الإثنين 2020/04/20

آخر تحديث: 13:58 (بيروت)

سلطة.. قانون العفو

الإثنين 2020/04/20
سلطة.. قانون العفو
تقويض هيبة القانون ودولة القانون (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

لا أعتقد بأن الدول، حتى من قبل أن تصبح على ما هي عليه اليوم، قد عرفت تصرفات غريبة وغير قانونية تقوم بها سلطة دستورية، كتلك التي مارستها وتمارسها السلطات اللبنانية مجتمعة. والأمثلة على ذلك كثيرة، وتكاد لا تحصى:

سلطة تنفيذية تتقاعس وترفض تطبيق قوانين أقرها المجلس النيابي، من دون أن يحاسبها الأخير.

سلطة تشريعية تقر قوانين كارثية، من دون دراسة جدية للنتائج المالية التي ستتكبدها الخزينة من جراء تطبيقها.

 وزارة الطاقة والمياه تصدر شهرياً تسعيرة للمولدات الخاصة غير المرخصة، بدل أن تعمل على تأمين الكهرباء.

وزيرة العدل تعيب على مجلس القضاء الأعلى بأنه معين وفقاً لمحاصصة طائفية وسياسية، وهي قبلت أن تتبوأ مركزها وفقا لهذه المعايير.

قضاء يحاسب الناس ويحكم فيما بينهم، يرفض أن يحاسب أعضائه.

ثلاثة أسعار لصرف الدولار يعترف بها مصرف لبنان، الذي تقع على عاتقه مسؤولية تحديد سعر صرف واحد وموحد.

مجالس وصناديق تتمول من المال العام من دون أي رقيب أوحسيب.

كلمة إصلاح تكاد تكون الأكثر استعمالاً من قبل سلطات فاسدة ومفسدة.

جدول أعمال
وكان آخر تجليات السلطة تأخّر المجلس النيابي عن الانعقاد، في عز أزمة مالية واقتصادية تعصف بالبلاد، أضيف إليها في الأشهر الأخيرة انتشار وباء ضرب عصب الحياة اللبنانية ومن مختلف جوانبها.. رب قائل بأن خير أن يلتئم متأخراً ولمرة واحدة، قبل أن يقفل أبوابه مجدداً طوال شهر رمضان، من أن لا ينعقد أبداً. ولكن من يطلع على جدول أعمال المجلس، يدرك أن مشاريع واقتراحات القوانين المطروحة لا تهدف إلى منع الاقتصاد من الانهيار، عبر تقديم مساعدات وتحفيزات إلى المؤسسات الصناعية والتجارية والخدماتية، خصوصاً الصغيرة والمتوسطة منها، ما يسمح لها بالصمود في هذا الظرف الاستثنائي، وذلك على مثال معظم الدول التي تملك نظاماً برلمانياً، وإنما يكاد أن يكون عادياً لولا بعض المشاريع والاقتراحات الملحة.. فعلى الجدول مثلاً مشاريع قوانين لإنشاء محميات طبيعية، وتعديل أسماء بلدات واستحداث أخرى. إضافة إلى تنظيم الإنتاج العضوي أو تنظيم زراعة القنب للاستخدام الطبي. وهي قوانين يمكننا أن نعيش من دونها، خصوصاً تلك التي تحتاج إلى مراسيم تطبيقية تصدر عن الحكومة، لكي تصبح قابلة للتطبيق..

تقويض هيبة الدولة
لكن علامات التعجب تبطل وتزول، حينما ندرك أن معظم القوانين المطروحة ما هي إلا قنابل دخانية، لتغطية إمرار القانون المعجل المكرر "الرامي إلى منح عفو عام عن عدد من الجرائم"، وذلك بحجة اكتظاظ السجون في زمن كورونا. هكذا، مرة جديدة، يدخلنا المجلس النيابي باجتهادات جديدة تضرب الاستقرار الاجتماعي والقضائي، متناسياً أن قوانين العفو هي استثناء يمكن الاستعانة بها بعد الحروب، أو الثورات، أو نتيجة أحداث أمنية تعرفها الدول، من أجل فتح صفحة جديدة. ولا يجوز اللجوء إليها من أجل جلب شعبية يحتاجها البعض لتبييض صفحته أمام جزء من جمهوره.

فهذا الإجراء الاستثنائي، في حال تكراره من دون سبب، يقوض هيبة القانون ودولة القانون، من دون أن يحقق العدالة بين المواطنين سواء الذين يلتزمون بتطبيق القوانين، ولا يحققها حتى بين مرتكبي الجرائم المشمولة به، فمنهم من يكون قد نفذ كامل مدة عقوبته ومنهم من أمضى في السجن غالبية عقوبته ومنهم بعضها أو القليل منها، ومعظمهم لم يقبض عليه ولم يقدم للمحاكمة إلا أنهم جميعاً يشملهم قانون العفو وبالدرجة نفسها..

إضافة لكل ذلك، فإن العفو العام يزيل حالة الجرم. وبالتالي، لا يكتفى بإطلاق المرتكب، بل يبيض سجله العدلي بشكل كامل، بحيث تعود إليه أهليته وحقوقه التي فقدها بسبب الحكم، من دون الحاجة إلى انتظار المهل القانونية لإقرار رد الاعتبار. وبالتالي، تعود إليه جميع حقوقه القانونية والسياسية، مهما كانت طبيعة التهمة المنسوبة له، طالما هي مشمولة بقرار العفو.

القانون الجائر الأول
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن إقرار قانون العفو في هذا الظرف يؤكد مرة جديدة أننا دولة مهترئة، دولة تقاعست عن بناء سجون نموذجية، على الرغم من كل الأموال المنهوبة. دولة ترفض نقل مسؤولية السجون من وزارة الداخلية إلى كنف وزارة العدل، كما تنص القوانين. دولة بدل أن تلغي المحاكم الاستثنائية ومنها المحكمة العسكرية، تعطيها صلاحيات واسعة. دولة تلجأ إلى الحل المكلف، بدل أن تسرّع المحاكمات، عبر تحديث بعض القوانين وقوننة انعقاد الجلسات في قاعات محاكم سجن روميه، ما يسهل نقل المساجين إليها، ويؤمن لهم ولسائر المتقاضين حماية صحية وأمنية.. والأخطر من كل ذلك، سلطة ترفض ان تقدم ولو مؤشر واحد لشعبها وللعالم، بأنها تريد بناء دولة على أسس واضحة وقوية وقانونية... وهذا ليس غريباً عن سلطة تتكل على شعب يرفض أن يحاسبها. سلطة قامت بالأساس على قانون عفو جائر أُقر في العام 1991، من دون اجراء أي مصالحة حقيقية، ما شرع سيطرتها على مقدرات الوطن ومستقبل أبنائه ومدخراته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها