الخميس 2016/10/27

آخر تحديث: 18:20 (بيروت)

"البلطجية" شباب أيضاً

الخميس 2016/10/27
increase حجم الخط decrease
شاهدت بعضاً من وقائع "المؤتمر الوطني الأول للشباب" والذي يقام في رعاية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في شرم الشيخ. وعلى مدار يومين من المتابعة، يبدو أنه التجمع الأول الذي يضم كل هذا العدد من الشباب الذين يقفون على مسافات متقاربة نسبياً من الدولة والنظام. كثيرون من هؤلاء الشباب كانوا يوماً، رفاق معارك الثورة، وكثيرون منهم كانت صورته ترتبط بعناوين برّاقة مثل "شباب يناير الطاهر" و"الورد اللي فتح في جناين مصر" وغيرها. لكن الانتباه لهذا الأمر يجعلنا نعيد التفكير في افتراض أن "ثورة يناير 2011" كانت ثورة شباب في مقابل "دولة العواجيز". إذ يبدو أن "الشباب" ليس تقدّمياً بالفطرة، بل قد نجد بسهولة شباباً يغيرون مواقعهم من التقدمية، إلى الرجعية، بسلاسة يُحسدون عليها. ومن الشباب أيضاً مَن يبدأ حياته مِن مواقع الرجعية لا يبارحها أبداً. ولن أتعجب إن وجدت بعض هؤلاء الشباب الذين اعتلوا منصات المؤتمر، وقد كانوا يوماً يقفون على منصات الحزب الوطني أيام جمال مبارك.

مثلاً، نجد طارق الخولي، أحد وجوه حركة التمرد وأحد "أبطال" معركة إزاحة الإخوان عن الحكم وعضو برلمان 2016، يتحدث في الحلقة النقاشية تحت عنوان "الحريات العامة والمشاركة السياسية" موجهاً كلامه للرئيس: "لقد قدمتُ مقترحاً بقانون لا أظنه على هوى المجلس القومي لحقوق الإنسان، وأنا أعلم أني سأتلقى الشتيمة لهذا السبب"، وبرر ذلك بأنه يرى أن وظيفة القوانين هي بالأساس الردع. وفي الجلسة نفسها، يتحدث أحد شباب الأحزاب بحماسة عن أن كل هؤلاء الشباب في المؤتمر وخارجه "يعشقون مصر"، فقط أعطوهم الفرصة ولسوف تنبهرون "قسماً بالله العظيم هتنبهروا". فنحن هنا بين مثالين، أحدهما عضو السلطة التشريعية ويرى أن القانون وظيفته الردع و"تنظيم" الحرية، خصوصاً في الظروف الاستثنائية، وهو الذي في يوم من الأيام كان يناضل من أجل الحرية. والآخر يقنَع بدور الديكور الذي لا يقول شيئاً سوى الكلام الفارغ من أي مضمون، فهو يطلب الفرصة من النظام، ناسياً أو متناسياً أن ذلك النظام هو الذي يتوزع الشباب في عهده بين قتيل وجريح وسجين ومنفي، و"ماشي بعلاج"!!

منذ البداية، توجستُ من وصف "يناير 2011" بثورة الشباب. فالتدقيق في الأمر يكشف لنا أن ذلك الوصف لم يكن سوى لجهات رسمية أو شبه رسمية. وهو التوصيف الذي لم يشمل الشباب جميعاً، كما يُخيل لنا من الوهلة الأولى، بل وضع حداً فاصلاً واضحاً بين "شباب 25 يناير الطاهر" وغيرهم من "البلطجية". هذا الشباب الطاهر، هو ابن الطبقة الوسطى الذي يتقن اللغات الأجنبية ويجيد التعامل مع الانترنت ويحصّل مستوى عالياً من التعليم لا تدركه في مصر سوى أقلية. وكل من لا ينطبق عليه هذا الوصف كان بالتبعية يندرج تحت وصف البلطجية. من اللطيف هنا أيضاً ملاحظة أنهم لم يكونوا "البلطجية الشباب" أو "شباب البلطجية" مثلاً، بل فقط بلطجية. فالشباب لم يكن مجرد وصف محايد لفئة عمرية، بل كان مصطلحاً سياسياً تم استخدامه للتفريق بين "شباب 25" الذين تظاهروا في ميدان التحرير سلمياً، و"بلطجية 28" الذين حرقوا أقسام الشرطة.

كانت إحدى آفات يناير 2011، هي الرومانسية التي بمقتضاها تحولت موضوعات السياسة - التي يفترض أن يحكمها العقل وتؤطرها حسابات المصالح - إلى موضوعات للشعر وذخيرة للمجاز. هكذا صار ميدان التحرير، يوتوبيا الروح، وصارت شبكات التواصل الاجتماعي هي الشبح الذي يخيف غول النظام، وصار الشباب هو الطهارة والنقاء. أخلصنا كثيراً للمجاز حتى اختلط الواقع بالخيال المأمول في تصوراتنا. فميدان التحرير، كما احتضن المناضلين للحرية، لم يطرد الإسلاميين الذين احتلوا الميدان في إحدى "جُمعات" يوليو 2011 والتي عُرفت بـ"جُمعة قندهار" عندما هتفوا للمشير طنطاوي "يا مشير انت الأمير". لم يرسل الميدان عليهم آنذاك، طيراً أبابيل، كما لم يلفظ المحتفلين بتولي السيسي مقاليد البلاد، أو عشرات المهاويس الذين يؤدون فقرات الكوميديا السوداء في كل مناسبة وطنية، أمثال مدام إيمان عبد العزيز، وشبيه السادات وغيرهما.

وشبكات التواصل الاجتماعي، كما كانت المساحة التي احتلها "الشباب التقدمي"، فإنها لم تمانع صفحات مثل "مصر مقبرة الغزاة" وغيرها من صفحات محبي السيسي ومؤيديه. وكما أن هناك شباباً تقدمياً يدفع ثمن اختياراته، فهناك شباب الإخوان الذين هاجموا معتصمي "الاتحادية" في أواخر 2012، وهناك الشباب الدولتي الذين نراهم في المؤتمر الوطني.

ربما يكون الوقت قد تأخر لندرك أن السياسة ليست موضوعا للرومانسية. لكن، أن تأتي متأخراً.. خيرٌ من ألا تأتي أبداً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب