السبت 2024/04/06

آخر تحديث: 05:38 (بيروت)

مرجعية اليساريِّينَ الغائبة

السبت 2024/04/06
مرجعية اليساريِّينَ الغائبة
على اليساريين واجبُ الِسجَالِ في عزِّ المعركة، بالاقتراحِ، وبالتَصْوِيْب وبالتَصَدِّي العنيد، لكلّ خَطَأ (Getty)
increase حجم الخط decrease
 

في غمرة التطورات السياسية العاصفة، يَحْسُنُ التخاطبُ بكَلِمَاتٍ مع اليساريين، فهؤلاء الآن، ومع انفراط عقِدِ الكثيرين منهم، هم المتناثرون على المواضيع، وهم المنتشرون على كامل الجغرافيا اللبنانية، الاجتماعيّة والسياسيّة.

مخاطبة اليساريين، من دون "اليسار"، مبعثها حقيقة أنّ المخاطبة تختصّ بالموجود، وواقع الحال أن اليسار غير موجود، وليس هناك ما يدلُّ عليه دلالةً ذات بعدٍ يُعْتَدُّ به، في دنيا الفكرة، أوفي ميدان الحركة، أو في معادلة الصواب والخطأ، فوق مسرح الممارسة العمليّة، الفاعلة والمتفاعلة، مع غيرها من الممارسات.

في السياق، ولمّا كانت مواضيع التخاطب والنقاش عديدة ومتداخلة، يصير من المناسب ومن الأجدى، اختيارُ ما هو ملحٌّ، من المسائل الراهنة والمباشرة.

على هذا الصعيد المحدّد، يقتضي الأمر من اليساريين، الوقوف أمام المسائل الضرورية الآتية:

 

أولًا: نظرة القياس المرجعيّة
يتوزع أداء اليساريين على فوضى مساهمات عامّة، فنسمع الشيء وما يعاكسه، ويطالعنا الأمر ونقيضه، ونقع على حركة سيلان عملية لا تنتظم في مجرى، ولا تدرك مصبًّا...لكل ذلك، فإن السؤال الذي يفرض تساؤله هو، لماذا يراوح اليساريون بين فوضى اقتراح وفوضى التئام وفوضى مراكمة، ولماذا الحصيلة العامة قريبة من علامة فوضى عالية؟

الجواب الأساسي على واقع الحال "اليساراني"، يلخّصه غياب المرجعيّة القياسية، التي تُعرَضُ عليها المواضيع، وعليها تُطرحُ خلاصاتها، ومنها تُستنتجُ أهدافها، وعلى أساسها، وعلى خطوط الانسجام معها، تُحدَّدُ البرامج، والمواقف والشعارات ووسائل الحركة السياسية.

إذن، ما هي المرجعيّة القياسية لليساريين، التي تضمن تعريفهم لذواتهم، مثلما تضمن التعرّف عليهم، فيسهل بذلك السجال معهم، من موقع المعلوم، بالكلمة، وبالحركة، وبالموقف، وبالدعوة إلى ما يرونه الأفضل على صعيد وطنيّ شامل.

يدورُ نقاشٌ مُتَفَاوِتُ النَبْرَة، حولَ عددٍ من المسائلِ السياسيّةِ الإشْكَاليّة، وعلى نتائجِ النقاشِ تُبْنَى مواقفُ خِلَافِيَّة، تَتَصِلُ بِتَنَاقُضٍ وَاضِح، وتُلَامِسُ حالةَ "العداءِ" المَسْكُوتِ عنه، بين قِوىً سياسيّة معروفة، مِثْلَمَا تُلَامِسُ حالةَ "الإيحاءِ" الناطق، بخطورةِ الافتراقِ المصيري، بين الطائفيّاتِ المعلومَة، التي باتَتْ، اجتماعيًّا وسياسيًّا، كأن "الريحَ تَحَتَهَا"، لَكِنّهَا الريحُ التي لا تَتُوهُ عن تَحْدِيْدِ جِهَاتِ الرَغَبَات.

من رُزْمَةُ النقاش الخِلافي الراهن، المشار إليه أعلاه، تُلقى على بساط بحثِ اليساريين، مهمّة إبداءِ الرأي، في الأمور الآتية:

1-  قولُ رأيٍ واضحٍ في الحربِ الدائرةِ في غَزَّة، وفي العدوانِ الذي تَتَعَرَّضُ لهُ الضَفَّةُ الغَرْبِيَّة، كذلك الِإدِلَاءُ بموقفٍ واضحٍ، يُحدِّدُ المصالحَ الوطنيَّة الفلسطينيَّة في هذه اللحظة، من مَنْظُورٍ يساريٍّ، ومن موقعِ الشَرَاكَةِ الوطنيّة اللبنانيّة، في الهُمُومِ مع الوطنيَّة الفلسطينية.

وبناءً على مرجعيّة رُؤْيَةِ اليسارِيِّين، للمصالحِ الشعبيّة الفلسطينيّة، يجبُ السجال ضدَّ كلِّ السياساتِ التي تتعارضُ مع هذه المصالح، وضدَّ السياساتِ التي تُلْحِقُ الضَرَرَ بها. السجالُ يكونُ وطنيًّا شاملًا، فيتَنَاوَلُ إجراءاتِ السلطة الوطنيّة الفلسطينية، ويتناولُ خطابَ "الجِهَادِيّة" الإسلاميّة، في حركة حماس، وفي حركة الجهاد الإسلامي، وخطاب الفصائل ذات الأوزان الثانوية، في ساحات الصراع، العسكرية وغير العسكرية.

من الطبيعي، في هذا المجال، أَنْ لا يَهَابَ اليساريّونَ من شِعَار: "لا صوتَ يَعْلُو فوقَ صوتِ المعركة"، هذا ببساطَة، لأنَّ اليساريين كَانُوا، ومَازَالُوا،"أبناءَ المعركة"، مَاضِيًا وحَاضِرًا، ولِأَنَّهُمْ يِمْلِكُونَ الحقَّ، وعليهم واجبُ الِسجَالِ في عزِّ المعركة، بالاقتراحِ، وبالتَصْوِيْب، وبِالتَشْدِيْدِ على الصحيح، وبالتَصَدِّي العنيد، لكلّ خَطَأ، كَبُرَ هذا الخَطَأُ أَمْ صَغُر.

 

2- اليساريون والمقاومة اللبنانية
تحتلّ مسألة المقاومة في لبنان مركزاً محوريّاً اليوم، بعد أن باتت مختزلة في طيف لبناني، تشكل المذهبية الشيعيّة عماده الأساسي. لا يستقيم النقاش اليساري في موضوع المقاومة، إذا اقتلعها من تعريفها المرجعي الأساسي الذي كان لها في الماضي. الجملة التي لخصت هذا التعريف، كانت "موقع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي".

الخوض في مسألة الصراع تتطلب التخفّف من أمرين: الأول، هو الثبات في ذات الموقع القديم الذي كان للصراع، بعد كل العقود التي بدّلت في بنيته وفي قواه، والثاني، هو الخروج من عباءة التبسيطية العروبية، ومغادرة البديهية "القومية العربية"، كما قُدّمت في كتابات منظّريها، وكما "طُوّرت"، في كتابات النسخات الماركسية، التي ظلّ الكثير من أحزابها قوميّاً عربيّاً، وهو يعلن ماركسيته ولينينيته.

في مقابل التخفّف من الإرث "النظري" الثقيل، ينبغي تنكّب مسؤولية تظهير قسمات لوحة الصراع المستمرّ مع الكيان الإسرائيلي، من منظار المصلحة الوطنية الفلسطينية، ومن منظار المصلحة الوطنية اللبنانية. السؤال المدخل إلى القراءة الجديدة، أو المتجدِّدة، يبدأ بسؤال: هل ما زال الصراع مع العدو الإسرائيلي حقيقة قائمة؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما هي قسمات هذا الصراع وما هي تجلّياته؟ وما هي مخاطره، على المصلحة الوطنية اللبنانية؟

بناءً عليه، يترتب الخوض في تتمة الأسئلة، وفي الطليعة منها: كيف نمارس الحالة الصراعية مع العدو، بالتأسيس على الوضع اللبناني الحالي، وليس الماضي، وبالتأسيس على حالة "الأمة العربية" اليوم وليس على ما كان لها من أحوال؟؟

جزء من الأسئلة، يقدّم الجواب عنه اليوم حزب الله، أي الفصيل اللبناني الذي حلّ محل الفصائل الوطنية التي قامت بأعباء هذا الدور. تقع ممارسة حزب الله موقعاً خلافياً اليوم، انطلاقاً من تعريف ينحو منحى جعل الحزب "فصيلاً خارجياً"، فيؤسس على الأمر مطلب نزع سلاحه، لينتهي بخلاصة تقول: إن استقامة الوضع اللبناني، وانسياب يومياته انسياباً طبيعياً، واستعادة لبنان ما كان له من دور في غابر الأيام... كل ذلك رهن بتسليم الحزب لسلاحه، أي باختتام الدور الذي كان له، بعد أن زالت أسبابه، وبعد أن خرج الاحتلال من الأرض اللبنانية. ما يتبادر إلى الذهن مباشرة، هو: ما رأي اليساريين اللبنانيين في خارجية حزب الله؟ هل الأمر كذلك حقاً؟ وما رأيهم في نزع السلاح، أي في المطلب الذي ينزع من الشيعية ما تعتبره ضمانة مصالح، في اللحظة الطائفية المأزومة راهناً؟؟

وكيف يرى اليساريون إلى تشديد طيفٍ من اللبنانيين على موضوع الحياد وتسريح المقاومة؟ ألا ينطوي الأمر على نظرةٍ تفترض أن الصراع مع العدو قد انطوى؟ وأن خطره السابق على لبنان قد زال؟

تتناسل من موضوع المقاومة في لبنان، أسئلة شتّى، لكن المطلوب من اليساريين يظلّ مطروحاً، لجهة السجال مع المقاومة ذاتها، أي مع حزب الله حالياً، بحيث يتمّ الرّد على ما لهُ من مطالعات بمطالعاتٍ مقابلة، على كافة الصعد، وبحيث يتم الرّد أيضاً على مطالعات خصوم الحزب السياسيين، بنظرات تقابل نظراتهم. هذا ملخصة: رد يساري عام على المقولة "المقاومة" التي تجعل الصراع حالة أبدية، فتنتدب ذاتها له، انتداباً أزليّاً، وفق نظرة أحادية، تقفز من فوق رأس العوامل اللبنانية المقبولة والممكنة والخفيفة الأحمال.

وفي الوقت عينه، يَرِدُ القول اليساري ردّاً على المقولة اللامقاومة، التي تغلّف مطلبها الانسحابي الذي يلامس قبول التطبيع "المسكوت عنه" مع العدو، بمطالبها الاعتراضية على سياسة حزب الله وعلى توجهاته، وعلى تفرّده بقرار الحرب والسلم في لبنان.

كيف توجز مهمّة اليساريين في هذا المضمار؟ بمعادلة بسيطة مضمونها: القيام بقراءة المقاومة بما هي عليه فعلاً، لا بما تقوله هي عن ذاتها، وقراءة خصوم المقاومة بما هم عليه وليس بما ينطقون به عن ذواتهم.

 

ثالثاً:
استعراض الوضع الداخلي، هو الأساس، لأنه البيئة الطبيعية لليساريين، وتقديم الموضوع الفلسطيني، هو بمثابة العنصر "الداخلي" الثاني الواجب القراءة، في الحالة اللبنانية.

لكن ذلك لا يختصر أعباء اليساريين، فهم في حاجة إلى إعادة تعريف الداخل، الذي كان حاسماً في أدبياتهم ذات يوم، فهل ما زال للداخل ذات الموقع الحاسم، في عالم اليوم؟ وإذا كان وزنه قد تبدّل، فما هي العوامل الداخلية التي لعبت دوراً في هذا التبدّل؟ واستطراداً، ما دور الخارجين الإقليمي والدولي، وما وزن كل منهما في الداخل للبناني؟ ربما تجدر ملاحظة استباقيّة في هذا المجال، تقول بتقدم وزن العامل الخارجي في معادلة الداخل، في لبنان، وفي باقي الأقطار العالمية، أمّا تأثير هذا الوزن، فيرتبط بمدى وزن العامل الداخلي في كل بلد، لجهة تماسكه أو لجهة هشاشته.

هذه الإشارة، تطرح مهمة قراءة الوضع الخارجي وتوازناته، أي قراءة عالم اليوم، وعليه: بأي منظار يقرأ اليساريون الخارج وعناصر أدواره؟

ختاماً، لا يغيب عن بصيرة "اليسارية" الجديدة، أن البداية تكون من سؤال يتضمن بعضاً من حروفها: من أين نبدأ؟ وكيف نبدأ؟ من سؤال البداية يكون تعريف الذات، ومقاربة تعريف مهماتها والتعرف على محيطها، وعلى ميادين عملها... هي مهمّات صعبة، وهي قراءات دقيقة ومدققة، وهي قراءات تأسيسية هادفة، تقود تكراراً إلى السؤال الأول: ما المرجعيّة السياسية الفكرية التي تقود العمل المعارض؟ وما هو إطار العمل؟ وما هي علاقاته الناظمة؟

قيل: نحن محكومون بالأمل... ولنقل: محكومون بالعمل أيضاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها