الثلاثاء 2018/09/11

آخر تحديث: 10:33 (بيروت)

التبعية العميقة

الثلاثاء 2018/09/11
التبعية العميقة
علاقة لبنان بسوريا من طبيعة شائكة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
علاقة لبنان بسوريا من طبيعة شائكة، وما جعلها عسيرة القسر الذي أملى إعمال مبضع التقسيم في مجموع المنطقة العربية التي ظنَّ أهلها أنهم جديرون بدولة واحدة، ونسوا في غمرة طموحهم أنهم مجموعة بلاد لها ما يجمعها عند طلب الوحدة، ولها ما يفرقها عند معاينة وقائع المسارات التكوينية المتفاوتة لكل منها.

لدى الحديث عن العلاقة اللبنانية السورية من الضروري استبعاد الخطاب القومي البائد الذي صاغه البعث خصوصاً، وتعامل بموجبه مع لبنان ومع فلسطين خاصة. ففي المسألتين الوطنيتين، اللبنانية والفلسطينية، كان البعث مقاولاً وواضع يد وطالب استتباع، وتاجراً فاجراً لا تغطيه بلاغة الجملة الديماغوجية القومية.

وفي سياق العلاقة ذاتها، من الضروري استبعاد خطابين لبنانيين: أحدهما "بعثي" بالتبعية، والثاني يفتعل لبنانية تقترب من الأسطورة التي تقفز من التاريخ فتصير خارجه، وتقفز من الجغرافيا إلى فضاء انعدام الجاذبية، فتصير بلا جذب مجتمعي واقعي، وبلا جاذبية سياسية عملية.

بناءً عليه، لغة العلاقات بين "الدولتين" هي لغة المصالح، ولا سياسة خارج كلام تبادل الفوائد. استطراداً، الموافقة على العلاقة أو رفضها أو توسيعها أو تقنينها... له معيار أوحد: المنفعة والجنى والحصاد.

تأسيساً على ذلك؛ موقف رفض العلاقة مرفوض، ومثله موقف التبعية العلائقية. وإذا كان للبنانيين أن يحذروا، فالحذر الواجب هو من ساسة التبعية العميقة في لبنان الذين يعرضون كل ما في البلد للبيع طلباً لمنفعة خاصة ونفوذ شخصي؛ والحذر من ساسة الوصاية العميقة في سوريا الذين لا يجدون في لبنان سوى مصدر للنهب الإضافي، وعلى كل الصعد، نهباً بالأصالة وبالوكالة، من صغار تابعين يتوزعون درجات سلم التبعية العميقة!

تاريخ التبعية اللبنانية ضارب في القدم، وهو صفة تكوينية ملازمة لما كان لبنان الإمارة ذات يوم، ولما استوى على صيغة لبنان المتصرفية في يوم آخر، ولما قام على قواعده لبنان الاستقلال الحالي. هذا الاستقلال الذي نشأ ملغوماً بعناصر التفجير الطائفية والمذهبية، انفجر تباعاً، وما زال إرث نيرانه الكامنة يهدد الصيغة الهشة بالطلوع من ثنايا الرماد. يبدو للرائي، وحال لبنان ما هو معروف، أن ليس في "فينيقيا" طائر فينيق غير ذلك المرسوم بمعضلات البنية المجتمعية الأهلية وأعطابها. ترجمة التبعية والالتحاق بخارج ما، ما زالت تتخذ صفة الاستقواء بالخارج على الداخل، ودائماً رتبة "مقاطعجي"، أو جابي ضرائب، أو وكيل في ثوب "أمير"، أو نائب عن أصيل داخل البنية اللبنانية بشقيها، الأهلي والتمثيلي الأهلي.

من واقع اليوم المعاين، ودائماً على خط العلاقة اللبنانية السورية، ماذا يفعل اللاهثون في ميدان استعادة صفاء العلاقة القديمة؟ وكيف لا يدرك هؤلاء أن سنوات العصف السوري تعادل قروناً من التطورات البنيوية؟ وأنّ ما كشفت عنه تلك التطورات هو أن "الاجتماعات" العربية هشة كلها ولو وحَّدها القسر، وأن أمثلة الهشاشة صارت ساطعة القول والعمل والنتائج، من الصومال إلى ديارنا السورية واللبنانية.

من يطلب صفو علاقة من اللبنانيين لا يطلبها لوجه العروبة السمحاء، ولا كرمى للقومية العربية الطليقة، بل هو يطلبها تغلّباً لذاته، وضداً بأقرانه، وسعياً لكسر إرادة نظرائه من اللبنانيين. هكذا علاقة، وإن نهضت على استقواء الضعيف المحلي بالضعيف السوري، لا ينيط بها طالبها هدفاً يتجاوز التمكين له في الهشاشة، واستدامة له في تبوء مركز حصة أعلى من حصص خصومه. هذا عن "المتناهبين" الصغار. أما الناهبون الكبار من المحليين اللبنانيين، فالهدف يتجاوز الاستفادة من الغنم المادي المحلي، على أهميته زبائنياً، إلى توظيف تحالف الهشاشة في ميدان بناء محور نهب إقليمي ذي ركائز محلية عربية، ورفع ذلك إلى مرتبة المعركة العالمية التحررية، ومعركة الصمود والمقاومة وما إلى ذلك من شعارات خَبرَها اللبنانيون جيداً، وعرفتها البلدان العربية التي رزحت تحت سطوة قمع أنظمة التحرر والتخلف على حدٍّ سواء.

عود على بدء، علاقة لبنانية سورية طبيعية ذات جدوى مشتركة. هذا مطلب واقعي يصب في مصلحة لبنان وسوريا. اعطاء استعادة العلاقة معنى فوز طرف أهلي في لبنان على طرف آخر، هو عنصر احتقان مضر بالاجتماع الأهلي المقيم على صهوة ريح. إعلان العلاقة المستعادة كفوز لمحور إقليمي غير عربي، على محور عربي، هو تلاعب بالتوافق الداخلي والخارجي الذي سمح باستقلال "الكيانية اللبنانية".

عليه، يحتاج الجمهور اللبناني موضوعياً، إلى من يسعى في سبيل حل معضلاته، وقد يفرح آنياً بأولئك الذين يخاطبون غرائزه ويهملون طلباته، لكن يوم الندم الوطني الكبير قد لا يتأخر و"لاتَ ساعة مندمِ".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها