الخميس 2016/11/24

آخر تحديث: 18:00 (بيروت)

عودة شرطة المطرية

الخميس 2016/11/24
increase حجم الخط decrease
بعد خمس سنوات من الغياب عاد قسم شرطة المطرية لموقعه القديم في شارع المطراوي. عاد ليجسّد هزيمة الأهالي الذين اقتحموه في 28 يناير 2011، إذ كانت المطرية من أكثر مناطق القاهرة التي قدّمت شهداء للثورة في معارك الأهالي ضد أقسام الشرطة يومذاك. ومنذ ذلك الحين، اتخذ قسم شرطة المطرية لنفسه موقعاً آخر، بدلاً من شارع المطراوي الضيق الذي يُحاصَر فيه قسم الشرطة بالمباني السكنية المتلاصقة ويجعله فريسة سهلة للغضب.

وكان أول ما قام به قسم الشرطة بعد العودة - التي اكتملت قبل أيام - وضع الحواجز الحديدية وسط الشارع الضيق أصلاً، ليسمح بمرور سيارة واحدة فقط عبر الأمتار القليلة التي تقابل قسم الشرطة. كما أزيلت الإشغالات على طول شارع المطراوي: الأكشاك الصغيرة، وثلاجات محلات البقالة. عاد قسم الشرطة ليفرض "النظام" ويستعيد الأدوار التنظيمية في شارع المطراوي.

تلك الأدوار التنظيمية هي ذاتها التي كان يقوم بها قسم الشرطة حتى قبل يناير 2011. صحيح أن قسم شرطة المطرية اشتهر بالتعذيب المُفضي إلى الموت خصوصاً بعد 2013، غير أن ظهور قسم الشرطة الرسمي في المجال العام واحتكاك أفراد الشرطة بالقطاع الأكبر من الأهالي في الحياة اليومية كان وما زال ينحصر في تلك الأدوار التنظيمية.

وتفسير رفض الجماهير لتلك الأدوار التنظيمية يجب ألا ينحصر في أن الجماهير محبّة للفوضى بطبيعتها. بل إن ذلك الرفض والتأفف له وجهان. أولهما هو رفض عام لكافة أشكال فرض النظام في مصر، إذ أن أي محاولة لتنظيم الحياة في مصر دائماً ما تأتي منقوصة. فحين يُمنع الباعة الجائلون من شارع أو ميدان ما، اعتادوا عليه، لا يتم توفير البديل لهم، وحين يُمنع السير بعكس الاتجاه في أحد الشوارع لا يتم تمهيد الشوارع البديلة.. وهكذا، فإن محاولات فرض النظام تلك تتسبب في التضييق على حياة الناس، بدلاً من أن تكون بغرض تسهيلها. والوجه الآخر لرفض أهالي المطرية أدوار قسم الشرطة التنظيمية، يتمثل في صورة قسم الشرطة نفسه. تلك الصورة التي لا تنحصر في التنظيم، بل إن الحضور الأكبر لقسم شرطة المطرية في أذهان أهل الحي مرتبط بحزمة من الأدوار غير الرسمية، والتي كانت السبب الرئيس في أن يتحول الضيق والتأفف الشعبي إلى غضب كاسح في 28 يناير 2011.

حي المطرية هو من الأحياء الشعبية الناشئة عشوائياً في القاهرة، والتي نشأت في معظمها نتيجة زحف عشوائي للريف على العاصمة، بعيداً من خطط الدولة للعمران. فالمطرية، تاريخياً، كانت منطقة مُخصصة لمزارع وقصور أمراء عائلة محمد علي، والتي ما زال بعضها قائماً حتى الآن. بل حتى ثلاثة عقود خلت، كانت المطرية لا تزال محتفظة بكثير من المساحات المُخصصة للزراعة، غير أنها الآن تكتظ بالمباني السكنية المتلاصقة، والتي لم يحصل منشئوها على رخصة للبناء، بل فرضوها كأمر واقع، بحِيل غير رسمية في أغلب الأحيان. ولما كان التمدد الديموغرافي للحي، بهذا الشكل العشوائي، يتجاوز قدرة الدولة على ضبطه بالطرق الرسمية، كان اللجوء إلى الطرق غير الرسمية، من طريق اختراق قسم الشرطة لهياكل السلطة الشعبية في المنطقة. ولما كان القوام الأساسي للحي ينحدر من أصول ريفية، فإن هياكل السلطة الشعبية يغلب عليها الطابع العائلي. فالسلطة تتوزّع في المنطقة على العائلات الكبيرة العاملة في مجال المقاولات، ومنهم من يعمل في مجالات غير شرعية كتجارة المخدرات والآثار.

انخرط قسم الشرطة مع بعض تلك العائلات في أنشطة اقتصادية شملت حتى الأنشطة غير الشرعية. فلقاء تسهيل "الأعمال"، يتلقى مأمور القسم عمولات مادية، ومن وقت إلى آخر، يتم تسليمه صغار المجرمين حتى يحافظ قسم الشرطة على بعض من مظاهر دوره في حفظ الأمن، وهو الأمر الذي تناول شيئاً منه، فيلم "أرض الخوف" في حي الباطنية مثلاً. والحال إن قسم الشرطة انغمس في تلك الترتيبة العائلية، وتطبّع بها، حتى صار الناس في الشارع يطلقون على قسم الشرطة "عائلة النسر".

وبذلك، فإن عودة قسم الشرطة لا تمثل عودة الدور التنظيمي الذي يقوم به في العلن فحسب، بل عودة هياكل السلطة تلك بشكل مادي ملموس. يستدعي ذلك، في أذهان أهالي المطرية، الدولة، في صورة الفتوة البلطجي الذي يستوجب التفاعل معه عنفاً جسدياً. وهذا ما يفسّر حالة التحفّز المشوب بالإحساس بالهزيمة، التي تخيّم على المارة بجوار القسم. الإحساس الذي يجعل الناس يتهامسون: "شكلهم نسيوا العلقة اللي فاتت" بينما يحيّون الضباط بـ"يا باشا".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب