السبت 2022/07/23

آخر تحديث: 10:41 (بيروت)

الانتشار اللبناني في.. إسرائيل!

السبت 2022/07/23
الانتشار اللبناني في.. إسرائيل!
مطران الأراضي المقدسة موسى الحاج (Getty)
increase حجم الخط decrease

وضعت قضية المطران العائد من إسرائيل، مواضيع كثيرة على الطاولة، وقد يكون الأنسب قولاً، إنها استحضرت ما هو مسكوتٌ عنه، وما هو متوافق عليه ضمناً، وما هو مختلف عليه، قياساً على أكثر من مضمون. لو كان المقام مقام حديثٍ عروبيّ، لقلنا فلسطين المحتلّة، لكن الزمن صار "إسرائيلياً" من وجوه عدّة، وهذا ممّا لا تحجبه أحزاب ومنظّمات ما زالت تعيش لحظة الكفاح المسلح، وهو ممّا لا تعيق تمدّده دول ترفع راية فلسطين، فتجعلها ممرّاً إلى الوجدان الشعبي، الذي ما زال يوفّر الغطاء لطموحات دول الإقليم، ما دامت ترفع شعار "استعادة الحق السليب"، وتنادي بالتصدي للصهيونية والإمبريالية، وما سوى ذلك من شعارات بادت مع الدول التقدمية العربية، التي سادت طويلاً، ثم اضمحلت، فلم يمكث من آثارها سوى الانحطاط، وفنون القهر والقمع والمنع، الأمنية.

وفي امتداد التلفيق اللبناني، وانسجاماً مع الشطارة الفينيقية، ابتكر مسؤولو الفرادة المحليّة مفردة الانتشار لتنوب عن مفردة الاغتراب، وعن مفردة الغربة. بناءً عليه، بات اللبناني، المطرود من دياره، بقوة الفقر والعوز، وانسداد الأفق السياسي والاقتصادي.. منتشراً، لكأنه أشعة شمس، أو ضوء قمر، ينير الظلمات، هو الغارق في الظُلمةِ. ويهدي التائهين، هو الضارب في كل تيه. ولأن النور لا جنسية له، فاللبناني المنتشر يكاد يكون فرداً أمميّاً، فلا حواجز تعترض انبثاقه، ولا حدود وطنية تمنع عبور غلالة نوره. الفرد الأممي المنتشر بقوة سطوعه، غير مُساءَل، إذا ما اجتاز نقاط فصل الأوطان، بل هو شهادة تسامح، حين يمرُّ مرور الدعاة، وهو "مضبطة اتهام"، في حقّ من يُكدّر صَفْوَ العبور.

إذن، وعودة إلى سياق الموضوع، ذكرَّت مسألة اعتراض المطران الحاج بحقيقة اللبناني المنتشر، هذه التي يُجمع عليها أقطاب السياسة وأرباب المذاهب، وعليه، فإن الزائر أممي منتشر، عائد من زيارة أمميين منتشرين، وهذا وأولئك، تجمعهم هويّة تعريفية واحدة، بعيداً من اسم البلد الذي يقيمون فيه، وبعيداً من تعريفه المعتمد اليوم، التعريف الذي تضاءل فصار انقسامياً عمودياً، ثم تفتَّت، فصار نهباً لكلام الفئويات الداخلية غير المتجانسة..

إسرائيل أم فلسطين؟
لا بديل من اعتماد تعريف موحّد لكي يتسنّى للمعنيين إعمال القانون إذا وُجد، ولكي يتمكّن المسؤولون من تصنيف المستثنى وغير المستثنى، هذا لأن السائد حالياً، ومن دون منازع، هو الاستثناء الاستنسابي، الذي من علاماته، التزوير والتلفيق، والكيدية وتصفية الحسابات البينية، التي تتحكّم بأداء التوليفة السياسية الهجينة.

وفي السؤال المباشر، هل لبنان في حالة عداء مع إسرائيل؟ الجواب المعتمد يتبنى الحالة العدائية. عليه ما هي أحكام حالة العداء التي يخضع لموجباتها كل اللبنانيين؟ وما هي حالات الاستثناء، التي تجيز لبعض اللبنانيين البقاء خارج تصنيف العداء، فتمنع، بالتالي، عنهم العرقلة التي تؤخّر أعمالهم، والمحاسبة التي تطال أفعالهم؟

ما هو مفهوم من ردّ الفعل الذي أبْدَته المؤسسة الكنسية المارونية، التصرّف وفقاً لخلفية تضع المطران الحاج، وكل مطران غيره، خارج "منطق" السياسي، ما كان منها عدائياً، وما كان منها في موقع الصداقة. هذه الخلفية، تُسقط بالبداهة التهمة عن المسؤول الكنسي، وتمنع تلقائياً كل سلوك يعيق تأدية مهمته، وتستنكر كل إجراء يسيء إلى موقعه، الذي يصير حسب هذه البداهة، موقعاً "مفارقاً" لا يمتّ إلى الحسابات السياسية الضيّقة بصلة.

وعلى سبيل المقارنة، أقامت المؤسسة الكنسية الفارق بين مطران يؤدي "رسالته الإنسانية"، تبشيراً ورعاية وجمع مساعدات، وبين سياسة وسياسيين يقتفون أثر السياسات الإقليمية، فيقيمون في مفاصلها، ويندرجون في حساب مصالحها، ويجاهرون بانتمائهم إلى خياراتها، ويعلنون الاستعداد الدائم للدفاع عن هذه الخيارات. هكذا نصير أمام موضوع آخر يتقاذف اللبنانيون الاتهام بسيئاته، ويفترقون عند اختيار اسمه، أو أسمائه. الموضوع المقصود هنا، هو موضوع العلاقة مع الخارج. فهذه عندما تقوم بين فئة محليّة، ودول خارجية، ينطبق عليها تعريف التعامل مع الخارج والعمل لحسابه. عندها، وفي معزلٍ عن كل تأويل، لا يفيد القول بعلاقة الدعم المتبادل، أو التنسيق البريء من كل تبعية، أو المشروع المشترك، دفاعاً عن حق، أو هجوماً من أجل تحصيله. هذا يجوز بين دولةٍ ودولة، حيث تكون المؤسسة الرسمية، هي المرجعية الضامنة، وهذا ممّا لا يتوفّر لدى الجماعة الأهلية، التي تلبس لبوس الطائفية، أو المذهب، وباسمهما تحتكر صفة الوطنية، وتعريف الهويّة، واختبار نقاء اللبنانية، أو اختبار نقاء العروبة والتقدمية النضالية.

خلاصة القول، هي: لقد باتَ الدخول إلى الأرض الفلسطينية المحتلة وجهة نظر لا تشوبها شائبة، في عرفِ أهلها، مثلها مثل الارتباط بأية مرجعية عربية، أو بدولة غير عربية. أما النتيجة التي لا تقبل تدوير زوايا، فتصير مساواة إسرائيل بإيران، مثلما كان التماثل قائماً بين عميل "للعروبة" وعميل "للإمبريالية والصهيونية". للتذكير ولا نحسب أن اللبنانيين قد نَسُوا خطاب الحرب الأهلية الذي وحّد المنقسمين في دائرة العمالة، ولا نحسب أن ذات "القوم" يخالطهم الندم اليوم على ركوب مركب "الضرورات التي أباحت المحظورات".

ويتجدد السؤال: ماذا نقول في الذين تعاونوا مع إسرائيل أيام الحرب الأهلية؟ وماذا نقول في الذين جعلوا فلسطين والعرب وجهة تعاونهم؟ الجواب غير المعلن، أن كل فريق من هؤلاء، كان عميلاً ووطنياً حرّاً في الوقت ذاته! عليه ماذا نقول في الجواب؟ ما قالته أجيال بالأمس، أي أن كل فريق سيظلّ عميلاً حتى انفجار أزمة داخلية جديدة.

بعدما تقدم، ماذا ستكون عليه الحالة مع "المطران الإنسان"، الذي عاد وبين يديه دعم من "الخيّرين"؟ لا جواب سوى القول، إن الجمهور اللبناني، المختلف طائفياً، والمفترق سياسياً، سيظل مقيماً في قعر انحدار لا صعود منه في المدى المنظور.. وقد تخسف الأرض بالقعر، فتصعب على المجموعات اللبنانية سُبل الخروج الخلاصية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها