يبدو أن لا شيء يفقد صلاحيته في بلدنا، تماماً كما السلعة الغذائية التي يستبدل التاجر تاريخ انتهاء صلاحيتها، فيغش المواطن ليبتاعها سماً. هكذا تُبدّلُ الديموقراطية اللبنانية تاريخ انتهاء صلاحية النظام السياسي، فيقبلها المواطن انتحاراً. السياسة في لبنان لعنة إبقاء الأشياء كما هي. موهبة محاربة الممكن وإنكاره، يبقي الفقير فقيرًا وتاجر السلاح تاجر سلاح والمقاوم مقاوماً، والزعيم زعيماً، ورئيس الحكومة رئيس الحكومة.
بعد كل ما حصل من دمار وانهيار، يُعمل على تشكيل حكومة إنقاذ من القوى نفسها التي أوصلت البلد إلى الهلاك. المخلّص هو نفسه المدمِّر. فإذا ما أردت أن تستدل على ما يمكن أن تقوم به الحكومة المقبلة، تبصّر في الأشخاص والقواعد والعناوين التي تتحكم بآلية تشكيلها، من تعثر وشروط وشروط مضادة والأنا المتضخمة و"الفيتو" المتبادل. فالقواعد التي تُشكل بها الحكومة الآن هي القواعد نفسها التي ستحكم بها الحكومة داخل مجلس الوزراء.
القوى التي تقود لبنان اليوم لا يمكن أن تقوده إلا إلى ما يزيده تدهوراً وضياعاً وانحطاطاً وشللاً، لأنها فقدت صلاحيتها. وهي عاجزة أساساً. علينا أن نعترف لأنفسنا بأن هذه القوى هي نتيجة وثمرة "الديموقراطية اللبنانية". هذه الديموقراطية لا يمكن أن تفعل شيئاً حاسماً من أجل التغيير. لا تنتج ازدهاراً ولا تعالج أزمة. هذه الديموقراطية أعطت النظام بقوة السلب وكالةً شرعيّةً لتدمير البلد، وتخريب اقتصاده وتجويع أهله. تبتلع الطوائف الشرعية الشعبية، وتمكّن أكثر فأكثر نظام تملّكِ الدولة وشعبها.
أكثر ما يلزم للخروج من الأزمة هو ما لا يمكن أن توفره "الديموقراطية التوافقية"، أي القرار. إذ أن أعمق اختلال في نظام حكم "الديموقراطية التوافقية" هو الشلل في عملية اتخاذ القرار. إذا صح القول إن الديموقراطية التوافقية، تضمن الاستقرار السياسي عبر مشاركة الجميع في الحكم، فهي لا تضمن لا الاستقرار الاقتصادي ولا المالي، لا بل بالعكس، فشلل القرار السياسي داخل السلطة التنفيذية يساهم في تعميق الأزمة. هذا الشلل دفع أهل الحكم وسيدفعهم أكثر وأكثر إلى وضع الشعب اللبناني في موقع المنقِذ الوحيد والأخير للنظام نفسه، من خلال تحميل الشعب ذاته كامل تبعات الانهيار. هذه إرادة من انتخبتهم الأكثرية الطائفية. فالطوائف حكمت والشعب ينفذ الحكم!
على أي حال، مهما تطورت الأحداث، وتشكلت الحكومات وأتت المساعدات من الخارج، فإنها ستُسخّر لإعادة إحياء القوى المتحكمة بالنظام. وبالتالي، التحكم أكثر بمصير شعب مسلوب الإرادة والحرية. على اللبناني الذي يزداد فقراً يوماً بعد يوم أن يقبّل يد جلاده، ويتوسل منه الفتات. ولطالما هتف أشدنا بؤساً وعوزاً بحياة الزعيم بصوت أعلى وأكثر حماسة من الآخرين..
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها