الجمعة 2024/04/12

آخر تحديث: 10:23 (بيروت)

تقاطع البطريرك والأرملة ثقلٌ في إحداث التوازن

الجمعة 2024/04/12
تقاطع البطريرك والأرملة ثقلٌ في إحداث التوازن
حكمة البطريرك ونقاء وقوة أرملة المغدور، أنقذا الموقف (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

أتاحت الأحداث والتطورات، التي جرت خلال الأيام الماضية، منذ اختطاف وقتل منسق القوات اللبنانية في منطقة جبيل باسكال سليمان المفجع.. أتاحت هذه الأحداث لشخصين مميزين، في أن يُظهرا تألقهما وشخصيتهما، ويلعبا دوراً أساسياً ومركزياً في السياسة، مع أنهما ليسا بسياسيين ولا من محترفي العمل السياسي.

الشخصيات القيادية الاستثنائية والمميزة، تظهر قدراتها نتيجة الاحتكاك مع الأحداث وتفاعلها معها.

وقد أثبتت أحداث الأيام المنصرمة منذ الاثنين الماضي تميّز وتألق البطريرك الماروني، الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بالتقاطع مع أرملة المغدور السيدة ميشلين سليمان، التي أخمدت بكلماتها الهادئة والرزينة وحكمتها وتبصرها، لهيباً كان يمكن أن يشعل الأرض والعواطف الساخنة والمشحونة أصلاً، والتي أوقدها من دون احتساب أو روية، الساسة وبعض أهل الغوغاء والتعصب، جراء الجريمة المؤلمة التي أودت بحياة الرجل المأسوف على شبابه، باسكال.

تحول البطريرك وكرسيه في بكركي ومن دون نقاش إلى نقطة استقطاب وجذب، نتيجة الفراغ السياسي الرئاسي الذي تعيشه البلاد. وقد كان البطريرك بالطبع محل تقدير لحكمته ورصانته في كل الاتجاهات. وقد ساهم بمواقفه مع زوجة المغدور الرصينة في حماية السلم الأهلي المتوتر والمهزوز حتى الآن.

في المقابل، أقبل سياسيون وحزبيون على النفخ بنار التحريض والعنتريات الفارغة من وزن: "إذا الدولة غير قادرة على حمايتنا فنحن قادرون على حماية أنفسنا"! الخ. وقد سارع البطريرك إلى فتح أبواب بكركي أمام من تبقى من قادة الدولة المتهالكة المتلاشية لزيارته، ومتابعة التطورات. وقد عمد إلى إطلاق مواقف شبه يومية تحض على التهدئة والانضباط والحكمة وضبط الأعصاب والكلمات، حتى أنه تولى دور وزير الإعلام والمرشد العام بنجاح، حين خاطب وسائل الإعلام بضرورة الانضباط وعدم بث أخبار غير مؤكدة أو مضللة، لكي لا تنفلت الأمور في الشارع.

لم تكن موفقة ولا مقبولة على الاطلاق المواقف التي صدرت عن قيادات حزبية، عرضت عضلاتها وقواها، وراحت تتوعد يمنة ويسرة بالويل والثبور وعظائم الأمور، باتخاذ إجراءات وخطوات لا ضرورة لها ولا نفع منها في هذه الظروف.

صحيح أن القوات اللبنانية قد عملت كل جهدها للاستفادة إعلامياً وسياسياً من جريمة الاغتيال، لاستقطاب واستعطاف الشارع المسيحي في الدعوة إلى الإقفال والإضراب، ومن ثم للتظاهر ومواكبة انتقال الجثمان. لكنها في الوقت عينه سارعت فور اتضاح بعض ملامح الجريمة إلى فتح الطرق وتسهيل تنقل الناس مما دل على وعي لخطورة المرحلة وخطورة إبقاء الطرق مقطوعة. لكن القوات في الوقت عينه، وجدت أن الانتقال بجثمان المغدور من سوريا إلى المستشفى العسكري أفضل وأنسب استعراض سياسي عاطفي، وكأنه جاء على طبق من فضة، لشد العصب المحلي المسيحي واستدرار التعاطف استعداداً لمعارك ومناسبات وصولات مقبلة مع الخصوم والمنافسين في الآتي من الأيام.

لقد كان خروج رئيس حزب القوات الدكتور سمير جعجع من معقله إلى نقطة تجمع مناصريه في جبيل في ليلة الحادثة ذاتها، إشارة صارخة إلى إطلاق صافرة الاستغلال السياسي والإعلامي للجريمة من جهة، والاحتواء والإحاطة من جهة أخرى، حتى آخر نقطة فيها، ودفعاً للتحشيد حتى آخر مدياته واحتمالاته. وهذا من أوليات العمل السياسي في لبنان. فيما لاقاه على الضفة الأخرى أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، منتقداً ومهاجماً ومفنداً ومندداً، ومتهماً ومثيراً لمن لم يستثر حتى تلك اللحظة.

وحده البطريرك الماروني لم يلعب على وتر التحشيد والتحريض والاستغلال العاطفي. وقد لاقته من موقعها المسالم والأمومي زوجة المغدور، أرملته الثكلى التي تفوقت وتميزت بتعاليها الإنساني على الجراح، عبر إطلاقها كلاماً راقياً، يليق بالحزن ومناسبة خسارتها لشريكها والد أولادها المغدور، بالدعوة إلى السكينة والانضباط ورفض الثأر أو التطرف أو ردود الفعل العشوائية. فكانت بذلك وكأنها على تقاطع دقيق ومتصل مع البطريرك، الذي توقف عند كلامها وأشاد به. فأتت النتيجة تخفيفاً قدر الإمكان من غلواء الانتقام والتحريض.

دلت جريمة خطف ومقتل المسؤول القواتي باسكال سليمان، وما رافقها، على إيمان ضعيف وإحساس واستعداد للتفلت السريع من الانضباط العام، لدى بعض شخصيات حزبي القوات والكتائب والأحرار بطبيعة الحال. ولا ننسى ما مر في كلام السيد نصرالله، وخصوصاً ما قاله وزير الداخلية بسام المولوي.

لم يكن مستحباً هذا الكلام التحريضي ولا مطمئناً. والدليل انفلات الغرائز العدوانية لدى بعض الرعاع وقبضايات المواسم والشبيحة وأفواج الانتهازيين في الطرق، للاعتداء بالضرب والتنكيل بمواطنين سوريين أبرياء في الشوارع من دون سبب، إلا أنهم يحملون الجنسية نفسها للمجرمين واللصوص الذين خطفوا وقتلوا سليمان.

إن هذه التصرفات العنصرية تجاه مواطنين سوريين أبرياء تعيد إلى الأذهان تصرفات شوفينية سبق أن شهدها لبنان في السابق من أيامه السود.

وهذه التصرفات قد تتسبب مستقبلاً بانفجار وتشظي مشكلة النزوح السوري من يد الجميع، بطريقة مضرة كثيراً وغير قابلة للاحتواء في المستقبل .

وفي هذا المجال، فإن الأحزاب والتجمعات القديمة مطالبة ومدعوة للتروي وضبط تصرفاتها وخطابها وانفعالاتها، لإثبات أنهم اعتبروا من تجارب الماضي الأليمة، التي مورس بعضها تجاه فلسطينيين أبرياء، خوفاً من المستقبل. لأن ما يمكن معالجته الآن بالانضباط، لا يمكن ضبطه مستقبلاً بأكثر من الانحراف والتفجر والانتشار والتدهور.

يجب التوقف بإمعان أمام بعض الأحداث الأمنية التي وقعت في اليومين الماضيين، كمثل إحراق أحد مكاتب الحزب السوري القومي الاجتماعي، ورمي أعلام القوات اللبنانية فيها، مما يشير إلى أياد خبيثة، قد تكون عادت إلى ممارسة العبث والتخريب السابق مجدداً، لاثارة وإشعال وخربطة الأوضاع في لبنان.

وإذا كان البطريرك بالتحالف والتقاطع غير المعلن مع أرملة المغدور، قد لعبا دوراً في ضبط الأمور، والمساهمة بعدم خروجها عن المألوف، فان المطلوب للأيام المقبلة أكثر بكثير.

ما من مخرج أمام الشعب اللبناني المنكوب نكبات متعددة إلا التبصر، لتخفيف النكبات الوطنية، وإعادة الالتفات إلى مسيرة إعادة تكوين الدولة المتلاشية، وليس هناك من طريق إلا طريق واحدة وحيدة، وهي طريق إعادة بناء وإصلاح الدولة المختلف عليها، استناداً إلى قاعدة الإجماع الصلبة والفريدة التي مثلها ويمثلها اتفاق الطائف. وإلا فإن دولة الغرائز والأحقاد لن توصل إلا إلى الفناء.

وقد بينت التجربة الحالية أن حكمة مثل حكمة البطريرك ونقاء وقوة أرملة المغدور، أنقذا الموقف من تفلت مجانين الحزبيات ودسائس المخابرات والأجهزة المزروعة والموزعة هنا وهناك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها