الأحد 2016/07/17

آخر تحديث: 11:07 (بيروت)

إستعراض الشاحنة القاتلة: بشاعة بلا حدود

الأحد 2016/07/17
إستعراض الشاحنة القاتلة: بشاعة بلا حدود
في عملية نيس ظهر هُزال التنسيق وتحليل المعلومات
increase حجم الخط decrease

"صرت أخشى، أن يأتي يوم على المسلمين في أوروبا، بقضهم وقضيضهم، كيوم الموريسكيين في الأندلس، ولات حين مندم". بهذه القسوة وبهذا الخوف، علق فاروق مردم بيك، على الجريمة التي شهدتها مدينة نيس، ليلة 14 تموز، يوم ذكرى الثورة الفرنسية.

على مدى السنوات القليلة، قدم "داعش" أبشع مشاهد القتل والتنكيل، من أعمال الإبادة الجماعية وقطع الروؤس، إلى حرق الأسرى أحياء، فضلاً عن سبي النساء والأطفال. والهدف الترهيب والترهيب والإخضاع. وهو أعلن "أن منفذ عملية الدهس في نيس بفرنسا هو أحد جنود الدولة الإسلامية". أضاف أنه "نفذ العملية استجابة لنداءات استهداف رعايا دول التحالف الذي يقاتل الدولة الإسلامية". هكذا، فإن هذا التنظيم الإرهابي، على جري العادة، يتبجح بارتكاباته، ويستثمر مستعرضاً بوقع الإعلان عن وحشية جرائمه، وأبرز محطاتها في الآونة الأخيرة، تفجير الكرادة- بغداد، واستهداف مطار إسطنبول ومجزرة نيس في فرنسا. وقد أوقعت هذه الارتكابات الإجرامية غير المسبوقة نحو أربعمئة ضحية وضعفي هذا العدد من الجرحى.

مع مجزرة نيس تستعيد كثيرون الدعوة- التوجيه، للقيادي في "داعش" أبو محمد العدناني، التي يعود تاريخها إلى 14 أيلول 2014، مع بدء التحالف الدولي عملياته الجوية ضد "الدولة الاسلامية"، وفيها "إذا كنت تستطيع أن تقتل الكفار (...) المواطنين في الدول التي دخلت في تحالف ضد داعش، فتوكلوا على الله واقتلوهم بأي طريقة. حطموا روؤسهم بالحجارة، أو اذبحوهم بالسكاكين، أو ادهسوهم بالسيارات، أو ارموهم من مكان مرتفع، أو اخنقوهم أو سمموهم". في حينه لم تلقَ هذه الدعوة الإهتمام الكافي، فبعد الهجوم بالأسلحة النارية والقتل بالرصاص لمدة ساعتين، ثم العملية الإنتحارية، تغير المشهد، إلى شاحنة ثقيلة، تنقض على محتفلين بذكرى الثورة الفرنسية في مدينة نيس، تجتاحهم وتطاردهم مسافة كيلومترين على امتداد جادة لابروموناد دوزانغليه، فتقضي على حياة 84 على الفور، وتصيب مئات بينهم ما يزيد عن خمسين حالة حرجة. وبين الضحايا والحالات الحرجة أعداد كبيرة من الأطفال.

طبعاً، ليست جريمة نيس أول استهداف لفرنسا من جانب الجماعات الإرهابية، ففي الأمس القريب كانت التفجيرات الإنتحارية في محيط استاد دوفرانس والهجوم الدموي على بيتاكلون ومحيطه، وغيرها في فرنسا. وفي كل هذه الأعمال الإجرامية تم اللجوء إلى أساليب غير متوقعة، وآخرها شاحنة براد تباغت المحتفلين وتدهس كل من كان قدره أن يكون في طريقها، في انتقال غير مسبوق من طابع العمليات الإنتحارية وهجمات الأسلحة النارية إلى إعتماد اسلوب أكثر الأفلام الهوليودية رعبا واستعراضاً.

ومع انتشار جثث الضحايا تأكد مجدداً أن فرنسا تحديداً، وهي من أكثر البلدان تعاطفاً مع كل مظلوم وبخاصة الثورة السورية، ويليها كل أوروبا، هي الأهداف المختارة للإرهابيين، وتحديداً "داعش"، الذي بالتوازي مع الضربات الشديدة التي يتعرض لها وتُقلص سيطرته الجغرافية، أطلق خلايا القتل في تحدٍّ سافرٍ لكل ما قيل عن استراتيجيات أمنية موحدة اتخذتها الدول المستهدفة.

في عملية نيس على وجه التحديد، ظهر هُزال التنسيق وتحليل المعلومات. ما سيكون له تداعيات كبيرة. فالمواجهة الأمنية الفرنسية، رغم الطوارئ، بدت متواضعة، ومثلها الأوروبية. أما الأميركيون الذين لم تحركهم مذبحة باتاكلون قبل أشهر، فهم يواصلون لعب دور بائع الكلام. فإذا كان صحيحاً أن المنفذ، محمد لحويج بوهلال الفرنسي من أصل تونسي، كان وحيداً في التنفيذ، فالعملية تطلبت كثيراً من التحضير والإعداد من جانب فريق إرهابي، درس المناسبة والمكان الذي يمكّنه من إيقاع هذا القدر من الضحايا، إلى إختيار الوسيلة: شاحنة البراد. والعمل على تصفيح الجهة الملاصقة للسائق واستبدال الزجاح الأمامي بآخر مصفح ضد الرصاص. وكل ذلك للحوؤل دون إصابة الإرهابي، إلى الأهداف الأخرى المتوخاة، من مشهد القتل دهسا على إمتداد كيلومترين، إلى ضرب البلد المستهدف، وفي الحالة الفرنسية، توجيه ضربة شديدة للسياحة. وبالتالي إلحاق خسائر كبيرة بالإقتصاد، وسوى ذلك من التداعيات الأمنية والسياسية خصوصاً، بحيث تسهم هذه العمليات الإجرامية بتقوية قوى التطرف والفاشية من فرنسا وأوروبا إلى الولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تم كل ذلك دون اكتشاف أي أثر؟

قررت فرنسا، من جملة ما اتخذته من قرارات، زيادة فعاليتها العسكرية في الحرب لإقتلاع دولة "داعش". وكان الرئيس الفرنسي هولاند قد حثّ واشنطن خلال قمة الأطلسي على البدء مع موسكو تعاوناً عسكرياً أفعل ضد "داعش" و"النصرة". ودون أدنى شك فإن هذا المنحى يتحتم اللجوء إليه دون إبطاء، للقضاء على دولة "داعش"، ويكون فعالاً، إذا طال جهات الإستبداد التي ساهمت في ابتداع هذه الظاهرة الدموية ومثيلاتها، مع التشديد أن مكافحة صلبة وحاسمة ضد الإرهاب لا تكون في إضعاف قوته العسكرية فحسب، بل يجب البحث عن السبل التي يمكن لها أن تساعد في تفكيك ترسانة من الأفكار، هي الأكثر فتكاً من كل الأسلحة الأخرى، وهي التي تهدد بأكثر من نيس واحدة، ونقاط الضعف للنفاذ إلى تحقيق جرائم عديدة.

هذه الترسانة، هي التي وجهت خطوات الإرهابي محمد لحويج بوهلال، الذي يسأل سائل: هل نظر في عيون أطفاله الثلاثة قبل الخروج لتنفيذ مذبحة نيس؟ وكيف قاد شاحنة الموت كل هذه المسافة لقتل أناس لا يعرف عنهم شيئاً، ألم يرَ وجوه الأطفال وهم بعمر أطفاله، ويسمع الصرخات ويتميز صراخ الأطفال، واستغاثتهم وهو يحطم عظامهم، وكيف انقض عليهم، ولماذا لم يتوقف أو ينكفيء وهو يرى الأجساد تتطاير، وألم يهزه الأنين وماذا كان يدور في خلده! وأساساً، كيف تم تصنيعه وبرمجته؟ إنها الترسانة التي جاءت الإشارة إليها أعلاه، وما لم تحظ من جانب المعنيين بالإهتمام والجهد الضروريين، لإقتلاع أسباب الحقد، ستبقى بيننا قنابل موقوتة تتحكم بها قوى سوداء امتهنت قتل المدنيين بدم بارد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب