الجمعة 2022/05/13

آخر تحديث: 11:37 (بيروت)

الصندوق هو الرسالة

الجمعة 2022/05/13
الصندوق هو الرسالة
الاقتراع هو الوسيلة الوحيدة الممكنة للتغيير إذا حدث (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

ابتكر الفيلسوف وعالِم الاتصال الكندي، مارشل ماكلوهن، مجموعة من النظريات والمقاربات، كان أبرزها نظريته الأكثر شهرة ، والتي اختصرت بمقولة: "الوسيلة هي الرسالة"، وهي  عبارة عن المقاربة التي يبين فيها ماكلوهن أن لكل وسيلة، أية وسيلة نستخدمها في الحياة، رسالة أو دور محدد، لا علاقة لها بمضمونها بل بالدور الذي تؤديه وتقوم به أو تسمح به.

على سبيل المثال فإن المصباح الكهربائي، وهو عبارة عن زجاجة مفرغة، ليس المهم فيها مضمونها بل دورها. وهي إذا وُضعت في غرفة لا يمكن استخدام هذه الغرفة في الظلام للاجتماع أو العيش، لكن بمجرد وصلها بالتيار الكهربائي فأنها تحول الغرفة إلى مكان قابل للاستخدام الاجتماعي، أي الرؤية والعيش والسهر، مما يعني أن المصباح الكهربائي، هذه الزجاجة المفرغة، كوسيلة استخدام، لها رسالة اجتماعية محددة ومؤثرة.

نحن في لبنان في هذه الأيام إزاء محاولة لاختيار وتغيير النواب أو الشخصيات الممثلة للبنانيين في مجلس النواب، للقيام بدور التشريع  القانوني ومراقبة الإنفاق المالي. والمعروف أن أدوات وأساليب التغيير في المجتمع متعددة، ومنها الأساليب العنفية والسلمية، كاستخدام الثورة والمواجهة المسلحة كما كانت تؤمن التيارات اليسارية الماركسية اللينينية، والتي انتشرت وسادت لعقود.

في لبنان، جُربت كل الأساليب وحتى العنفية منها، لكن سر هذا البلد الغارق في المشكلات حالياً أن استخدام العنف واتباع طريق الميليشيات المسلحة، أي التغيير عن طريق القوة، يؤدي إلى اتساع العنف وانتشار الفتنة في مجتمع متعدد هش وفسيفسائي التركيبة الاجتماعية، ما يعني الحرب الأهلية التي لم تشف بعد جروحها. لذلك، ما من طريق آمن في لبنان للتغيير والخلاص من المافيا السياسية الحاكمة إلا الطريق والوسائل الديموقراطية السلمية، أي التغيير عبر صندوق الاقتراع، باعتباره الوسيلة الأكثر أماناً، أو كما أوصى ميشال شيحا حين اعتبر أنه من واجب التقاليد حماية هذاالبلد من العنف.

المشكلة الراهنة أن اتحاد المقاولين السياسيين الممثلين للطوائف في لبنان اتفقوا على استخدام هذا القانون الأعرج للانتخاب، كوسيلة للتغيير. وقد يكون القانون الحالي من أسوأ القوانين التي عُمل فيها في لبنان سابقاً.

الكثير من الدراسات والأبحاث السياسية والاجتماعية التي درست أسباب الحرب الأهلية، تُجمع على أن قانون انتخابات العام 1960، والذي اعتمد الدائرة الصغرى الطائفية، ساهم بشكل كبير في تحضير أجواء الانقسام الأهلي الطائفي في لبنان، وساهم بتسميم الأجواء الاجتماعية والانقسامية بين المسيحيين والمسلمين، ودفع البلاد إلى أجواء التشنج الطائفي.

قدم اتفاق الطائف في الشق المتعلق بقانون الانتخاب مقاربة، كان الهدف منها إعادة تمتين وترسيخ أساس قيام لبنان وبقائه، أي تمتين صيغة العيش المشترك الإسلامي المسيحي وليس العكس. ولذلك تحدثت وثيقة الوفاق الوطني والدستور عن أن النائب يمثل الأمة، كل الأمة اللبنانية، ولا يمثل طائفته أو مذهبه.

الإيجابية الأبرز للقانون الحالي هي اعتماد النسبية، لكن كل ما تبقى هو عبارة عن كمية كبيرة من السموم والسلبيات المضرة.

القانون الحالي يفتقد إلى وحدة المعايير في تقسيم الدوائر المعتمدة، لناحية الاختلاف والتباين. فكل دائرة تختلف عن الأخرى من حيث التركيبة والأعداد والاندماج والمساحة وعدد الناخبين وانسجامهم أو تنوعهم الطائفي والمذهبي.

يضرب القانون الحالي صحة التمثيل وعدالته، كما أنه باعتماد الصوت التفضيلي في اللائحة يشعل التنافس المذهبي والطائفي بين المجموعات اللبنانية، ويعطي الأفضلية لديوك الطوائف والمذاهب على مزابلها ومكباتها الطائفية.

أكثر من ذلك، فإن القانون الحالي يشعل حروباً بين أعضاء اللوائح أنفسهم، فكل عضو في لائحة انتخابية، وبسبب آفة الصوت التفضيلي، يشحذ سكينه في مواجهة زميله في اللائحة نفسها، للحصول على الأصوات التفضيلية. فبدلاً من أن يكون التنافس مع الآخرين على البرامج والمشاريع، يطلق التنافس على حماية النفايات الطائفية لدى كل مجموعة وبين أعضاء اللائحة نفسها.

إن نظرية اختيار كل طائفة لنوابها بأصواتها، التي وقفت خلف هذا القانون وحمته، هي في العمق بمثابة الوصفة السحرية لتدمير ما تبقى من لبنان الذي نعرفه، والذي سيذهب بفعل هذا القانون الخطير في دورته الثانية في اتجاه تحفيز أجواء الصدامات مجدداً، قد يذهب لبنان بفعل القانون الراهن إلى رحلة لن يعود منها.

بعد الانهيار الاقتصادي والمالي والمؤسساتي والتدمير وتفاقم الفشل المتراكم في لبنان في قعر جهنم، لم يبق لهذا البلد إلا قيمة تفاضلية وحيدة تميزه في العالم والمنطقة، وهي قيمة العيش المشترك الإسلامي المسيحي. أما الدور الذي يلعبه هذا القانون فهو التهيئة لتدمير هذه القيمة التفاضلية المتبقية، ونقل لبنان الفقير إلى الهاوية التي لا عودة منها.

بالرغم من كل هذه العيوب الفاضحة في القانون الحالي الأعرج، الذي أُعدّ و مُرر من أجل نجاح صديقي جبران، ومن هم على شاكلته، ما من طريق الآن لسلوكه إلا الالتزام بتطبيقه خلال هذه الدورة الانتخابية، والعمل على تعديله في المستقبل.. إذا بقي لبنان إلى الدورة المقبلة للانتخابات.

وبالتالي، فإن صندوق الاقتراع الحالي هو الرسالة الوحيدة الممكن استخدامها في هذه الأيام، وهو الوسيلة الوحيدة الممكنة للتغيير إذا حدث.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها