الأحد 2018/03/11

آخر تحديث: 08:39 (بيروت)

ديمقراطية النمطية الحزبية

الأحد 2018/03/11
ديمقراطية النمطية الحزبية
لدينا نمطية لبنانية حزبية لا تخطئها العين (عزيز طاهر)
increase حجم الخط decrease
رافقت النمطية الحزبية التجارب السياسية التي انتظمت في أطر تنظيمية، ثم سادت مفاصل الحياة العامة لهذه الأحزاب، وتحولت تباعاً إلى آليات تفكير مسبقة، وإلى أساليب عمل أشبه بالقوالب الجاهزة، وقد كان من شأن ذلك أن يجعل النمطية أسلوب حياة للأحزاب وللأفراد، بحيث باتت الأفعال والمواقف لهذا الجسم السياسي أو ذاك، معلومة لدى الجمهور قبل صدورها، ربطاً بما هو معروف عن هذا الجسم من كتابات نظرية، ومن قراءات سياسية، ومن مواقف عملية، ومن تحالفات وارتباطات سياسية.

وككل ظاهرة، فإن للنمطية الحزبية تاريخها، وهذا الأخير هو بالتعريف تاريخ سياسي له بدء معلوم، مثلما له يوميات زمنية وسياسية معروفة، وبهذا المعنى يُنظر إلى النمطية من زوايا سياسية وفكرية عديدة، وهي إذ تجد تعبيراتها وتجلياتها في أطر تنظيمية محددة، فإنها تلبس اللبوس الانتظامي العام في الحزب، ولبوس الأداء الانتظامي لدى الأفراد، وفق مقاسها، أي وفق ما يصير لصيقاً بها من صفات. لعل الصفة الأبرز التي تختزل مجمل صفات النمطية هي سمة الجمود، وعن هذا يقال التكلس والتحجر، ويضاف إلى الجمود المتحجر فعل المراوحة، أي البقاء في حالة التوقف عملياً، على الرغم مما يقوم به المتوقف من حركات جسدية.

زمن ولادة النمطية عموماً، هو زمن انحسار الحيوية الفكرية لدى الأحزاب والتنظيمات السياسية، وهو أيضاً زمن الوقوف على باب بيت التجديد الفكري والسياسي والبرنامجي والعملي، من دون القدرة على تجاوز الباب إلى رحاب منزل العملية السياسية الشاملة. البقاء خارج الحيوية الحياتية لكل حزب، الذي لا يحيا حقاً من دون حيوية، أصاب وما زال يصيب، الأحزاب التي حملتها أفكارها وبرامجها إلى السلطة والحكم، مثلما لازم وما زال ملازماً، الأحزاب التي فشلت حيث نجح غيرها، فظلت في مواقع المعارضة، أو بقيت في واقع الانتظار بلغة اعتراضية باهتة. في هذه الحال التقت السلطة ومعارضتها، عند تقاطع النمطية الذي سبق تعريفه بالجمود، فبات السائد في كل مجتمع أُبتلي بهكذا تجربة،  جمودٌ في أعلى هرم السلطة، وفي أروقة الحكم ودهاليزه وجمود في الشارع وفي مكاتب الأحزاب وفي مراكز صناعة قراراتها.

الخلاصة المعيشة، أو حصيلة التجربة الواقعية للفكرة ولتجلياتها العملية، حصول تبدل جوهري في بنية الفكرة ذاتها، وحصول تغيير جوهري أيضاً في بنية وسائل تحقيقها. هنا تعود مقولة "لا ممارسة ثورية من دون نظرية ثورية" لتفعل فعلها، إنما بطريقة معاكسة هذه المرة، فإذا كانت "الثورية" رفيقة التغيير وتجاوز القديم، وإعطاء إشارة الانطلاق إلى الأمام، فإن قَلْبَ المقولة، أي تحويرها لتصير "لا ممارسة نمطية من دون أفكار نمطية"، هذا القلب يعطي إشارة الإحجام والتقوقع في صفوف المعارضة، ويعطي أمر القمع لدى السلطة التي جاءت باسم الجديد التغييري، ومن ثم جمدت وتنمطت، فانقلبت بنيتها الثورية، فاستلت سيف القمع ضد كل جديد يهدد قديمها، الذي كان جديداً في لحظة ثورية، ثم تقادم بفعل تراكم صدأ الأيام.

على هذه الواقعة الواقعية، التي يصير فيها السياسي الحاكم ورديفه السياسي المعارض أو المعترض، وجهين لعملة واحدة، تتأسس فكرة أن التغيير الجديد، لدى من يطمح إلى جديد، يواجهه عائقان: الأول نمطي قديم يمسك بقرارات السلطة وإدارة دفتها رسمياً، والثاني من صنف القديم ذاته، يمسك بكتاب النص الثوري وبتأويلاته وبمقادير من سلطة تحريك الشارع ومن سلطة الفتاوى الشرعية الثورية، التي تجيز اتقاء شرّ المعارضة الحقيقية الحيوية، "بخير" تدوير الزوايا، وبحديث نعم ولا ولكن، وبفضيلة السكون والصمت، لأنه ليس "في الإمكان أفضل مما كان". هذان العائقان فعليان، ويحيلان إلى أسلوبي تعامل مختلفين مع أهل السلطة ومع أبناء الشارع، لكن التعامل مع الطرفين يفترض وضوحاً كاملاً عند تشريح بنية السلطة وعند تعيين خطط معارضتها، ويتطلب وضوحاً مماثلاً عند تشريح البنية الحزبية الموروثة عند الإشارة إلى كيفية الاتصال بها، وإلى أهداف هذا الاتصال ومواضيعه، وما يرتجى منه من تحسين لشروط حالة المعارضة العامة.

لدينا نمطية لبنانية حزبية لا تخطئها العين، ولدينا سلطة موروثة من زمن الإقطاع السياسي والطائفي، لكن ما هو في اليد من قوى حيوية لتجاوز السائد بوجهيه، السلطوي والحزبي، ما زال ضئيلاً ضيئلاً. التجاوز الديمقراطي غير النمطي لا بدَّ منه، كبديلٍ لما تعرضه على المجتمع "سلطتا النمطية الديمقراطية"، الرسمية والشعبية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها