الخميس 2015/07/16

آخر تحديث: 16:13 (بيروت)

أسواق بيروت: تنميط ممارسات الاستهلاك

الخميس 2015/07/16
increase حجم الخط decrease
في إحدى محاضرات مادة "مفهوم المساحات العامة" (Conception des espaces publics) طُلب من طلاب ماستر التنظيم المديني في "الجامعة اللبنانية"، تعريف "المساحة العامة"، فجاءت الأجوبة مرتبطة مباشرة بمفاهيم "الحرية"، "إمكانية الوصول" و"الديمقراطية". فالمساحات العامة، وعلى تعدد أنواعها (ممرات مشاة، ممرات للدراجات الهوائية، ساحات عامة، حدائق، الشواطىء البحرية وأسواق تجارية...)، هي مكان استقطاب لجميع سكان المدينة، ومكان لذاكرتهم الجمعية، لجهة تغيراتها وأسباب تطورها وتمددها. والسوق، بإعتباره مساحة عامة، يعرفه فرانك ميرمييه (Franck Mermier)، وهو عالم اجتماع فرنسي متخصص بالمجتمعات العربية/ الإسلامية، تحديداً في اليمن ولبنان، بالصفات التالية: مفتوح أمام جميع الناس، مكان للتلاقي بين مختلف فئات الطوائف، غير مُمتلك، مساحة محايدة ومساحة متاحة للوصول والمشاركة.


والسوق في العموم هو حيز عام منظم على مستوى الشارع وممرات المشاة. والشارع هو مساحة عامة للتنقل ويشكل منطقة حيوية داخل المدينة. أما الأسواق التي تحد هذه الشوارع فتشمل مساحات خاصة، وتكون ملكاً لتجارها أو من يديرون هذه المحال. بينما يُعد الحيز العام المشترك بين هذه المحال والشوارع مساحة عامة لا سلطة رسمية أو خاصة عليها، فلا يمنع الناس من ممارسة نشاطاتهم فيها، مثل القراءة، الجلوس، التنقل وتناول الطعام، وقد توضع فيها مقاعد للجلوس، من قبل البلدية.

لكن المساحات العامة في بيروت محدودة وتكاد تكون معدومة. والمتاح منها يفتقر إلى الصيانة أو مغلق أمام الناس. ولا مفهوم واضحاً ومشتركاً بين سكان مدينة بيروت عن المساحات العامة، بل مفاهيم مشوهة. وذلك يرجع إلى عدم وجود مثال واضح وصحيح يمكن الركون إليه داخل المدينة. فممرات المشاة، إن وجدت، تتحول إلى مواقف للسيارات، أو توضع فيها عوائق تمنع استخدامها. على أن بعض السكان يعتبرون أن "السيتي سنتر" مكان عام. والبعض منهم لا يعرف أن الشاطىء هو مساحة عامة يحق لأي مواطن الدخول اليها من دون أي رسوم. وفئة كبيرة من سكان بيروت لا تعلم، في الأساس، أن المكان العام هو "حق" مكتسب لسكان المدينة بغض النظر عن انتماءاتهم.

في المقابل، حلت مكان المساحات العامة في بيروت، المساحات المخصخصة (espaces publics privatisées) كالمجمعات التجارية والمنتجعات البحرية الخاصة. وهي في الأصل أماكن عامة، ولكن مؤسسات خاصة تقوم بإدارتها وحتى تملكها، عبر مرسوم وزاري أو طرق أخرى كما حصل في وسط بيروت. وقد تمكنت هذه الأماكن من استقطاب سكان بيروت كما لو أنها تعوض غياب الأماكن العامة.

هكذا، اكتسبت هذه المساحات العامة "المخصخصة" شرعية واضحة. فأسواق بيروت والتي كانت موضوع بحث أجراه بعض طلاب الجامعة، في مادة مفهوم المساحات العامة، أمّنت لمرتاديها "الأمان"، "النظافة" و"الحداثة". وهذه الصفات مجتمعة خلقت تدريجاً، جمهوراً من المستهلكين، بالدرجة الأولى، يفضل الشراء الحر بالأسعار الثابتة والمحددة، ويرفض في المقابل العلاقة القديمة أو المرنة بين الزبون والتاجر. وفي سياق آخر، وكما يفهم من آراء الناس المستجوبين في الدراسة الميدانية التي أجريت على عينة مؤلفة من 53 فرداً من مرتادي المكان أو العاملين فيه، تمكنت المعايير التي وضعتها شركة "سوليدير" من إقناعهم بأن أسواق بيروت هي "مساحة عامة".

مع ذلك، يمكن ملاحظة إقصاء عمدي يحصل بحق بعض الفئات الاجتماعية داخل أسواق بيروت. فحين سئل أحد مرتادي الأسواق "هل يستطيع بائع الكعك أن يدخل إلى الأسواق بما أنها مساحة عامة؟"، أجاب: "لا بالتأكيد، هول الناس ممنوع يفوتوا لهون. الأسواق نظيفة ولازم نحافظ على هالصورة". فيما يرى موظف في إحدى المحال أن "الناس هنا يمكنهم التجول، بعيداً من المشردين الممنوعين من الدخول". وهذا ما يضبطه الحضور الكثيف والمنظم لرجال الأمن، كما كاميرات المراقبة الموزعة بدقة. أما المقاعد الموجودة داخل الممرات فمعدودة، ويصعب استخدامها لتناول الطعام مثلاً، مما يشجع على الدخول إلى المطاعم والمقاهي، وتكريس السلوك الاستهلاكي للزوار.

على أن المفارق أن النسبة الأكبر (92%) من مرتادي المكان، وفق العينة المستجوبة، هم دون الأربعين من العمر، أي تحديداً الجيل الذي لم ير الأسواق في حالتها السابقة، وكما لو أنّ هناك انقطاعاً شبه كلي بين جيلين. ورواد المكان هم في الغالب من الطلاب وموظفي القطاع الخاص. كما أن معظمهم يستخدمون سياراتهم الخاصة للوصول إلى الأسواق، وهذا ما قد يشير إلى ارتفاع مستوى الدخل، كما إلى عدم استقطاب المكان للمشاة وسكان المناطق المجاورة له.

ووظيفياً، لا تبدو أسواق بيروت غير مجمع تجاري للماركات العالمية وليس للتجار المحليين، وقد اتخذ "شكل" السوق، مستنداً إلى تاريخ ممحي من ذاكرة المدينة (سوق البرج)، ومتبنياً أسماء أسواقها القديمة (السوق الطويلة، سوق سيور، ساحة العجمي...)، ومقصياً ما لا يبدو متناسقاً مع الاتجاه الجديد، كما في تغييب سوق الخضار المعروف بـ"سوق الفرنج". بينما تحوّلت الآثار المتبقية داخل السوق إلى مطل لبعض المطاعم. وهذا على الرغم من إدعاء "سوليدير"، في المراحل الأولى لتسلمها مشروع إعادة إعمار الوسط، أنها شركة "رائدة بتبني مفاهيم المحافظة على التراث المديني في كل مراحل إعادة الإعمار، والمحافظة على أماكن الذاكرة لأهالي بيروت وسكانها".

هكذا، يبدو مشروع "سوليدير" لإعادة إعمار الأسواق قائماً على استبدال مجموعة من الممارسات التقليدية التي كانت تميز أسواق بيروت باعتبارها متاحة لجميع الناس، بمجموعة من الممارسات الحديثة تقوم على الصورة النمطية/ الاقصائية للأسواق التجارية التي تحمل طابعاً عالمياً، والموجودة في أي مدينة أخرى في العالم، من دون أن تطبع بطابع التراث المحلي وتاريخه. فإذا عرّفنا التراث على أنه مجموعة من الممارسات والقيم المحلية في المجال المديني، فقد كان لا بد، على الأقل، أن تقوم خطة إعادة الإعمار على هذه القيم وممارساتها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها