تلك الرشادة التي تؤطّر معنى الاجتماع الحداثي، تجعل من كل جماعة حداثية جماعة غائية. وحتى ينتظم الأفراد في أدوارهم في الجماعة، لا بد من ضمان أن تصورات الأفراد عن العالم تتفق وغاية الجماعة. فلا أخطر على النظام من خيال جامح يسعى إلى تصور العالم خارج إطار واقع الجماعة ونظامها. لذلك كانت الحاجة للأسطورة لتؤطر خيال الأفراد وتحدّ منه. تلك الأسطورة التي لا تتحقق، وإنما تُحفر في مخيلة الأفراد كقِبلة يتوجهون إليها بتصوراتهم وبالتالي حركتهم. الأكثر من ذلك، إن تحققت الأسطورة كحقيقة مادية أو حتى اقتربت من ذلك خضعت للفحص والتدقيق بحسابات الحياة المادية التي قلما تصمد في مواجهتها فينفرط عقدها. فعلى سبيل المثال، كانت فكرة إعادة الخلافة الإسلامية، حتى بضع سنوات ولّت، هي المظلة التي ينضوي تحتها مشروع الإسلام السياسي، والغاية التي يسعى إليها كل من يحكم باسم الإسلام. كان لتلك الفكرة مفعول السحر في تسعير مشاعر المسلمين وحنينهم إلى ماضٍ تهيمن عليه التصورات أكثر من الحقائق. أما الآن فبعدما صار للخلافة دولة وعَلَم وخليفة وعُملة وقانون ومجاهدون (داعش)، نستطيع الجزم بتراجع قدرة أسطورة الخلافة الإسلامية على إلهاب حماسة العدد نفسه من الناس كما في السابق.
لا ريب أن الأسطورة المؤسسة للدولة المصرية ترتكز بشكل رئيس على الجيش المصري. فتماسك وقوة الجيش المصري، هما الأسطورة المؤطّرة للدولة المصرية الحديثة. بل إن مناهج التدريس تخبرنا أن الجيش المصري هو ذلك المسار الممتد من جيش أحمس وجيش صلاح الدين وجيش قطز وجيش إبراهيم باشا حتى جيش يوليو 52، والذي ما إن انتكس في 67 حتى تعافى سريعاً في 73، وهو ذلك الجيش الذي قال فيه النبي محمد أنهم خير أجناد الأرض. ليكون الجيش المصري هو المعادل الموضوعي لكيان الدولة المصرية، فيظل بذلك متعالياً على الصراع السياسي على مر الأزمان. حتى أن "حركة كفاية"، والتي كانت أكبر الحركات المعارضة لحكم مبارك خلال السنوات الأخيرة من حكمه، كان أفق معارضتها أن تتدخل المؤسسة العسكرية، ممثلةً في عمر سليمان - رئيس المخابرات العامة - لإنقاذ البلاد من حكم مبارك.
ظل ذلك هو الحال حتى بعدما انتفض الناس ضد نظام مبارك في يناير 2011. فقد نجحت المؤسسة العسكرية في الاحتفاظ لنفسها بمسافة من "الأطراف المتصارعة"، جنّبتها الدخول كطرف في الصراع السياسي بشكل كامل، حتى وإن ظل المجلس العسكري يحكم البلاد فعلياً لمدة تزيد عن العام، من مارس 2011 حتى يونيو 2012. وهو الأمر الذي تغير منذ وصول نظام السيسي للحكم، فجعل من المؤسسة العسكرية طرفاً سياسياً ينقسم الناس حوله بين مؤيد ومعارض. يسبّح البعض بحمده، ولا ينفك البعض الآخر عن النيل منه بالتقريع والسخرية. صحيح أن المسبّحين بحمده يتجاوزون المعارضين بشكل ملحوظ، غير أن الحديث عن المؤسسة العسكرية في سياق المؤيدين والمعارضين ليس بحديث عن أسطورة مؤسسة وكيان مهيمن، بل حديث عن خيار سياسي قد ينتصر اليوم ويُهزم غداً، لصالح خيار سياسي آخر، وهو الأمر الذي لا يمكن تصور تبعاته على تماسك كيان الدولة المصرية ذاتها!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها