الأربعاء 2014/10/29

آخر تحديث: 16:16 (بيروت)

لمن نبني؟

الأربعاء 2014/10/29
increase حجم الخط decrease
يُقال في العمارة وعلم التنظيم المديني أن أفضل طريقة لاختبار المدينة وفهم سلوكيات سكانها هو السير في شوارعها. والعمارة، كفعل إنساني، هدفها بناء حيز مكاني يحتوي الإنسان وأنشطته كافة (السكن، العمل والترفيه..). والحال أن العيش في المكان، في مسافاته وأبعاده، سواء أكان حيّزاً هندسيّاً مبنيّاً أو مكاناً طبيعياً لم يتدخّل الإنسان في تغيير معالمه، يتخذ صفة المكان كونه يحتوي الإنسان ويحدّد فضاءاً معيّنا له. ومن خلال الفعل الاجتماعي، يصبح المكان قابلا للتحوّل والتغير بإستمرار نتيجة لواقع الحياة وأنشطة الإنسان المتغيرة.

يقول سكالز (Schulz)، وهو معماري نرويجي، ومن أهم منظري العمارة الحديثة، أن "البيئة تكون ذات معنى عندما يبدأ الإنسان بالإنتماء إليها، وأن هوية المكان ترتبط بمفهوم المعنى، حيث يمثل المعنى وظيفة أساسية تتضمن الاحساس بالمكان والتفاعل معه". إذاً لا عمارة من دون الإنسان وغياب فعله، وهو التفاعل الاجتماعي.

السؤال الأول الذي يطرحه المعمار على نفسه "لمن نبني؟ لأي مجتمع نبني؟". خلال دراسة الهندسة المعمارية يتعلم المعمار- المستقبلي أن الخطوة الأولى في التصميم هي دراسة المحيط (السكني، الطبيعي والموقع..) الذي يسعى للبناء فيه. ثم تأتي دراسة تأثير هذا البناء على المحيط ذاته: جمالياً وعملياً. وهذا ما يتطلب، معرفة هوية مرتاديه، وفهم المجتمع الذي يبني المعماري من أجله، وقد يتطلب ذلك منه العيش داخل محيط البناء، لفهم ثقافته عموماً.

لنتخيّل مثلاً أن مهندساً يابانياً جاء ليصمم مبنى سكنياً في ساحة الشهداء في بيروت، بما يحمله هذا الشارع من أبعاد وطنية وتاريخية. إلى أي مدى ستنجح عمارته، ولم تطأ قدماه يوماً بيروت إلا عند توقيع عقد المشروع، ولم يسر في شوارعها، ولم يتكلم مع سكانها ولم يتآلف معهم، ولم يقرأ تاريخها حتى؟ وهذا ما حصل، فعلا، في مشروع "حدائق بيروت" (Beirut Gardens). والحال أن العمارة التي لا تنبع من صلب ثقافة المجتمع الذي نبني من أجله وحاجات ناسه الفكرية والمادية هي عمارة لاإنسانية.

إن أي عمارة داخل المدينة - على أي مستوى ومقياس كانت - يختبرها الناس من الداخل والخارج في آن معاً. من الداخل حين يرتادوها بحكم الدراسة، العمل، الطبابة، الترفيه، الخدمات العامة وأخيراً السكن. أي حين يسكنوها، وهذا من أهم أهداف العمارة. ومن الخارج حين يمرون بجانبها، فيرونها من قريب أو بعيد. يلمسونها ويختبرونها بحواسهم كافة، من دون القدرة على الدخول إليها بفعل الخصوصية (مثل المباني السكنية والتي تطغى عددياً داخل المدن)، أو قد لا تكون متاحة لهم كاستخدام. هكذا، فإن العمارة التي تحتوي الانسان وتشعره بالإنتماء، هي العمارة التي يمكن القول إنها إنسانية. وهذا ما يعزز دور المعمار في التأثير على حياة الناس وعاداتهم، وفي هيكلة نشاطاتهم، وخصوصا الاجتماعية.

يحكم الناس داخل المدينة على العمارة بمصطلحين وحيدين: جميل/ قبيح. غير أن الجمال والقبح هنا، لا يجب فهمهما سطحياً. فالجمال، بالنسبة للسكان، معمارياً، لا يُعبِّر حصراً عن جمال واجهات المباني، حتى لو بدت هذه الحقيقة غائبة. بل يعكس مدى إنسانية العمارة وتوجهها الى حاجاتهم، التي تتجاوز المادي منها الى الفكريّ. وهذا ما يمكن تطبيقه على القبح أيضاً. فهو، إنسانياً، عمارة لا تلبي حاجاتهم العملية ولا تخاطبهم فكرياً.

ولأن القبح والجمال مسألتان نسبيتان في العمارة، فإنهما يبرزان في جوانب عديدة: المقياس، النسب، الفراغات الداخلية التي يخلقها المبنى، والفراغ الخارجي/ التكوين الذي يفرض نفسه على الشارع، وهو ما تختبره النسبة الأكبر من السكان/ الناس. ويبقى الأهم مدى إتاحة هذه العمارة للتفاعل الاجتماعي بينهم.

وفي الواقع يصطدم المعمار، في لبنان، بعدة معوقات عند سعيه لتحقيق عمارة إنسانية –اجتماعية. فقانون البناء في بيروت، مثلاً، يُحدد الكميات، المساحات والتراجعات بمقاييس شبه معمّمة داخل جميع الأحياء. وثغراته كثيرة ولكن أهمها أنه لا يأخذ بعين الإعتبار الخصوصية الثقافية - الاجتماعية لكل حي أو شارع، بل يقسم المدينة إلى ستة أقسام قانونية يختلف عامل الاستثمار في ما بينها فحسب. إضافة إلى ذلك، لم يتطرق القانون إلى الجانب الجمالي للبناء (الواجهات، مثلاً) وهذا ما أفسح المجال أمام شركات الهندسة لإستيراد تصاميم عالمية تحت ما يسمى "International style" أو "العمارة المعولمة"، ولصقها في مباني بيروت، مما أنتج تنافراً معمارياً، كتجاور الناطحات مع مبانٍ ذات طبقتين أو ثلاث.

واستكمال هذا السياق في تجاهل الجانب الاجتماعي والعلاقات بين الفاعلين الاجتماعيين يبرز في قانون التنظيم المديني، الذي إهتم بتقسيم الأراضي وتحديد مسارات الطرقات العامة ومواقع أعمدة الكهرباء، فحسب. وهذا التجاهل للانسان الذي يسكن هذه المدينة يتجسد، عملياً، في قلة الساحات العامة، الحدائق والأرصفة، التي إذا وجدت لا تكون صالحة للاستنفاع العام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها