السبت 2022/10/29

آخر تحديث: 09:28 (بيروت)

لبنانيات: فوز تكتيكي وهزيمة استراتيجية

السبت 2022/10/29
لبنانيات: فوز تكتيكي وهزيمة استراتيجية
لا تحتمل البنية الداخلية وطأة الإمرة، وترفض الطوائف والمذهبيات لغة الكسر(Getty)
increase حجم الخط decrease

التكتيك والاستراتيجية، مفردتان لا تقتصران على المجال العسكري، بل تتجاوزانه إلى المجالات السياسية والاقتصادية، هذا لأن الأمر يتعلق بخطط مرحلية ذات أهداف جزئية، وبخطط بعيدة المدى ذات رؤى شاملة. الخطط تتكامل، بحيث يمهّد النجاح التكتيكي القريب، للنجاح الشامل البعيد، فإذا كان الميدان العسكري مكانًا لتنظيم العمليات القتالية وتنفيذها، بُغية تحقيق الانتصار في المعركة، ثم حسم نتائج الحرب بما يكرس الانتصار العام، فإن الميدان السياسي والميدان الاقتصادي، يشبهان النظير العسكري، من حيث وضع الخطط وإدارة تنفيذها، وإجادة رسم المخططات، والبراعة في الضبط والسيطرة، وفي الربط بين مختلف جوانب العملية السياسية، أو الاقتصادية، بهدف الوصول بكل منهما إلى الأهداف المرسومة، بعناية ودراية.

في لبنان، يقود الربط بين المرحلي التكتيكي، والبعيد الاستراتيجي، إلى حصيلة ماثلة للعيان خلاصتها: أن اللبنانيين المختلفين كجماعات، حازوا، متفرقين ومفترقين، انتصارات تكتيكية، لكنهم وقعوا مجتمعين، في قبضة الهزيمة الاستراتيجية الشاملة. هنا يبرز السؤال: أين تحقق النصر الأحادي المدموغ فئويًا؟ وأين حَلَّتِ الهزيمة الأهلية الجَمَاعِيّة، التي جعلت من كلّ انتصار فئوي قَبْضَ سَرَاب؟

 المقاومة الوطنية
اختيار المقاومة الوطنية كعنوان أوّل، مَرَدُّه إلى الخصومة السياسية التي مازالت مندلعة داخليًّا، حول موقع لبنان في الصراع العربي الاسرائيلي، وحول دوره في هذا الصراع. تاريخ الخصومة الملتهب بدأ مع دخول العامل العسكري الفلسطيني على خط التوازنات الداخلية اللبنانية، وعلى تصنيفه طرفًا فيها. النتائج المعلومة، صَدَرتْ عن الحرب الأهلية المديدة، وطَلُعَتْ من سيرة وتَحَوُّلات نسختي المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي أجزاء من الأرض اللبنانية.

في السيرة أعلاه، تحقيق فوز تكتيكي تمثّل في جلاء جيش الاحتلال عن الأرض المحتلة. شريكتا الفوز هما، جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي أسَّسَتْ وأطلقت عمليات القتال الأولى ضد العدو، فأحرزت نجاحًا تحريريّا ناقصًا، والمقاومة الإسلامية التي تابعت واستكملت الفوز الناقص، فجعلته فوزًا تامًا عام 2000... على هاتين المساهمتين، وعلى البناء على نتائجهما، تَرَتَّبِتْ مفارقة واضحة. الأمر الأول في هذه المفارقة، تمثّلَ في خَسارَة المقاوم الوطني نجاحه التكتيكي، ثم خسارة شخصيته الماديّة، وشخصيته المعنوية، حين أُقْصِيَ بقُوَّة "المقاومة الثانية" عن الواجهة، وحين طٌورِدَ من قبل راعيها العربي، ومن قبل داعمها الإقليمي. لم يكن ذلك الجانب الوحيد من خسارة المقاومة الوطنية، بل أُضِيفَ إليه خسارة رُكْنَي الشعار الذي قاد العملية القتالية الوطنية، شعار التحرير والتوحيد والديمقراطية.

كما سبق ذكره، لم يتصل التحرير المنقوص "بتتمته"، فسقط استراتيجياً، وخسر معركة توحيد اللبنانيين، ديمقراطيّا، من مدخل تعريف القتال ضد الاحتلال، تعريفًا وطنيًّا جامعًا، لا يقتصر على طوائف دون غيرها، ولا ينتسب إلى مجموعة حزبيّةٍ دون سواها.

هل كان هذا الخسران الاستراتيجي الوحيد، للجمع الذي التزم الوطنية اللبنانية من مدخل القومية والعروبة والأممية؟ الجواب بالنفي، والبحث يمتدّ تاريخيّا، وفي صيغة مراجعة شاملة، للوقوف على مغزى ومعاني الهزائم المتوالية التي اجتمعت لترسم صورة الخسارة التاريخية الشاملة، لأحزاب شُبِّهَ لها أنها تراكم "تكتيكيًا" في سياق استراتيجية عامة رابحة، فكان لها المصير السياسي البائس الراهن، الذي ما زالت تَتَخَبَّطُ بين جَنَبَاتِه.

أما الأمر الثاني في المفارقة، فهو استحواذ المقاوم "الإسلامي" على موارد الخيار الوطني القتالي، وحشره في خزانة استثماره الفئوي، ومخاطبة سائر اللبنانيين من منبر الدفاع عن هذه المصالح، التي صارت بقوّة الفرض، وبقوة تَنَاسُل الوقائع المادية القاهرة، اسمًا اسْتِنْسَابِيًّا مُحَرَّفًا لمصالح كلّ اللبنانيين. على هذا الصعيد، يمكن تعداد بعض المعارك التكتيكية الرابحة، للمقاومة الإسلامية، لكن حصيلتها النهائية، لم تكن حتى تاريخه، فوزًا استراتيجيًّا نَاجِزًا لا لَبْس فيه. من هذه المعارك، احتلال المركز الأول وسط الكتلة الشيعية، بعد معركة" وجودية" مع حركة أمل، واحتكار مسألة العلاقة مع "فلسطين"، وإعادة تعريف القضية الفلسطينية تعريفًا "دينيًا"، ومن ثمّ إزاحة وتهميش تعريفها القومي العربي، وتضخيم حجم الذات وحجم الدور، في ساحات خارجية، من خلال نقل خطوط دفاع المقاومة من الجنوب اللبناني إلى الشمال اليمني، وإلى جهات أربع في سوريا وفي العراق.. حصل ذلك، وما زال يحصل، بفرض الصمت على النسق الرسمي اللبناني، وبإدارة الظهر لكل المخالفين السياسيين في لبنان. . . كل ذلك، من دون سؤال أو مساءلة، ومن دون استشارة الشركاء في البلد الواحد، أولئك الذين عليهم دفع غرم السياسة المقاومة، من دون الحصول على حصص من مغانمها. . . باختصار مكثّف: لقد فازت المقاومة الإسلامية بفوز تكتيكي عام فحواه في لبنان: "الأمر لي"...
السؤال الاستراتيجي الآن: هل بات هذا" الأمر "له حقًّا؟ والجواب: تنفي اليوميات اللبنانية ذلك، ولا تحتمل البنية الداخلية وطأة الإمرة، وترفض الطوائف والمذهبيات لغة الكسر. . . لذلك، سيظل التكتيكي المقاوم الاسلامي مغلقاً، مما يفرض عليه تراجعاً اضطرارياً، أمام سؤال أي لبنان نريد؟ هذا السؤال لا جواب عنه في صيغة أريد لبناني، لأن الأمر يفتح على أكثر من لبنان، لذلك فإن الحصيلة الاستراتيجية الناجحة تكون جماعية، أي ميثاقية وتوافقية حتى أمد طويل... لماذا، لأن لبنان "العابر" للطوائف، وللمذهبيات وللفئويات، ما زال ممنوعًا بقوة ذات القوى التي تمعن في تهشيمه، وهي تعلن أنها بصدد حمايته وتحصينه.

المقاومة اللبنانية الاعتراضية
عارض لبنانيون آخرون شعار وشعاريات المقاومة الوطنية، وإذ كانت الإسلامية لصيقة بفريق اللبنانيين الذي قال عروبة واشتراكية ومقاومة احتلال، فإن المسيحية كانت "رُكْناً" تأسيسياً في مواجهة الذين قالوا ما يناقض ما قاله شركاؤهم الآخرون. لقد تدرّجت معارضة "المقاومة اللبنانية" من خطابها السلمي إلى أدائها العسكري، حالها في ذلك حال نظيرتها الإسلامية، فكان لها التمركز في منطقة معلومة الحدود، كفوز تكتيكي أول، وكان لها احتكار تمثيل فئتها، وتحديد وجهة وسياق حركة مصالحها السياسية. ظلّت تلك المقاومة محليّة، أي من دون تطلّعات خارجية عملانية، وظلّت كذلك، حتى في الأوقات التي استعانت فيها على الداخل، بقوى خارجية... لكن هذه المعارضة التي تفاخر اليوم بمقاومتها، وتؤرّخ لها تصاعدياً وتصعيدياً، بالتناسب مع صوت المقاومة الوطنية، خسرت رهانها الاستراتيجي المتمثّل بالفوز بلبنان خالص اللبنانية، وراكمت خسائر، ما زالت تتوالى حتى اليوم، من خلال أداء يوصل إلى نقصان الحصّة الوطنية، هذه التي تناقصت على مدى عقود، كنتيجة لسياسات غير واقعية، قادها مطالبون بالاحتفاظ بكامل مكاسبهم في لبنان ما بعد الاستقلال، على الضد من كل الوقائع الماديّة التي لا توفّر القوى اللازمة للحفاظ على كل المكاسب.

المراجعة الاستراتيجية مطلوبة من جانب المقاومة الاعتراضية، ولنقل الكتلة الأهلية المسيحية، مثلها في ذلك مثل نظيرتها الإسلامية، ومن شأن المراجعة أن تتصل بالتراجع عن الحد المطلبي الأعلى، هذا لأن الدفع بالسياسة إلى مداها الأقصى يضع صانعيها موضع الاتهام بالعدمية السياسية أولاً، مثلما يضع علامة استفهام استراتيجية حول مقاصدهم من الإصرار على ما يبدو لهم من مكاسب تكتيكية راهنة وممكنة. على سبيل المثال، اليوم اللبناني يشهد أن الأداء الحكومي للقوات اللبنانية غير موفق، ومثله الأداء الرئاسي، غير المقنع، ويشبه هذا وذاك، الإمعان في تقديم اقتراحات حلول لا تؤسس لكلام حواريّ لاحق... باختصار، هي حركة سياسية لا تنتج مواضيع سياسية قابلة لأن تنتج أسساً جديدة لتسوية لبنانية مرحلية لا يبدو في الأفق ما يشير إلى إمكانية إنتاج غيرها.

 خسارة عامة
وسط المعركة المحتدمة بين "المقاومتين"، لا مكان لطيفٍ ثالث ذي وزن يستطيع الإطلاق على المتصارعين. ذخيرة هذا الطيف كلام آخر من خارج "التمركز" الإجمالي الطائفي عموماً، الذي قاد البلد إلى خسارة عامة. الكلام الثالث، لا يشبه الكلام الجمعياتي الرائج، الذي لا يقوم مقام القول "الأحزابي" الذي يستطيع القراءة في كتاب خساراته، لينتقل بسلاسة إلى القراءة في قراءات الآخرين. هل من إمكانية استراتيجية لهذا "الثالث"؟ الجواب بالإيجاب، ويمكن القول أيضاً، أن ما يبدو غير ملموس تكتيكياً على هذه الجبهة الثالثة، هو الإمكان الناجح المتاح على صعيد استراتيجي بعيد. حركة المعارضة الجديّة الجديدة هشّة الآن، لكن دعاتها محكومون بالسعي إلى تمكينها... هي مهمّة تاريخية متفائلة؟ نعم، لأن التاريخ لا يمكث في ثبات "التشاؤم"، ولا يبيت في منازل الفراغ، ولا تتحرك قاطرته باستمرار، على خطوط الخسارة العامة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها