الجمعة 2023/05/12

آخر تحديث: 11:13 (بيروت)

حول غادة عون والقضاء النائم والعدالة المغيبة

الجمعة 2023/05/12
حول غادة عون والقضاء النائم والعدالة المغيبة
مشكلة القاضية عون أنها توجهت فقط نحو أهداف سياسية مختارة (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

قرار المجلس التأديبي للقضاة بفصل القاضية غادة عون، تأديبياً، من السلك القضائي، شغل الرأي العام اللبناني ولفت انتباه وسائل الإعلام الخارجية لأكثر من سبب، وعلى وجه الخصوص، لأنه يترافق مع أكثر من معطى من المعطيات السلبية، وسط أزمة ماحقة تضرب لبنان ومؤسساته، التي تعيش مشكلة أساسية وكبيرة على مستوى شغور منصب رئاسة الجمهورية، إضافة إلى تعطل اجتماعات مجلس النواب، بفعل تنامي الأزمة السياسية والفيتوات المتبادلة، وتعطل أغلب مؤسسات القطاع العام، بفعل الإضرابات والمطالب المعيشية الكثيفة، المالية والاقتصادية.

في العادة، وفي الدول ذات الملامح والأوضاع الطبيعية، فإن مؤسسة القضاء هي المؤسسة التي تكون الملاذ الأساسي والقوي لتلقف وحل المشكلات في الأنظمة الديمقراطية. لكن في لبنان، فإن الأزمة الراهنة ضربت وتضرب المؤسسة القضائية كباقي المؤسسات السياسية والدستورية. والأخطر أن الجسم القضائي كشف عن مشكلات عضوية عميقة لا يمكن بعد الآن تجاوزها. وهو ما يفاقم حالة القنوط واليأس والحيرة والتخبط عند المواطنين المعنيين والمهتمين والمتابعين.

في العمق، فإن ظاهرة غادة عون ليست ظاهرة قضائية صرفة ومجردة، بل هي نتاج المشكلة أو الأزمة السياسية الجهنمية التي ضربت لبنان مع وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية، بفعل التسوية الرئاسية المعروفة والموصوفة التي عقدت عام 2016.

مثل أغلب العهود الرئاسية، طمح العماد عون إلى تشكيل فريق عمله الرئاسي أو أعوانه وعدّته للشغل. وقد أعد ونفذ مجموعة من التعيينات في المراكز الحساسة التي أرادها، انطلاقاً من قيادة الجيش والجمارك وأمن الدولة. وقد نجح في الوصول إلى ما يريد في قطاعات وفشل في أخرى، ومنها على سبيل المثال في تلفزيون لبنان، حيث مُنع من تعيين من يريد وفق شروطه ومزاجه، فردّ بتعطيل تعيين من كان يمكن أن يعيد المؤسسة إلى الحياة.

قام، وباستشارة من مستشاره وزير العدل السابق سليم جريصاتي، بتعيين غادة عون مدعية عامة لمحافظة جبل لبنان في تشرين الأول 2017. وهي من أكبر وأهم الدوائر القضائية والإدارية في لبنان مساحة وكثافة سكانية، حيث تحتوي على أهم المؤسسات والدوائر الحيوية في هذا البلد.

الجدير ذكره لمن فاته الأمر، أن جريصاتي هو وزير العدل السابق، وفي جعبة الرجل سيرة قضائية وقانونية واسعة، في عضوية المجلس الدستوري وفي الموقع الاستشاري لرئاسة الجمهورية، إلى جانب الرئيس "المكاوم" إميل لحود قبل عون. كما أنّه أحد القضاة والدستوريين الذين أشرفوا على صياغة دستور النظام السوري عام 2012، وأحد مستشاري فريق الدفاع عن المتّهمين الأربعة (القديسين) من حزب الله في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

خاض العهد العوني معركة شرسة لتثبيت "غادته" في موقعها الميمون. وكما عطل الجنرال الرئيس عون تشكيل الحكومة سابقاً، كرمى لعيون صهر الجنرال، ستة أشهر، فإنه قام بتعطيل التشكيلات القضائية طوال عهده ولم تقر، أيضاً كرمى لعيون القاضية غادة عون.

كما هو معروف، فان هذه التشكيلات القضائية المُعطلة والمجمدة حتى الآن، أُعدت بإجماع مجلس القضاء الأعلى برئاسة القاضي سهيل عبود. وقد عُطلت خلافاً للقانون. وقد تأزم وشُل العمل القضائي طوال عهد عون بسبب عدم اعتماد هذه التشكيلات، نتيجة طموحات ومطالب أعوان الرئيس والقاضية المدللة والمفضلة غادة عون.

للإنصاف، لم يعرف عن غادة عون إلا نظافة الكف والسيرة الشخصية المتزنة، على العكس من حزمة الفاسدين في أجهزة القضاء وبيوت العدل. لكن ليس هنا بيت القصيد.

عملياً، فإن القاضية عون وصلت إلى مركزها بدفع واختيار موصوف من الجنرال "بيّ الكل". فكانت على الدوام تعمل وهي تعرف بأنها مسنودة الظهر إلى التيار الوطني الحر ومسؤوليه، وأفواج حرسه القديم والجديد، مع ثلة من المحامين غب الطلب، الطامحين والنشطين في الوشايات والإخبارات المفتعلة والمركبة والمعدة مسبقاً، بهدف التمهيد للانقضاض على الفرائس المطلوب تصفية الحسابات التي كثرت وتعددت معهم، عونياً وباسيلياً.

استهدف الأمر، من بعض الصحافيين المزعجين وأفراد آخرين صودف مرورهم أمام أعين القاضية النشيطة، كمثل الممثلة ستيفاني صليبا، مروراً برجا سلامة، وصولاً إلى الرأس الكبير الذي "زمط" من الاعتقال أكثر من مرة في تلال وأحراش الرابية، الحاكم بأمر المال العام رياض سلامة، إلى غيرهم من المستهدفين الكُثر من الأخصام في السياسة.

لم ترتكب غادة عون جريمة ولم تفتعل أزمة غير مبررة أو موجودة، في التصويب على حاكم مصرف لبنان وبعض المصرفيين.

في الحقيقة التي لا تقبل الشك، أن غادة عون اتجهت في تحقيقاتها نحو المكان الصحيح لأحد وجوه المشكلة، أي نحو المصارف وجمعية الأشرار وحاكمية مصرف لبنان.

إذ هل يعقل أنه بعد الكارثة التي حلت باللبنانيين عبر سرقة ومصادرة مدخراتهم وجنى أعمارهم في المصارف، لأجيال، أن لا يتحرك الحق العام تلقائياً عبر مؤسسات القضاء والمدعين العامين أصحاب الاختصاص، المستغرقين بالنوم في ثبات، من دون لا صوت ولا مبادرة.

لم يتحرك أي قاض من قضاة لبنان المحترمين المنظورين، للتفتيش وطرح الأسئلة البديهية، والبحث عن حقيقة ما جرى، وكيف تبخرت واختفت وحجزت أموال اللبنانيين؟ في أكبر وأغرب وأشنع عملية سرقة علنية في التاريخ الحديث؟

الحقيقة أن جمعية الأشرار المصرفية تعمل بالتنسيق والتكافل والتضامن مع أغلبية القيادات السياسية، الشريكة في ملكية المصارف الجديدة والقديمة والتي تتحضر للانطلاق. وهي لذلك تتمتع بحمايات معلنة، ومضمرة، وواضحة، وقوية.

مشكلة القاضية عون أنها توجهت فقط نحو أهداف سياسية مختارة ومنتقاة وفي دائرة الخصومة السياسية للتيار العوني وخط الممانعة، وابتعدت عن أهداف أخرى من القوى الحليفة المساندة.

لو أن القاضية عون اتبعت منطلقات العدل والمساواة مع كل المشبوهين ومن كل الأطراف، بما فيهم الحلفاء السياسيين من "الخط" المحروس بالسلاح والصواريخ والمسيرات، لما كانت مسيرتها مصابة بأي عاهة أو عيب.

مشكلة القاضية التي تعرضت للطرد والتأديب الآن، وليس حين أقيمت عليها الشكاوى، أنها طردت من حسابها المساواة في الملاحقة والبحث عن الحقيقة، نحو باقي المشتبه بهم في الفساد والإهدار والتجاوزات والسرقات. واختارت وركزت على أخصام التيار الوطني الحر، وابتعدت عن من هم من ديرتها وصفّها السياسي.

ينم القرار التأديبي الراهن بحق القاضية عون، وبعد انتقال حاميها إلى منزله التقاعدي في الرابية، عن نفسٍ انتقامي، فيه الكثير من الجبن والخساسة المعيبة.

كان يفترض أن تتحرك أجهزة التحقيق القضائي في ارتكابات القاضية المتمردة، حين كانت الفظائع ترتكب أمام عدسات الكاميرات وأمام أعين الشعب اللبناني وخلال وقائع النقل المباشر.

أين كانت أجهزة التحقيق القضائي والتأديبي حين خُلعت أبواب المؤسسات من دون التقيد بأصول المحاكمات والتحقيقات، وحين انتُهكت القوانين التي من أولى واجبات القاضي احترامها؟ 

توجهت الغادة توجهات عامة صحيحة ومطلوبة في ملاحقة الفاسدين والمرتشين، لكنها في الوقت عينه ارتكبت مجموعة كبيرة من الأخطاء والخطايا الشكلية والمبدئية لكن الأساسية، حين فتحت على حسابها عدلية خاصة بها، تستهدف من تريد من الأخصام، وتتجاهل من هو في صف الحلفاء والأصدقاء في السياسة، وأبناء الصف الواحد العوني المحمي بالقوة والسلاح والنفوذ.

وصل الأمر بالغادة أن تبنت قصاصات ورق ملفقة، نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن دون مصادر أو وقائع صلبة أو مؤكدة. فساهمت في تشويه حقائق وافتراء على كثر من دون وجه حق، وساهمت في انحدار منسوب الاحترام والثقة بما تبقى من مؤسسات مالية قليلة، وساهمت في تشويه سمعة الكثير من مؤسسات لبنان.

ميزة العدل وعمل القضاء الأولى هي الشفافية والمساواة والوضوح بين المواطنين. وهذا ما يحفظه ويصونه ويكرسه القانون والدستور وشرعة حقوق الانسان.

غادة عون بأسلوبها الانتقائي الاستعراضي الغوغائي الشعبوي، ساهمت في ضرب العدالة وعمل القضاء، وشوهت الحقائق، وأضاعت على اللبنانيين معركة وفرصة كانت ولا تزال مناسبة ومحقة، للنيل من المجرمين واللصوص. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها