السبت 2023/01/28

آخر تحديث: 09:17 (بيروت)

جريمة المرفأ: ضياع الحقيقة في متاهة طالبيها

السبت 2023/01/28
جريمة المرفأ: ضياع الحقيقة في متاهة طالبيها
لم ينتبه بيطار إلى خطورة وضع "بيته" في مرمى نيران السياسة فاشعل النار فيه(علي علوش)
increase حجم الخط decrease

فاجأ المحقق العدلي، طارق البيطار، المشهد السياسي بقراراته، وترك للآخرين تقليب الأسباب التي أمْلَتْ عليه الأخذ بحصيلة حساباته.

قضية، مثل قضية تفجير المرفأ، لا تسمح لقاضٍ، أو لجهةٍ بمفردها، اتخاذ قرار الإقدام المفاجئ، لأن للأمر مسؤولياته، وللموضوع تبعاته. لكن القاضي أقدَم، متسلِّحاً بمطالعة قانونية أعدَّها، أو أُعِدَّتْ له، وبَدَا، حتى لحظة الاشتباك الحالية، مصرّاً على تنفيذ أحكام مطالعته، وغير عابئٍ بما جُوبِه به من مطالعات.

تستحق خطورة الإجراء الذي قام به المحقِّق العدلي متابعة دؤوبة، لكنَّ ملاقاة بواكير الخطوة بمطوِّلات، ستكون من قبيل الرَجْم بالغيب، ومن صنف الرمْي بالاحتمالات والظنون، لذلك سيظلّ مُجدِياً أكثر الوقوف أمام أسئلة وتساؤلات ابتدائية، تكتفي بالإيجاز، ولا تذهب إلى طلب الشرح المفصَّل، أو إلى الوضوح المعلَّل، من دون مادّة ملموسة، تعين على التفصيل، وعلى التعليل.

سؤال أول:
هل تحرّك القاضي البيطار، بعد طول كُمون، مدفوعاً بواجب طلب الحقيقة، كتمهيد لإحقاق العدالة؟ إذا كان جواب القاضي المكلّف بالإيجاب، فهذا يعني أنه بات عارفاً بمعالم الطريق الموصلة إلى النقطة الأخيرة من المسير، وأنه على يقينٍ غالبٍ، بقدرة الوسائل التنفيذية على تحويل الظَّن الاتهامي إلى ملموس واقعي، يتجسد في إنفاذ أحكام القانون بمن قالت الأدلّة الدامغة، إنهم مسؤولون عن "جريمة العصر" التي نَزِلت باللبنانيين.

سؤالٍ ثانٍ:
لقد واجهت القاضي البيطار ممارسات تعطيلية معلومة عنده، ومعلومة لدى اللبنانيين، ورفع المتضرّر من إدارته لملفّ التحقيق عوائق في دربه، منعته، حتى هذا الحين، من التقدّم حثيثاً في بحثه، وفي السعي إلى خلاصته الاتهامية. ما سبق، وكما تقدّم، يقع في خانة المعلوم، وهو ما وقع في الأسماع، وما شوهد على الشاشات، لكن ما هو غير المعلوم عموماً، ويعرفه المحقق العدلي خصوصاً؟ طلب الجواب من قبل القاضي لا يخصّه وحده، أي هو لا يُجيب ذاته فقط، بل عليه أن يردّ على تساؤلات كّل المستفهمين. نعم، ما العوائق الكابحة التعطيلية سابقاً؟ هل أزيلت؟ كيف أُزيلَت؟ أم أنّها ما زالت حيّة تُنغّصُ السير في كل سبيل؟

الجواب على سؤال العوائق، مهمٌّ في اتجاهين: الأول ما الحسابات التي منعت القاضي من تحدّي معيقيه، عندما كان الملفّ الإجرامي يملك كامل "حرارته" وحيويته؟ والثاني، ما الحسابات التي دفعت القاضي إيّاه، إلى بثّ الدفء في الملفّ؟ انطلاقاً من حالة المعوّقات ذاتها، أي من حالة زوالها أو حالة استمرارها على ما هي عليه من صفات تأخيرية.

من الأسئلة المنتقاة، تتناسل أسئلة كثيرة، لا مجال لاستعراضها سريعاً، ومن تكثيف الاستفهام واختصاره، إلى السياق الذي اندرج فيه ملفّ التحقيق، وهو سياق سياسيّ واضح السمات، منذ بدايته، وحتى النهاية التي قد لا يبلغها.

الصعيد السياسي
إذن، وعلى صعيد سياسي، تصرّف الجميع مع انفجار المرفأ تصرّفاً قصْديّاً. فمن استنكر الكارثة، جعلها ممرّاً إلى المحاسبة، ومن رفضها أرادها معركة لكسر الاستهداف. لقد برز الاصطفاف مباشرة بين فريقين لبنانيين، توزّعا على سيادية منطوقة، وعلى ممانعة مسموعة، وبين القول والقول، دارت معركة سياسية لم تغادرها المذهبيّة، ولم تخرج من بين جنباتها الطائفية. هكذا سِيْقت العدالة التي تمسّك بها الفرقاء، كلاميّاً، إلى أسْرِ التصنيف، فكانت مطلوبة في ذاتها، عند "أنصار العدالتية"، وكانت مرفوضة في مضمونها الاستهدافي، لدى أنصار الممانعاتية، وكان لكل من الفريقين خطابه المكرور، الذي لم يُمَلّ من ترداده.

عودة إلى القاضي البيطار، لإدراجه مع حساباته في سياق رفض مقولة العدالة الصافية، من قبل من انتصر لها، أو من قبل الذي خذلها، ولسؤاله، أي البيطار، ألم يكن على دراية بقرارات الأطراف المختلفة حول رؤيته، والمتصارعة حول أهداف مهمته؟ إذن، ولأننا نفترض أنه على علم بالسياق السياسي وأحكامه، لماذا ابتعد حين أشعل ثقاب الخلافات سهل تكليفه؟ ولماذا عاد، وعلى حين "غرّة"، والسهل ما زال مشتعلاً؟. الافتراض البسيط الذي يأخذ القاضي على محمل "الإنصاف"، هو القائل بانخفاض منسوب "مياهه" السياسية، وعلى ذلك قام استسهاله لمباشرة إطلاق نار الاستدعاءات في الاتجاهين السياسي والقضائي، أي أن القاضي، غير المحتسب سياسيّاً، وغير الحريص "دولتيّاً"، لم ينتبه إلى خطورة وضع "بيته" في مرمى نيران السياسة والسياسيين، ولم يظهر حرصاً، فأشعل النار في "بيته"، وفي بيوت بيئته العدالية.

صعيد الانهيار العام
تقع خطوة القاضي البيطار ضمن صعيد الانهيار العام الذي أصاب لبنان، في إسمه وفي رَسْمِه، لذلك ليس حقيقيّاً القول، إن الاشتباك الدائر ضمن القضاء الآن، ومن حوله، قد يقضي على السلطة القضائية، فيفضي إلى سقوطها. الحقيقي أن المؤسسة القضائية قد أسقطتها منظومة التحالف المالي – الميليشياوي منذ حقبات، لذلك، أصبح المشهد القضائي الرديء الآن، واحداً من تجليّات الانهيار العام، مثله مثل التجليّات الواضحة على الخطوط الماليّة، والاقتصاديّة، والثقافية، والأهليّة. لقد انهارت البنيَة فباتت حَلقات تَكَارُه مذهبية وطائفية، بعد أن انفرط عقد التعايش، أو التساكن الهش، وتبعثرت حبّاته.

ماذا أضافت "صحوة" القاضي البيطار، إلى مشهد الانهيار العام؟ أضافت، وببساطة، مادّة لقول، ولقول على القول، وهيّأت جذوة جديدة، لنار الافتراق السياسي، التي تهدِّد بامتداد لهيبها سائر الهشيم اللبناني، الذي لم ينتج حبوباً، بل ظلّ متاهة زؤان وعوسج وأشواك.

أين الرّد؟
لا جدوى من ترداد السؤال عن المعارضة الوطنية، ذات الهموم العامة، ولا جدوى من التذكير بأن "قَبع" التسلّط الطوائفي، المالي – الميليشياوي، لن تحققه جمعيّات عمل مدني، تجتمع موسميّاً. لكن المسؤولية، الفردية، والعامة، تفرض على من بقي من أبناء الجديّة السياسية، التذكير بأن هناك خيارات ممكنة وضرورية، غير خيار السقوط المتوالي تحت وطأة سياط الحاكمين سعيداً، بقوة القمع، وبرشوة المستزلمين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها