الجمعة 2023/02/03

آخر تحديث: 11:06 (بيروت)

بكركي وقيادة مشروع مكافحة التصحر

الجمعة 2023/02/03
بكركي وقيادة مشروع مكافحة التصحر
بكركي في القرن التاسع عشر من قبل المصورين الشقيقين الأرمنيين سارافيان
increase حجم الخط decrease

قبل أيام نشر الزميل أنطوان سلامة على صفحته على الفايسبوك صورة بالأبيض والأسود، تم التقاطها في القرن التاسع عشر من قبل المصورين الشقيقين الأرمنيين سارافيان من الطرف الشمالي لبلدة الزوق، وتبدو بكركي في الصورة غارقة في الوعر واليباب وكأنها وسط جبل صحراوي، وليست في جبل لبنان ومحيط حاريصا الأخضر المحاط بغابات الصنوبر والسنديان.

المصوران سارافيان هما من الأرمن البروتستانت، اشتهرا بالتقاط الصور في رحلات استكشافية إلى المنطقة وبلاد ما بين النهرين العام 1894.

المدهش في الصورة المنشورة، والتي لاقت إعجاباً وانتباهاً كبيرين، أن هذه الجبال الوعرة والمقفرة التي كانت ولا تزال محيطة ببكركي، تحولت من حال إلى حال بشكل كلي، ومن بيئة تبدو كأنها شبه صحراوية يسيطر عليها اليباس، إلى بقعة خضراء تكسوها الأشجار الكثيفة، وتحيطها الغابات التي عرفناها ونعرفها اليوم والتي بدأت تتراجع أمام اجتياح الباطون.

تبين في الوقائع، أن البطريرك الياس الحويك قد أطلق فيما بعد حملة تشجير واسعة، نقلت الجبل المقفر من جرود ينتشر فيها ويسيطر عليها وينبت فيها البلان والقندول، إلى جنة خضراء قابلة للحياة البرية ومنتجة ومولدة للخضرة وللهواء النقي.

ليس جديداً القول أن البطريرك الحويك هو صاحب الفضل الأول باستيلاد وحمل فكرة لبنان الكبير المستقل، حين طرح فكرته وكافح مع رهبانيته المدعومة من الفاتيكان وفرنسا، من أجل هذا الهدف، ونال وعداً ورسالة من رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو مؤرخة في 5 كانون الثاني 1920 تفيد بدعم فرنسا "استقلال لبنان".

انطلاقاً من ذلك، يمكن اعتبار البطريرك الحويك أنه أبو فكرة ومشروع الاستقلال اللبناني من الجانب المسيحي، والذي عاد والتحق بها رائد وشريك الاستقلال الثاني المسلم السني الصيداوي البيروتي رياض الصلح ومجايليه بعد ذلك صائب سلام ومفتي طرابلس عبد الحميد كرامي.

لم يصل البطريرك الحويك إلى أهدافه وما أراد، عن طريق المراسلات البريدية والمحادثات الهاتفية، بل عن طريق العمل الجاد والمستمر، المدعوم فرنسياً وفاتيكانياً، للوصول إلى لبنان الكبير والمستقل نتيجة مشروع سايكس-بيكو، ومنذ ذلك الحين قيل إنه أعطي له مجد لبنان.

مرد هذا الكلام اليوم هو الدور الذي قامت وتقوم به البطريركية المارونية في العقود الأخيرة والأيام الماضية، والتي توجت في الساعات المنصرمة باجتماعات المطارنة الموارنة في بكركي وبالقمة الروحية المسيحية، التي قادها وترأسها البطريرك بشارة الراعي.

ما من شك أو لبس أن الموقع والدور التاريخي للبطريركية المارونية، لا يزال كما كان دوراً أساسياً ومحركاً وفاعلاً في المفترقات الكبرى بالرغم من كل التغيرات التي طالت لبنان وقبائله الطائفية. وقد أثبت هذا الأمر فعله من دون لبس في العقود الثلاثة الأخيرة. مع تسجيل الانتباه إلى أن بكركي لم تدخل أو توافق على مشاريع الشطط المتطرفة التي ظهرت لدى بعض الرهبانيات إبان الحرب الأهلية، والتي شجعت التفكير بلبنان صغير أو التواصل مع إسرائيل.

لم يستطع العاملون على التحضير لإنضاج وإخراج اتفاق الطائف إلى الوجود من الرئيس حسين الحسيني إلى الرئيس رفيق الحريري، بما فيهم الدبلوماسية الأميركية التي كانت متابعة للملف اللبناني آنذاك، ابريل غلاسبي، من تمهيد الطريق إلى الاتفاق، لو لم يقتنع ويوافق عليه البطريرك الاستثنائي والتاريخي نصرالله بطرس صفير، ويسير به.

الدور الذي لعبه البطريرك صفير وبكركي بعد ذلك، انطلاقاً من نداء المطارنة الموارنة عام 2000، الذي أطلق شرارة المواجهة مع الوجود والوصاية السورية آنذاك، وصولاً إلى ما تبع ذلك من تطورات خرج على أثرها الجيش السوري، إثر اغتيال وسفك دماء الرئيس رفيق الحريري ورفاقه من السلسلة الطويلة من الشهداء.. هذا الدور لم يكن عادياً أو بسيطاً، بل كان جوهرياً وأساسياً في تقرير مصير ووجهة لبنان، في الانتقال من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية سيئة الحظ والمسار والمصير.

تميز البطريرك الحالي بشارة الراعي، ومنذ أن كان على رأس مطرانية جبيل بدور منظور، حيث اتصفت مواقفه على الدوام بالمبادرة والصراحة والشجاعة الملفتة. وهو كان أول من استشعر في العقد الأخير ضرورة أن تتميز الجماعة المسيحية في لبنان بموقفها الخاص، حين انتقد من حوله بالقول أكثر من مرة إن المسيحيين عامة والموارنة خاصة لا يتميزون بموقف محدد وواضح، بل هم -بعد أن كانوا قادة لبنان-منقسمون بين موقفيّ السنّة والشيعة مع بداية المواجهة بين محوري 8 و14 آذار.

البطريرك الراعي عمل على تجاوز هذا الواقع، وساهم مساهمة أساسية في الدفع نحو الوصول إلى قانون الانتخاب الحالي، ولكي يتم اختيار أغلب النواب المسيحيين من ناخبين من دينهم.

البطريرك الراعي لعب دورا أساسياً في إنشاء ورعاية اجتماع نادي المرشحين الموارنة المغلق لرئاسة الجمهورية في بكركي، لاختيار رئيس حصراً منهم، وهذا ما ساهم في الترويج لنظرية الرئيس القوي، التي أثبتت عملياً فشلها الكارثي عبر التجربة العونية، بل بينت مدى ضررها العام والمعمم على مستوى الجمهورية بشكل كلي، والجماعة المسيحية والمارونية بشكل خاص.

البطريرك الراعي انفرد بالتوجه والنداء المكرر في المدة الأخيرة بالدعوة إلى تدويل قضية ومسألة لبنان ومشكلته، طارحاً فكرة الحياد، المُختلف عليها حتى الآن من أغلب الأطراف، خالطاً بين الحياد العام والتحييد أو عدم الانحياز أو النأي بالنفس!

البطريرك الراعي نبه قبل شغور موقع رئاسة الجمهورية، وغيره كثر، من خطورة المقبل من التطورات في ظل الشغور. وهو اليوم يجمع من حوله المطارنة الموارنة ورؤساء الطوائف المسيحية لمواجهة الخطر المحدق بلبنان، جراء استمرار الحالة الكارثية الراهنة، لمحاولة تجاوز الأزمة الماحقة نتيجة استمرار خلو المنصب الماروني والوطني الأول الذي يمثله رئيس البلاد.

يمكن اعتبار الاجتماعين الأخيرين في بكركي أي المطارنة الموارنة، ورؤساء الطوائف المسيحية، فاتحة مرحلة مهمة مقبلة سيتبعها دعوة واجتماعات للنواب المسيحيين. وقد تُستتبع بقمة روحية أو لقاءات إسلامية مسيحية.

لكن وسط ذلك وبالرغم من أهمية ما قيل ووضع الأصبع على الجرح، غاب عن بيانات بكركي في اليومين الماضيين التشديد على أهمية التمسك بمشروع سيادة الدولة على أرضها من السلاح الخارج عن سلطتها، كمدخل أساس لاستعادة النهوض، في سياق التوجه لانتخاب رئيس جديد للبلاد.

فهل تستكمل بكركي دورها التاريخي بمشروع جديد، ولو منفردة من دون مساعدة الشركاء المسلمين المعرقلين أو الغائبين حتى الآن، وتبدأ بمكافحة التصحر المحيط والمسيطر كما فعلت في القرن الماضي، أم فات الأوان على ذلك، وباتت المهمة مستحيلة؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها