الأربعاء 2021/10/06

آخر تحديث: 12:24 (بيروت)

انحلال الصيغة اللبنانية

الأربعاء 2021/10/06
انحلال الصيغة اللبنانية
العملية الانحلالية اللبنانية تجري بسلاسة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

الصيغة اللبنانية تنحلُّ تباعاً. الاستقلال الذي عرفه اللبنانيون سنة 1943 أساسه صيغوي وميثاقي، فالصيغة والميثاق بين قوى الاستقلال شرطان تأسيسيان، والانفكاك عنهما، أو العبث بهما، يعيدان اللبنانيين، المؤتلفين في إطار لبنانهم الجديد، إلى اللبنانيين المختلفين، المؤطّرين في وحدات صُغرى، طائفية ومذهبية ومناطقية. لقد سَلَك الزمن الاستقلالي مسار انفكاك، بُعيدَ اشتغال ساعة انطلاقه بقليل، وما كان في ظنّ المؤسّسين، المتعاقدين على "الاتصال والانفصال"، من مُضْمَر ائتلاف، عاد ليصير مُعْلَن اختلاف، وما أراده البعض فاختاره، على أنه الصحيح، انكشف بعد رحلة زمنيّة موجزة، عن أنه الفاسد الذي قام على مداميك افتراضية، من انعقاد مجمع المصالح، ومن إمكان تساكنها، فتعايشها، فارتقائها إلى مستوى من الاندماج الجمعي، الذي يعلو تعريفات الجماعات الأحادية. باختصار استخلاصي: لم يكن للبنانيين ما تخيّلوه، وما تفاءلوا به، لذلك كانت النتيجة افتراقاً راكَم انحلالاً، وهذا الأخير بات مفتوحاً، سنة 2021، على الاتصال باضمحلال ذلك "اللبنان" الذي غنّاه اللبنانيون، لكن لم ينجحوا في إغنائه!

التاريخ في حاضره
لم يَعُد مُجدياً استحضار التاريخ كثيراً، فهذا بات ذكرى، ولا يفيد تذكيراً. لقد فات الزمن القريب الذي يمكن استخدامه لجعل التاريخ ناقوس تنبيه. صوت الناقوس، بل أصوات النواقيس، جعلتها المتواليات السياسية والاجتماعية، رفات خرساء، وضجيجاً بلا صدى. غياب الانفعال بالتذكير، حصل مع غياب الآباء الاستقلاليين المؤسسين، فقد كان لدى هؤلاء "حسٌّ باللبنانية"، وشعور بصيغويتها وميثاقيتها، كذلك كان لهم فَهْمٌ محايدٌ لمعنى اللبنانية التي نهضت على اجتماع مفترقين، ولم تنشأ كاتفاق بين مؤتلفين. في الأصل، كان الافتراق "الكياني". في الاستنساب "التكوّني" كان الالتقاء.. لكن السيرة التي عانت من غياب "رواتها"، ثمّ تعرّضت "لولدنات" الورثة، باشرت، وفي وقت مبكر، رحلة عودتها البطيئة إلى الأساس الانفكاكي الذي كان لها قبل الاستقلال، وقبل قيامة لبنان الكبير.

في سياق الانفكاك هذا، أو لنقل سياق الانحلال المتمادي، لم يكن تفصيلاً بسيطاً اندلاع النزاعات الأهلية المسلّحة ولم يكن أمراً عرضياً، استقواء الأهل على الأهل، ووضع "بلد" كل أهل، رهينة لمشيئة هذا البلد أو ذاك، من بلاد الخارج الاستعماري، أو المعادي، أو الشقيق، وكل ذلك، في عباءة الانتساب إلى الحضارة من جهة، أو إلى العروبة من جهة أخرى، أو إلى الدينية على اختلافها، من كل الجهات. خلاصة السيرة حتى تاريخه، يدور اللبنانيون اليوم في دوامة بلد ينحلّ، ولكل من فرقائه نصيب وافر من مسؤولية الانحلال.

الحاضر في سياق تاريخه
يشكل زمن سنة 2021، تحوُّلاً بنيوياً في هيكل "المؤسسة" اللبنانية، هذه التي تشكّلت من شيء من الواقعية السياسية، ومن كثير من الوقائع المادية التي حالت دون الواقعية وتحققها أمراً واقعاً. من مشاهد التحوّل: الفساد السياسي الذي هو أعلى مراتب الفساد. الإفساد الأهلي، الذي هو رديف فساد "أهل القمة"، وركيزة بقائهم في رحاب قممهم. الفساد المتناسل، في الاقتصاد، وفي الثقافة، وفي الأخلاق، وفي مجمل المنظومة القيمية التي تضبط سلوكات الأفراد. يُحمى ذلك الفساد المستشري، بالفساد القانوني، وبفساد الاجتهاد الدستوري، وبفساد آلة القمع الاستنسابي. باختصار، صار في حوزة "الشعب" تشكيلة فاسدة يجمع بين قمّتها وقاعدتها حبل الفساد المتين، فيبادلها شدّاً بشدّ، على عنق ما كان مفترضاً أن يصير وطناً لبنانياً، له ما للأوطان السويّة القوام، وعليه ما عليها. ما أشير إليه، علنيّ، وممارسة الفاسدين لا يسترها حياء، سواء تعلّق الأمر بنهب "الحاجيات"، أم تعلّق الأمر بنهب المصائر، ومصادر الحياة.

صوب البوليسية الأهلية
من الملاحظة، أن العملية الانحلالية اللبنانية تجري مجرى السلاسة، حتى تاريخه، أي أنها من دون اضطراب أهلي عنيف، على الرغم من إحاطتها بالكثير الكثير من الغضب. يبدو الوضع بين حدَّين، حدّ اللامبالاة الرسمية، بالاستناد إلى رسوخ التسليم الأهلي الفئوي الخاص بكلّ "رسمي"، وحدّ تبعثر الغضب الشعبي، وعدم انتظامه في تيار عنيد، يكافح ضد السلطة المتغوّلة اللامبالية وهذه اللوحة المعبّرة عن واقع حال اللحظة اللبنانية، تقيم سدّاً موضوعياً أمام انفلات الخطر القاعدي ضد مستغلي أهل القاعدة، وتديم فتح الممرات أمام اندفاعة "بلدوزر" السلطة، الذي يهرس ما يعترضه بقوّة العصب المذهبي والطائفي، كما سبق القول، وبقوة الفساد القمعي، المادي والإيديولوجي والقانوني. والحال، اقترب لبنان "الحرف" من العجمة، ولامس لبنان "الحضارة" الظلامية، وتبدَّدت مصطلحات الديمقراطية اللبنانية، فلا توافقية، ولا اتفاقية، ولا "بجناحين"، ولا فرادة، ولا معجزة.. تُقدَّم كنموذج لحلّ مشكلة الأقليّة.

لبنان الحالي، ووفقاً لما هو معلوم وملموس، لا يتعرّف عليه أبناؤه العارفين، في كتاب لبنان الغابر، بل هو نسخة هجينة، يكتبها ساسة الثكنات، وأمراء القتال، في الداخل وعلى الحدود، وزعماء الميليشيات القديمة، وقادة التشكيلات المسلّحة الحديثة. هذه النسخة يتلوها كل قارئ وفق لهجة قبيلته، وهي ليست مفهومة وواضحة، إلاّ لأبناء كل قبيلة.

أي لبنان؟
السؤال العام في صيغة لبنان إلى أين؟ جوابه العام هو: لبنان إلى لا لبنان. التعميم الاستخلاصي هذا، هو الواضح المنبعث، وكل استخلاص غيره، يحتاج إلى إثبات.

على صعيد عام أيضاً، لقد اندرج سلوك الإسلامية السياسية غالباً، في سياق "لا لبنان"، فهذه في أفضل تجلّياتها تدفع حركتها بدفعة العروبة اللغوية، وبدمغة الإنسانية الإسلامية الجامعة. الأحزاب اللبنانية، التي اجتمعت في خيمة الحركة الوطنية، لم تنجُ من الدفعتين، سياسياً، وائتلافياً، وعلى صعيد التحالفات، في الداخل ومع الخارج.

على صعيد عام أيضاً، ظلّ تعريف اللبنانية من قبل المسيحية السياسية، تعريفاً وجودياً، تتعرف المسيحية في لبنان على ذاتها، ضمن لبنانيتها، فإن مدّتها، ربطتها بامتداد حضاري في التاريخ، ووصلتها بامتداد حضاري ذي مرجعية مسيحية غربية. وعلى الرغم مما هو موجود من "تخليق" تاريخي، أو تصنّع حضاري، فإن اللبنانية تظلّ ثابتة أكيدة في قاموس المسيحيّة السياسية، ضمن هذا المعطى، "الوجودي – الكينوني"، تُقرأ مغامرات المسيحية السياسية الخاسرة، فهذه في سعيها لحفظ الوجود، ارتكبت أخطاء جمّة، عادت نتائجها لتهدد أسس استقرار ديمومة هذا الوجود.. ولعلّ ما نشهده الآن من انحلال اللبنانية، هو حاصل لقاء الطفرة الإسلامية، حتى الخروج، على اللبنانية، كما هي الحال خاصة مع الشيعية، مع خطأ وخطر الحسابات المسيحية، حتى الخروج أيضاً على اللبنانية، كما هي حال القوات اللبنانية سابقاً، وحال العونية السياسية اليوم.

أي لبنان؟ ننتظر لنبحث عن الجواب لاحقاً، بين الركام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها