الفقراء وحدهم يدفعون ثمن الحروب، بدءاً بثمن نبال الرصاص وحشوات الصواريخ وبدل أتعاب مطلقيها، وصولاً إلى الموت بحديدها ونارها. جروحٌ ودماءٌ وجوعٌ وعراء. الفقير هو حلقة الكوكب الأضعف.
الأثرياء والنافذون لا يدفعون. لا يموتون. لا يُهَجَّرون. هم يتنقّلون بين مآمن هنا وهناك. حتّى في أقسى مساحات النزاعات وأشدّها دموية، أحدٌ منهم لا ينام ببطن خاوٍ، أو في العراء.
في غالب الأحيان، أولئك الذين يقرّرون الحروب ليسوا هم من يحاربون. ربّما لو أنتجت الحضارات باكراً تعويذةً ما، ألزمت صانعي قرارات الحروب بالقتال فيها، لما حوى التاريخ هذا الكمّ الهائل من النصال والنار والدموع والدماء. الأثرياء والنافذون يكذبون ويقرّرون والفقراء يصدّقون ويحاربون... فيموتون.
ليست غزّة استثناء للقاعدة القاتمة تلك، بل هي مثال غيّور عليها. الإستثناء الوحيد فيها هو أنّ الغزّاويّين أمسوا كلّهم فقراء. هناك لم يبق إلّا الفقر والقهر. غزّة هجرَها الثراء. يبدو أنّ نظام الغازي الإسرائيلي للفصل العنصري ليس كتيم ثروات. فالتفقير هو مرحلة مبكرة وجوهرية من شرّ مشاريع الجهات المتمَكِّنة في الثراء والنفوذ. مرحلة يليها عادةً سلبُ سعادة وسلامة وحرية، أو حتّى تاريخ وجغرافيا مجموعة ما من الناس، بعد أن يزيحهم الفقر إلى هامش الإهتمام.
الوقوع في الهامش هو أمرٌ مفرط الخطورة. لا عدالة هناك ولا مساواة. لا حقوق ولا حقائق ولا قواعد ولا مسلّمات. هناك فقط، تسقط حجّة ملكيّة البيت والبستان والذكريات المذيّلة بختم رسميّ عريض، وإرث علنيّ مديد أمام حجّة توراتية مذيّلة بوعدٍ بريطاني وانحيازٍ أميركي. هناك يُسلب ابن الأرض حقّ الدفاع عن نفسه ويُهدى لِغازِيه. هناك أيضاً يُقتل القتيل ثمّ يُقتل مَن يمشي في جنازته. يُجرَح الطفل ليقضي تحت أنقاض مَشفاه. في الهامش، تُقصف المدرسة ثمّ يُعيَّر التلامذة بالجهل. يُهدم البيت ليُعيَّر قاطنه بالتشرّد. ويُهجّر وطن بأكمله ثمّ يُعيّر بهشاشة العبّارات وضيق المخيّمات وثقل اللجوء وحلم العودة. فقط في الهامش، ترقّ قلوب الأمم جمعاء للبُكاة أمام حائط معبد من التاريخ، وتقسو على بكاء الأطفال خلف آخر حائطٍ للفصل العنصريّ في التاريخ.
القطاع المقطوع تماماً عن العالم يدفع اليوم، مُتخماً بفقرائه، ثمناً ثقيلاً لحربٍ لا يُمسك أهله بزمامها. هم أُغرِقوا فيها بِلا فرصة نفسٍ أخيرٍ ليقاتلوا فيها حتّى نفسهم الأخير. الفلسطينيون عالقون في دوّامات قتل وإبادة مقتدرةٍ ومتوحّشةٍ يستحيل كسرها قبل الخروج من الهامش. قد لا يكون ذلك أقلّ تعقيداً وصعوبة بكثير من تحرير فلسطين، لكنّه مفصليّ.
إمّا الخروج من الهامش… وإمّا الموت الحتميّ.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها