السبت 2024/04/20

آخر تحديث: 09:06 (بيروت)

إيران وإسرائيل: صراع على التمركز في الجغرافيا

السبت 2024/04/20
إيران وإسرائيل: صراع على التمركز في الجغرافيا
increase حجم الخط decrease

حديث اليوم والغد، هو الاشتباك المباشر بين إيران وإسرائيل. هو كان مباشراً، ولو فوق أراضٍ غير لبنانية، وكانت الأسبقية غالباً، لعمليات الهجوم التي قامت بها أسلحة الحرب الإسرائيلية. لماذا الاستهلال بتأكيد الهجومية الإسرائيلية؟ هذا للتمهيد للقول إن إسرائيل لم تكن في موقع الدفاع عن النفس، عندما أقدمت إيران على توجيه صواريخها وطائراتها إلى الداخل الفلسطيني المحتل، بل كانت في موقع الدفاع بعد استهداف قنصليتها في دمشق، وعليه فإن التهديد الإسرائيلي بالرَّد، بعد الهجوم الإيراني، ليس من صنف "الدفاع عن النفس"، كما يروّج ساسة الكيان "الهجومي" وكما يردِّد، بقصدٍ وبتصميم، رعاة الكيان وحماته، في مجموع الغرب الديمقراطي. لنا أن نضيف في هذا المجال، أن أصل العدوان موجود في اغتصاب فلسطين، وأن أصل الهجومية، الدفاع عن تثبيت هذا العدوان. هذه إضافة يحاول أن يدحضها المستوطن الوافد، بابتكار كذبٍ متواتر.
 

ماذا عن إيران؟
العودة إلى معاينة وقائع ليلة الاشتباك، توجب اعتماد نظرة خاصة إلى ما قاله فريقا الصراع عن أهداف العملية العسكرية، وعن النتائج التي أسفرت عنها.

صدر عن إيران رأي في عمليتها الهجومية، حمل تعداد عناصر نجاحها. من هذه العناصر، اختيار الأهداف، ووصول القصف إلى النقاط المستهدفة، وتجنب إلحاق الخسائر بالمدنيين، والحذر من جرّ المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة، وإبلاغ دول الجوار والدول الغربية عموماً، بالحدود المرسومة سلفاً للعملية، وبالحرص على عدم تجاوز هذه الحدود... تلك كانت عناصر "مادية"، إذا جاز القول، لكن الأهم من ذلك، كان العنصر المعنوي السياسي، الذي ظلَّ في عداد النتائج، وكان الأساسي في الحسابات، لأنه حمل معنى التجروء على المسّ بالكيان الإسرائيلي، ولأنه نال فِعلاً من الغطرسة الإسرائيلية، ومن الفلتان العدواني، الذي بنى "دفاعه" على الهجوم في كل الاتجاهات، من دون خوف من مطالبة، ومن دون حساب لمساءلة أو لمحاسبة.

إدراج هكذا خلاصة سياسية مباشرة، لا يلغي النظر في جوانب القدرة العسكرية الإيرانية، لجهة قوتها أو لجهة ضعفها، فهذه موضع جدال تقنيّ لا يأخذ بكل ما ترويه إيران عن "عظمة" ترسانتها، ولا يأخذ أيضاً بكل ما يرويه العدو عن تواضع أداء هذه الترسانة، وعن حدود قدراتها الميدانية. مقياس النجاح والفشل، كامن في البعد السياسي الآني والآتي، فقد تحمل اللحظة نشوة انتصار مخادع، وقد تدعو اللحظة إلى رفض العدمية المخاتلة، وقد يظل الأقرب إلى حقيقة ما حدث، اعتماد مفردة "موفقة" في مخاطبة العملية العسكرية، و"غير الموفقة" أيضاً، مع الإشارة إلى ما تدل عليه الصفتان من نتائج ميدانية وسياسية. العملية الإيرانية تقع في صلب معادلة "التوفيق"، ولهذه المعادلة نقاشها المستفيض، عندما تحال إلى ما يشكِّل عناصرها السجاليّة.

 

ماذا عن إسرائيل؟
سارعت إسرائيل ومن معها من الحلفاء، إلى إعلان النجاح الدفاعي، في التصدي للهجوم الإيراني، ومثلما أوردت إيران حيثيّات فوزها، لم تتأخر إسرائيل عن إعداد جردة فوزها التصادمي مع صنوف الأسلحة المهاجمة. اعتمد الناطق الإسرائيلي أسلوب تضئيل الشأن العسكري الإيراني، فكان دليله إلى ذلك، الإعلان عن تدمير 99% من العتاد المهاجم، قبيل دخوله المجال الجغرافي الإسرائيلي، وعن حصيلة خسائر متواضعة نجمت عن العدد اليسير من "المقذوفات" التي بلغت أهدافها. عن الأرقام الرسمية هذه، تحدّث مراقبون من داخل الكيان، فأشاروا إلى الكذب في الكشف عن النسبة الحقيقية من العتاد، التي بلغت 84 بالمئة، والكذب في الوصول إلى الأهداف، خاصة حول مفاعل ديمونا النووي... لكن الصراحة، أو التصويب، من قبل المراقبين الداخليين، لم تذهب إلى حدّ القول بفشل التصدي الدفاعي، بل أكدوا أنه كان تصدّياً ناجحاً وفعّالاً.

هذا على المستوى التقني، لكن على المستوى السياسي الحالي، وربما المستوى السياسي على مدى متوسط، لم يحمل النجاح الدفاعي اطمئناناً إلى "منظومة" العقيدة الوجودية الإسرائيلية. لقد قرأ المشرفون على هذه المنظومة ما قرأته إيران بالتحديد، لذلك ما زلنا نسمع عن استعداد للرّد على الهجوم الذي استهدف الكيان، فالرّد، وحسب ما يشبه الإجماع الداخلي، بات مطلوباً لذاته، لأن استقامة معادلة الردع التي ما زالت معقودة اللواء للآلة الحربية الإسرائيلية، تقتضي ضرب عامل الشجاعة الذي نشأ لدى الإيراني، وضرب عامل التجرّوء الذي بلغ حدّ تجاوز الحدود الجغرافية السياسية لإسرائيل، تلك المحروسة بعناية، والمحميّة بتفوق تقني، تحرص عليه، وتغذيه، استراتيجيات الغرب، الهجومية والدفاعية.

معادلة الموفق وغير الموفق، التي اعتمدت في النظرة إلى المبادرة الإيرانية، تلائم صياغة النظرة إلى السلوك الإسرائيلي، في إدارته الدفاعية.

خلاصة الأمرين، وعلى مستوى فريقي الصراع، لم يكن الأمر نجاحاً مكتمل الشروط، ولم يكن فشلاً تامّ المقومات، لذلك يستطيع كل طرف أن يسوّق لسياسته بما ينسجم وما يراه استدامة، ربما مؤقتة، للحظة القتالية.

 

في المواقف:
يتدافع المعلقون على الاشتباك، موضوع المعالجة، إلى ترداد ما يقال هنا وما يقال هناك. تنتمي التعليقات إلى مقالات ومواقف نمطيّة مسبقة، عندما يتعلق الأمر بإيران، وإلى مطوّلات "نظريّة" قومية وما فوق قومية، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. اللغة المتداولة، تجمعها الماضوية التي تغرف من كتب وأفكار عاثرة، ويجمعها القفز من فوق اللحظة الواقعية، فلا تشدّ هذه اللغة حاجة إلى المعاينة، ولا يشدها انتباه إلى الاستدراك والاستشراف، ولا يعنيها تبيان الفوارق والدوافع والتوظيف السياسي، وما قد ينتمي إلى جعل اللحظة العملية، مولوداً لإرهاصات مقدماتها الفكرية والسياسية.

في المقام الإيراني، لا يجدي الوقوف عند عبارة: إيران تسعى إلى ترسيخ دورها، وإلى تأكيد نفوذها... هذا أمر طبيعي في السياسة، وهذا سلوك لا تنفرد به إيران، بل هي شبيهة بدول مشابهة، عالميّاً وإقليمياً. إذن لن تكون إيران محرجة لدى اتهامها بالسعي إلى تعظيم دورها، وإلى صيانة مصالحها، بل سيظل السؤال لماذا يتاح لإيران لعب هذا الدور؟ ولماذا يكون النفوذ على حساب الجوار؟ ولماذا تستطيع إيران لعب دور في فلسطين؟ ولماذا تبدو إيران فلسطينية، من منطلق إسلامي، أكثر من الفلسطينيات العربية، القومية والإسلامية؟ موجز القول، إن السؤال موجّه إلى العرب عموماً، وموجه تالياً إلى إيران، خاصة في بند الجوار، وضرورة توجيه رسائل اطمئنان له، وعدم التجاوز عليه... أبعد من ذلك، يحق لكل قائل موضوعي، أن يعلن رفضه لسياسة التدخل الإيراني في محيطها العربي خاصةً، ويحقّ له الردّ على ادعاء معاداة إسرائيل بالقول، إن من يسعى إلى الفوز في معركته الفلسطينية، عليه أن يحرص على الاستقرار داخل البنية الفلسطينية ذاتها، وعلى الاستقرار في كل الدواخل العربية. في هذا المجال، ممرّ إيران إلى الفلسطينية، عربيّ، بما هو معروف ومعلوم عن هذه العربية، التي لا تستطيع اليوم "ثورية" مستعادة، ولا تقبل لغيرها أن يجعلها ساحة "لثوريّات" مضى أهلها وانقضى زمانها، وفقدت شعارياتها، المكشوفة، بريقها ومصداقيتها.

ذات السياق، وفي المقام الإسرائيلي، لم يعد كافياً وصف إسرائيل "بالعدو"، وصار موضع تسلية ترداد الاعتقاد الإيماني "بنهاية الكيان المحتومة"، وبات مطلوباً، الآن وقبل أن تتوقف آلة القتل في غزّة، وضع الكفاح المسلح وآلياته ومقولاته، على طاولة المراجعة الفلسطينية الشاملة.

لقد قدّم الهجوم الإسرائيلي، إسرائيليّاً، ما يجب الانتباه إليه جيّداً، عربيّاً وإيرانياً، وسيكون من الأهمية بمكان الانتباه إلى:

أ-   إجماع الغرب على حماية إسرائيل، والقبول بادعائها الدفاعي في وجه هجوم محيطها والتغاضي عن كل ما تقوم به "دفاعياً"، ضد هذا المحيط... يكاد الغرب يقول بالأدلة الدامغة، إسرائيل أوجدناها لتبقى... وستبقى. سؤال البقاء الإسرائيلي، يطرح على الجميع سرّ البقاء.

ب-  تباينت ردود الفعل لدى المجموعة العربية، فمنها من "حمى" أجواءه، فكانت نتيجة الحماية اعتراض طائرات إيرانية وتدميرها، ومنها من تبادل المعلومات، مع مراكز العمليات العالمية، فكان "محايداً"، على الرغم من أن المستهدف هو "إسرائيل"، ومنها من ظلّ بعيداً عن المسرح فاكتفى، بما هو معهود منه من إعلانات قومية.

ج-  خلف المشهد العربي هذا، وفي وسطه، وقفت مسائل التوجس من التدخل الإيراني في شؤون بعض دول المشهد، ووقفت سياسات الخصومة التي يخفيها عدد من الدول العربية، ولا تنكرها إيران.

إطار هذه اللوحة غير الودية، هو التنكّر لسياسة حُسن الجوار، وهذا أمر مطروح على إيران أولاً، فهذه وفي مسعاها لأن تكون الدولة الأولى في الجوار العربي، نفوذاً وتأثيراً ومصالح خاصة، عليها أن تدرك، أن استمرارها في ذات السياسة، سيجعلها غير مقبولة هنا، ومنبوذة في أكثر من بلد هناك.

د-   تغري اللحظة بسؤال: هل قامت إيران بما قامت به، لتكون محاولتها الأكثر ضجيجاً وهي تقرع على باب الجغرافيا؟ وهل أرادت بذلك تذكير "مدير" الجغرافيا العالمي، بأن رفع الصوت الاضطراري، العابر، هو المدخل إلى استقرار الهدوء الإيراني المقيم؟ هل تطلب إيران اليوم بإلحاح، ومن قلب ساحة الصراع الفلسطيني ما تطمح إليه، لتريح لاحقاً وتستريح؟

الأسئلة أعلاه، تتوفر لها مطالع إجابة، لكن انتظار الميدان قليلاً، من شأنه أن يحمل إلى المطالع الكثير الكثير.

لننتظر، فحركة الميدان، أسرع مما هو بادٍ للعيان.

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها