الخميس 2016/09/08

آخر تحديث: 06:33 (بيروت)

أسطورة الجيش المصري

الخميس 2016/09/08
increase حجم الخط decrease
وافق مجلس النواب على تعيين اللواء محمد علي الشيخ - الرئيس الأسبق لهيئة الإمداد والتموين بالقوات المسلحة - وزيراً للتموين، وهو الأمر الذي يتسق مع نهج السيسي منذ صعوده إلى الحكم في 2013، حيث توسّع ظهور المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية. علماً أن المؤسسة العسكرية لم تغب أبداً عن الحياة المدنية المصرية، لكن ما اختلف مع بداية نظام السيسي هو الحرص على إظهار ذلك الحضور للجمهور، حتى في أدق التفاصيل، مثل توفير السلع التموينية والتدخل لحل أزمة حليب الأطفال على سبيل المثال.

يُقرأ ذلك في ضوء فشل السيسي في بناء ظهير اجتماعي يرتبط به ارتباطاً موضوعياً، مثل الطبقة الوسطى التي خلقها جمال عبد الناصر، أو طبقة "باشاوات الانفتاح" التي خلقها السادات وتطورت إلى "رأسمالية المحاسيب" في عهد مبارك. صحيح أن السيسي سعى إلى خلق ذلك الظهير الاجتماعي السياسي غير أن كل المحاولات باءت بالفشل واقتصرت شعبيته على جموع "المهاويس"، فجعل من المؤسسة العسكرية حزبه السياسي. ولما كان هذا النظام بديلاً لجماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تؤدي دوراً اجتماعياً كبيراً في حياة الناس اليومية، كان لزاماً على المؤسسة العسكرية، بوصفها الحزب السياسي الحاكم، أن تؤدي هذا الدور.

صحيح أن تدخلات المؤسسة العسكرية، حتى الآن، تأتي استجابة لحاجات حقيقية لدى جموع الناس، وقد تنجح في زيادة شعبية الجيش لدى الجمهور، غير أن لذلك النهج وجهاً أعمق يهدد كيان الدولة المصرية ذاتها. ولبحث ذلك، لا بد من الرجوع إلى دور "الأسطورة" في الحفاظ على تماسك الجماعة. بالأخص إن كانت تلك الجماعة دولة، لها مشروع سياسي يستلزم انتظام أفرادها في إطار من الرشادة يضمن كفاءة الإنجاز.

تلك الرشادة التي تؤطّر معنى الاجتماع الحداثي، تجعل من كل جماعة حداثية جماعة غائية. وحتى ينتظم الأفراد في أدوارهم في الجماعة، لا بد من ضمان أن تصورات الأفراد عن العالم تتفق وغاية الجماعة. فلا أخطر على النظام من خيال جامح يسعى إلى تصور العالم خارج إطار واقع الجماعة ونظامها. لذلك كانت الحاجة للأسطورة لتؤطر خيال الأفراد وتحدّ منه. تلك الأسطورة التي لا تتحقق، وإنما تُحفر في مخيلة الأفراد كقِبلة يتوجهون إليها بتصوراتهم وبالتالي حركتهم. الأكثر من ذلك، إن تحققت الأسطورة كحقيقة مادية أو حتى اقتربت من ذلك خضعت للفحص والتدقيق بحسابات الحياة المادية التي قلما تصمد في مواجهتها فينفرط عقدها. فعلى سبيل المثال، كانت فكرة إعادة الخلافة الإسلامية، حتى بضع سنوات ولّت، هي المظلة التي ينضوي تحتها مشروع الإسلام السياسي، والغاية التي يسعى إليها كل من يحكم باسم الإسلام. كان لتلك الفكرة مفعول السحر في تسعير مشاعر المسلمين وحنينهم إلى ماضٍ تهيمن عليه التصورات أكثر من الحقائق. أما الآن فبعدما صار للخلافة دولة وعَلَم وخليفة وعُملة وقانون ومجاهدون (داعش)، نستطيع الجزم بتراجع قدرة أسطورة الخلافة الإسلامية على إلهاب حماسة العدد نفسه من الناس كما في السابق.

لا ريب أن الأسطورة المؤسسة للدولة المصرية ترتكز بشكل رئيس على الجيش المصري. فتماسك وقوة الجيش المصري، هما الأسطورة المؤطّرة للدولة المصرية الحديثة. بل إن مناهج التدريس تخبرنا أن الجيش المصري هو ذلك المسار الممتد من جيش أحمس وجيش صلاح الدين وجيش قطز وجيش إبراهيم باشا حتى جيش يوليو 52، والذي ما إن انتكس في 67 حتى تعافى سريعاً في 73، وهو ذلك الجيش الذي قال فيه النبي محمد أنهم خير أجناد الأرض. ليكون الجيش المصري هو المعادل الموضوعي لكيان الدولة المصرية، فيظل بذلك متعالياً على الصراع السياسي على مر الأزمان. حتى أن "حركة كفاية"، والتي كانت أكبر الحركات المعارضة لحكم مبارك خلال السنوات الأخيرة من حكمه، كان أفق معارضتها أن تتدخل المؤسسة العسكرية، ممثلةً في عمر سليمان - رئيس المخابرات العامة - لإنقاذ البلاد من حكم مبارك.

ظل ذلك هو الحال حتى بعدما انتفض الناس ضد نظام مبارك في يناير 2011. فقد نجحت المؤسسة العسكرية في الاحتفاظ لنفسها بمسافة من "الأطراف المتصارعة"، جنّبتها الدخول كطرف في الصراع السياسي بشكل كامل، حتى وإن ظل المجلس العسكري يحكم البلاد فعلياً لمدة تزيد عن العام، من مارس 2011 حتى يونيو 2012. وهو الأمر الذي تغير منذ وصول نظام السيسي للحكم، فجعل من المؤسسة العسكرية طرفاً سياسياً ينقسم الناس حوله بين مؤيد ومعارض. يسبّح البعض بحمده، ولا ينفك البعض الآخر عن النيل منه بالتقريع والسخرية. صحيح أن المسبّحين بحمده يتجاوزون المعارضين بشكل ملحوظ، غير أن الحديث عن المؤسسة العسكرية في سياق المؤيدين والمعارضين ليس بحديث عن أسطورة مؤسسة وكيان مهيمن، بل حديث عن خيار سياسي قد ينتصر اليوم ويُهزم غداً، لصالح خيار سياسي آخر، وهو الأمر الذي لا يمكن تصور تبعاته على تماسك كيان الدولة المصرية ذاتها!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب