الثلاثاء 2023/02/21

آخر تحديث: 10:35 (بيروت)

"رجلاه أولاً"

الثلاثاء 2023/02/21
"رجلاه أولاً"
تعطيل النصاب هو تقليد سياسي فولكلوري لبناني (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

في تمام الساعة الواحدة والسبع عشرة دقيقة، من ليل الثالث والعشرين من شباط، في العام 1988، أدخل رجال شرطة مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور الجمهوري بوب باكوود محمولاً عنوةً، من رِجليه أوّلاً، إلى داخل قاعة التشريع بسبب تغيّبه، بنيّة تعطيل النصاب، عن جلسة مخصّصة للإصلاح الضريبي. ظروف وتاريخ وتوقيت واقعة إحضار السيناتور باكوود مدوّنة بدقّة على الموقع الرسمي لمجلس الشيوخ. تطبيق القانون هو مفخرة للمؤسسات الديموقراطية. ممتعٌ مشهد مسؤول محمول نحو القيام بواجبه. مشهد لم يزر يوماً عيون أو مخيّلة مواطن لبناني.

حاول الجمهوريون يومها تعطيل جلسة لمناقشة ورقة مقدّمة من الديموقراطيين عبر إطالة مداخلات أعضائهم داخل المجلس حتى فقدان النصاب. مماطلة سياسية (filibuster) مموّهة بالقانون، إذ لا يحدّد النظام الداخلي للمجلس مدّة زمنية لتلك المداخلات. ماطلْ ما شئت طالما أنّك داخل القاعة. أمّا أن تمتنع عن حضور ما انتُخبت لفعله، ففي ذلك مخالفة يحاسب عليها القانون. بقي الديموقراطيون داخل القاعة رغم مماطلة خصومهم، وما إن خرجوا حتّى طلبوا جلب الغائبين منهم محمولين، وأرجلهم أوّلاً (feet first)، كما ينصّ القانون.

"لم أحضر طواعية بالكامل"، قال السيناتور المحمول فور وقوفه على رجليه. كان باكوود فصيحاً ويختار كلماته بعناية ودراية. فَصَل الرجل، بوضوح، بين الرفض السياسي للجلسة والطواعية القانونية لحضورها. لم يستسغ الحضور لكنّه ارتضى فعل جلبه بالقوّة؛ قوّة القانون.

أكمل الرجل الجلسة كأنّ شيئاً لم يكن. لم يستنكر حزبه فعل الجلب ولم يغضب أيّ من مُواليه. لم يقل أيّ من رئيسَي الحزبين الجمهوري والديموقراطي أنّ الضعيف وحده يلجأ إلى القانون. لم تتجاهل شرطة المجلس تنفيذ مهمّة الجلب ولم يطلق أيّ من عناصرها الرصاص على صدور أحد. لم تُفقأ يومها عيون أحد. لم تُنتهَك حرمة الجماعات والطوائف ولم يهتزّ السلم الأهلي. لا أحد يعترض على تطبيق القانون، وإن أتى في سياق لا يخدم مصالحه ونواياه.

طقوس تعطيل النصاب هي تقليد سياسي فولكلوري لبناني. مواعيدها ثابتة. فنّانوها ثابتون ونغماتها ورقصاتها وسيناريوهاتها ثابتة. ليس القانون سقفها بل سجّادتها الحمراء أو ممسحتها المتّشحة بالوحول والدماء. وحده القانون غير ثابت. جلسات لانتخاب رئيس للبلاد، فقدنا سياق تعدادها، عُطّلت بلعبة النصاب. نوّاب يدخلون ويخرجون بلا عناء التغطية بحرف من نصوص القانون. لا مداخلات لامتناهية هنا، بل مجرّد وقاحة وبلطجة ومكابرة. جلسات تُرفع بطرقة مطرقة. شرطة المجلس تستلّ بنادقها نحو عيون المواطنين. يُخرجون المطالبين بتطبيق القانون ولا يُدخلون مخالفيه.

القانون يقول: انتخاب الرئيس إلزامي والتعطيل الممنهج ممنوع. لم يقل "اجلبوهم محمولين إلى داخل القاعة". لم يقل "أرجلهم أولاً" ظنّاً منه أنّهم، بالحد الأدنى، أهل ذرّة أخلاق. فإن حصل، في يقظة ما، أن تكبّد أهل إنفاذ القانون حملهم إلى قاعة الإقتراع والتشريع، فليكملوا بهم إلى السجون مرّة وإلى الأبد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها