض. إذا كان الساسة أجمعون مجمعين على أنّ التحقيق مسيّس، فمن بحقّ القدير يقف خلف تسييسه؟ في بديهيات المنطق، أيّ كلامٍ للساسة في التحقيق هو تدخّلٌ فيه وتسييسٌ وقحٌ له.
سيرة سينمائية
في سيرة القاضي فالكوني، كانت المواجهة بين سلطةٍ مرتعبةٍ وقاضٍ مقدامٍ وبين مافياتٍ مجرمةٍ وجريئة. أمّا في النسخة اللبنانية من الحرب القضائية، السلطة هي المافيا بوجه قاضٍ وحيدٍ وشجاع. قد نرى في المستقبل القريب، فيلماً سينمائياً يستند إلى سلوكيات مافيات السُلطة عقب جريمة انفجار مرفأ بيروت على غرار "The Godfather"، ثلاثية المخرج فرانسيس كوبولا، و"The Untouchables"، رائعة المخرج بريان دي بالما عن المافياوي آل كابوني. فيلمٌ قد يُعتمد فيه لقب "السيّد" بدلاً عن "الدون" للعرّاب فيتو كورليوني، لضرورات اللبننة. يُرّجح أيضاً أن يحصد العمل السينمائي العديد من جوائز الأوسكار عن فئة أفضل آداءٍ تمثيلي بدور الشرير.
رجل ميت يمشي
أمضى القاضي فالكوني مسيرته، بمواجهة مافيات إيطاليا، منتظراً منيّته في أيّ لحظة، حتّى لقبته الصحافة الإيطالية بـ"رجل ميت يمشي" المستوحاة من المقولة الأميركية الشهيرة "dead man walking"، والتّي كانت تُطلق، أوائل القرن الماضي، على المُدانين بانتظار تنفيذ حكم إعدامهم للدلالة على موتهم الحتمي. يدرك كثيرون في لبنان أنّ قوّةً ما "خارقة للطبيعة" تلعب دائماً دور عزرائيل مع كلّ من يقلق راحة حزب الله، ويوقن الجميع أنّ من يتناوله أمينه العام جهاراً وتكراراً في خطاباته ومن تصله تهديداتٌ واضحةٌ من رئيس وحدة التنسيق والارتباط فيه هو أيضاً، كما فالكوني، رجل ميت يمشي.
ليس الرجل الخارق
ليس القاضي بيطار "سوبرمان" أو أي بطلٍ خارقٍ آخر، بل هو مجرّد قاضٍ يحاول القيام بواجبه. الفرق بينه وبين قضاةٍ آخرين في لبنان هو ببساطة كالفرق بين شقته السكنية وبين القصر المهيب لأي قاض آخر. بشكلٍ عام، إمّا أن يكون القاضي أليف المافيات والميليشيات والسلطة وإمّا يكون حبل خلاص.
اعتادت آلهة السلطة في لبنان أن تطفو فوق القوانين والمسؤوليات والمحاسبة. اعتادت أيضاً على مسرحيات المسارات القضائية كلعبة ابتزازٍ سياسيٍ لا أكثر. في الأمس القريب، جلس متّهمٌ بنهب قروض الإسكان على رأس السلطة التنفيذية في البلاد، وقبله من كان إبراؤه مستحيلاً.
ليست القضية، في الجوهر، قضية حصانات غير مرفوعة وجهات غير مختصة أو أصول قانونية واجتهاداتٍ دستورية، ولا هي ارتياب مشروع. الجوهر هو أنّ أي مشروع لرفع سقف القانون فوق هالة الزعامات هو، في باطن عقولها، مشروع ارتياب.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها