الثلاثاء 2024/03/12

آخر تحديث: 14:18 (بيروت)

كريستا سالاماندرا: أنثروبولوجيا الدراما السورية...فورة التواطؤ والنقد

الثلاثاء 2024/03/12
كريستا سالاماندرا: أنثروبولوجيا الدراما السورية...فورة التواطؤ والنقد
"بقعة ضوء"
increase حجم الخط decrease
ترى كريستا سالاماندرا، أستاذة الأنثروبولوجيا في كلية Lehman في نيويورك، أن أعمالًا مثل "بقعة ضوء" و"الانتظار" وغيرها عبرّت عن الاحتقان والغليان المُعتمِل في أحشاء المجتمع السوري وأنذرت بالانفجار الوشيك. وإذ تثمن سالاماندرا عاليًا، في تحليلها العميق للأعمال الاجتماعية السورية، الجماليات القاتمة التي ابتكرتها تلك الأعمال والفكاهة المريرة المنبثقة من الألم والذعر، وتنحاز إلى مبدعي تلك الأعمال في شجاعة طرحهم لأسئلة مؤرِّقة ومزمنة، فإنها إذ تفعل ذلك، تطرح السؤال المقيم والمقترن بأعمال النقد الاجتماعي والسياسي في سوريا في ظل حزب البعث، ومفاده: هل تواطأت تلك الأعمال، على نحو ما، مع الحكومة وعملت بمثابة واجهة تجميلية ودعائية لها؟ هل كانت تلك الأعمال من الزئبقية ورمادية الخطاب حد تطويعها من قبل الحكومة في ماكينتها الإعلامية وضمن برنامجها السياسي والاجتماعي(!) بحيث اندرجت، ضمن أدواتها وتعبيراتها عن هويتها؟ أم أن تلك الأعمال، التي مضى بعضها بعيدًا في استشراف الخراب والإشارة إلى أسه، كانت نتاج رؤى فنية أصيلة واشتباك عميق مع أسئلة حارقة وملتهبة، ولم يكن لها إلا أن تتبدى وتتمظهر على النحو الذي رأيناه؟  
قامت سالاماندرا بعمل ميداني مكثف حول الثقافة الوسيطة والبصرية والشعبية في الشرق الأوسط. وسبق لنا أن استعرضنا هنا بعضًا من مقدمة كتابها المهم "دمشق الجديدة القديمة"(الشكر للأستاذة سالاماندرا إجازتها للترجمة).

بينما اجتاحت الاحتجاجات المناهضة للحكومة سوريا في العامين 2011 و2012، احتفى الصحافيون بجيل جديد من الفنانين النشطاء وأشكال المعارضة الإبداعية. وقد انهار جدار الخوف الذي ظل لفترة طويلة يحد من التعبير الفني وقيل إن الساخرين الشباب، الذين يغمرون الإنترنت بالرسوم الكاريكاتورية اللاذعة ويحيون المظاهرات العامة بتكتيكات خيالية، قد تجاوزوا يأس المنتجين الثقافيين الأكبر سناً وامتثالهم. إن فكرة القطيعة هذه التي تم التعبير عنها في وسائل الإعلام الدولية وتردّد صداها في المناقشات العلمية، لم تنسب أي دور للمؤسسة الفنية في سوريا. فقد افترضت هذه الحفاوة أن "المعارضة التقليدية"، التي تضم العديد من صناع الإعلام، كانت هامشية التأثير على الحركة الاحتجاجية. ومن خلال إغفالها ذاك، ألمحت روايات وسائل الإعلام عن الشباب المعارضين إلى عجز الجيل الأكبر سنًا.

بدت صناعة الدراما التلفزيونية السورية، بسيطرة الدولة القاسية عليها وعلاقاتها المتعددة بالحكومة، مصدرًا غير محتمل للأدلة التي تعقد هذه الرواية. إذ بينما تعرض بعض أعضاء تلك الصناعة التلفزيونية للترهيب والعنف والاعتقال بانضمامهم إلى الاحتجاجات، ظل الكثيرون صامتين. وفي الواقع، دعم العديد من الشخصيات الدرامية البارزة - الممثلون على وجه الخصوص الرئيس بشار الأسد علنًا، مما صادق على وجهات النظر التي ترى في الصناعة الدرامية ذراعًا دعائيًا حقيقيًا للنخبة الحاكمة. أزعم بأنه على الرغم من استقلاليتهم المحدودة، فقد طوّر مبدعو الدراما السوريون النشطون خلال العقد الأول للرئيس الشاب في السلطة جمالية قاتمة زودت النشطاء المناهضين للحكومة بلغة نقدية بصرية.

"بقعة ضوء".. محط الأنظار
لا تقدم السياسات الثقافية المشحونة للانتفاضة السورية، للإعلاميين، أي أرضية محايدة. فأولئك الذين أيدوا، ولو بشكل ضعيف، دعوات المتظاهرين للإصلاح، تعرضوا لمضايقات من قبل الموالين للأسد. بينما واجه المطالبون بإسقاط الحكم أشكالاً أقوى من الترهيب، بما في ذلك الاعتداء والسجن. وفر الكثير منهم إلى المنفى. بينما واجه مؤيدو الحكم أو الحكومة حملة تشهير عبر الإنترنت، وانتهى بهم الأمر في صفحة "جدار العار" الفايسبوكية. وليس من المستغرب أن تواجه شخصيات الصناعة التلفزيونية تلك ضغوطًا من جميع الأطراف، نظرًا لبروزها المتزايد في سوريا وخارجها. فخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سيطرت الأعمال الدرامية والمسلسلات الكوميدية المُنتجة في سوريا على برامج الترفيه العربية. إن قصة "الفورة الدرامية" في سوريا، من وجوه عديدة، هي قصة عهد بشار الأسد بكل تعقيداته وتناقضاته.

فمن خلال الكوميديا السوداء والواقعية الاجتماعية، عمل مبدعو الدراما التلفزيونية داخل هياكل الدولة لدفع حدود التعبير المسموح به. وتزامنت جهودهم مع جهود المثقفين وغيرهم ممن تساوقوا مع ذرى وقيعان هذا العقد المليء بالأمل. ومثل الكثيرين في المعارضة التي أُغضي البصر عنها، اجتاز صناع الدراما مشهدًا أيديولوجيًا محفوفًا بالمخاطر، وهو حقل ثقافي ملغوم بإمكانية المعاقبة والاستتباع والتواطؤ. ويمثل "بقعة ضوء" مؤشرًا مناسبًا لهذه اللحظة البعثية المتأخرة. فقد بدا أن "بقعة ضوء"، وهي سلسلة اسكتشات ساخرة بُثت خلال السنوات الأولى لبشار الأسد، تبشر بانفتاح جديد.

استعان أيمن رضا وباسم ياخور بالوافد الجديد ليث حجو لإخراج المسلسل. عقد الثلاثة جلسة لتداول الأفكار في مطعم بيت جبري الذي افتتح حديثًا في دمشق القديمة. في رواية حجو عن الاجتماع: "سألتُ أيمن وباسم: شو بدنا نعمل؟، فقالا: والله ما منعرف، فقلت: شو هالورطة؟". اختلف الشكل الذي ابتكروه في النهاية عن "مرايا" ياسر العظمة، وهو برنامج لاذع خفيف الظل محوره شخصية العظمة، بينما برز "بقعة ضوء" كعمل جماعي سخر بشدة من الطائفية والإقليمية والإحياء الإسلامي وفساد الدولة وحتى أجهزة المخابرات المخيفة. أضفى "بقعة ضوء" على النقد السياسي والاجتماعي هامشًا تهكميًا طازجًا وتطويرًا تقنياً، وواصل، باعتماده على الأشكال الثقافية النقدية من السبعينيات والثمانينيات، لا سيما عمل دريد لحام و"مسرح الشوك"، تقليدًا للنقد الكوميدي لجيل جديد من المشاهدين والمبدعين.

عقد مبتكرو الدراما آمالهم في التغيير على شخصية الرئيس الجديد. واعتقدوا، مثل النخب الإصلاحية الأخرى، أن التحول سيحدث بالتدريج، وبدا أن بشار الأسد سينفذه على الأرجح. بدا أن الزعيم الجديد، بتعليمه الغربي وزوجته بريطانية المولد، هو ذاك المُحدِّث والمجدد البارع والمستعد لتفكيك الدولة البوليسية العسكرية الفاسدة التي نمت على مدى ما يقرب من أربعة عقود من حكم حزب البعث. وقدم خطابًا للإصلاح أمل أهل الصناعة الدراما في ترجمته إلى ممارسة. وكان الرئيس، بدوره، فخوراً بصناعة الدراما، ويُزعم أنه تباهى بإشادة القادة الأجانب به لبثه "مرايا" الناقدة عبر التلفزيون الرسمي.

وبالنسبة لمبدعي الدراما، بدا بشار الأسد حليفًا طبيعيًا في معاركهم ضد تدخل الأجهزة الأمنية. كما رفض العديد من رجال الصناعة قمع الحكومة لربيع دمشق العام 2001، وهو النقاش الإصلاحي القصير المزدهر الذي وسم الأشهر الأولى للأسد في المنصب، بوصفه عودة لأساليب الحكومة القديمة. ظلوا متفائلين بأن الرئيس الشاب سيطلق في نهاية المطاف، التحول الذي وعد به. احتفظ البعض بهذا الأمل حتى عندما وجهت القوات المسلحة في البلاد أسلحتها إلى المواطنين المحتجين سلمياً. لكن آخرين أصيبوا بخيبة أمل من استمرار القيود على حرية التعبير واستمرار الفساد. وبدأ عدد من المبدعين التلفزيونيين، بما في ذلك فريق "بقعة ضوء" في انتقاد عملية لبرلة الاقتصاد التي بدأها حافظ الأسد وسرّعها بشار الأسد، مما غير صناعتهم وجعل الحياة بائسة لملايين العمال السوريين. مع تكشّف العقد، بلغ "بقعة ضوء" ذروته وتلاشى، تمامًا مثل مشروع الإصلاح الذي انبثق منه وتهكم عليه. أدى الاقتتال الفني الداخلي بين فريق الإنتاج، والاتهامات بالاستتباع داخل الصناعة وخارجها، والمنافسة المتزايدة من المسلسلات الكوميدية الجديدة، إلى دفع "بقعة ضوء" من مركز الصدارة في الثقافة العامة السورية. وزعم بعض صانعي الدراما والنقاد أنها فقدت ميزتها الحاسمة، خصوصاً بعد بدء الصراع وكفاح الحكومة السورية للسيطرة على رواية الانتفاضة.



بيد أن "بقعة ضوء" والبرامج الشبيهة ساعدت بلا شك على توسيع حدود النقاش العام وطمس حدود المحرّمات. كما بدأت التعليقات النقدية التي كان من غير المرجح أن تحدث يومًا في المنتديات العامة أو المحادثات الخاصة، تتكاثر في مناقشات البرامج التلفزيونية. وأصبحت عبارة "تمامًا كما في بقعة ضوء" عبارة مشهورة تدل على العبث اليومي، وظهرت الإشارات إلى المسلسل في الخلافات الإبداعية للانتفاضة. أدت الظروف الاقتصادية المتدهورة واستمرار الاستبداد إلى إبراز فراغ الخطاب الإصلاحي للحكومة السورية واستمرار الدولة البوليسية، مما وفر مصدرًا للسخرية اللاذعة. وسخرت حلقات أخرى من مسؤولي الدولة وعملاء الأمن. بينما سخر بعضها الآخر من انتشار الإسلاموية على الرغم من العلمانية المعلنة للدولة. في حين أشارت حلقات أخرى إلى التناقض المتمثل في تفاقم الفروق الطبقية في حكم اشتراكي بالاسم فقط، دافعة بهذا معايير التعبير الممكن. في النهاية، ومن خلال تحدي حدود التعبير، كشفت السلسلة عن خداع خطاب الدولة.

من موظفين إلى نجوم
من خلال الأعمال المبتكرة مثل "بقعة ضوء" في ريبرتوارهم المتسع، يجد مبدعو الدراما السوريون أنفسهم في طليعة صناعة الأقمار الاصطناعية العربية ذات الانتشار العالمي. إذ تقدم قنوات متنوعة مثل MBC المملوكة للسعودية ومقرها دبي (مركز بث الشرق الأوسط) وتلفزيون دبي وInfinity في أبوظبي، للمشاهدين العرب، مجموعة واسعة من الأشكال الترفيهية، من برامج الألعاب والكوميديا إلى برامج الواقع ومقاطع الفيديو الموسيقية، لكن المسلسلات تبرز بينها. ففي أنحاء العالم العربي وخارجه، يتابع ملايين المشاهدين المسلسلات السورية، كما كانوا يتابعون الإنتاج المصري ذات مرة. نجت الصناعة من ظروف الحرب: فمنذ بداية الانتفاضة، استمر الإنتاج بنحو نصف متوسط ما قبل الصراع البالغ 45 عملًا دراميًا في موسم البث الرمضاني. ومن خلال الإنتاج المشترك مع لبنان ومصر والإمارات، تحايلت الدراما على كل من مقاطعة المحطات الخليجية والعقوبات الاقتصادية المفروضة على المنتجين الرئيسيين. كما نجا العديد من المبدعين أيضًا من الحرب نفسها: منذ العام 2012، صُورت غالبية المسلسلات خارج سوريا.

تعكس قدرة الصناعة على الثبات وسط الصراع قاعدتها السوقية الواسعة. فقد استفاد مبدعو "بقعة ضوء" والبرامج الجديدة الأخرى من المشهد الإعلامي الموسع والممول جيدًا والذي يفرض شروطًا وقيودًا جديدة. وتعكس الثروات الحديثة للصناع الدراميين، الاقتصادية والرمزية منها، سياسات اللبرلة. فهذه الإصلاحات، التي بدأها حافظ الأسد في أوائل التسعينيات وتسارعت مع ابنه بشار في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سهلت الإنتاج الخاص. كما تضمنت أيضًا إضفاء الطابع الإقليمي على وسائل الإعلام العربية، حيث قام عدد متزايد من قنوات الترفيه العربية المملوكة لمجلس التعاون الخليجي - بما في ذلك العديد من القنوات المتخصصة في الدراما - بشراء المسلسلات السورية. ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أدت زيادة الطلب والتمويل الأجنبي إلى تحويل قطاع الإنتاج التلفزيوني من حفنة من المصالح الاجتماعية الهامشية والمتواضعة مالياً المملوكة للدولة، والتي يعمل بها مهنيون، إلى صناعة محورها شركات الإنتاج الخاصة التي توظف العمالة التعاقدية.

وبينما ظلت مجموعات الممثلين هي القاعدة في المسلسلات السورية، اتسعت الفروق بين المبدعين والفنيين. كما عززت صناعة عبر وطنية من أدبيات المعجبين، المطبوعة وفي شبكة الإنترنت، الشهرة والشرعية الاجتماعية لمن هم في القمة. وأصبح الممثلون السوريون البارزون من المشاهير في المنطقة، واستُقبلوا في العواصم العربية واحتفت بهم الجماهير. كما عمل العديد منهم في الإنتاج المصري، حيث لعب أحدهم دور البطولة في فيلم سيرة الملك فاروق. وعادة ما يشيرون إلى أنفسهم باسم "النجوم". أما أولئك الذين يعملون وراء الكواليس - الكتاب والمخرجون والمصورون - فيكسبون لقمة العيش الكافية لتمويل مساعيهم الإبداعية "الجادة". وبالاستفادة من أسواق الكتاب والأفلام والفن والمسرح الراكدة، وظفت الصناعة  أرقى المواهب الإبداعية في البلاد.

بالنسبة لأولئك الأدنى وظيفيًا في التسلسل الهرمي للإنتاج، كانت فوائد الفورة الدرامية متفاوتة. فقد جعلت ظروف العمل المرنة، الفاعلين والفنيين المتعثرين وغيرهم من العمال "تحت الخط"، عرضة للخطر بشكل خاص. فساعات العمل غير منظمة، والتأمين غير موجود، ويمكن إلغاء العقود لمجرد نزوة. وبالرغم من بروزها الإقليمي، إلا أن الصناعة السورية طورت القليل من البنية التحتية. يرى بعض المبدعين التلفزيونيين أن مصطلح "صناعة" هو تسمية خاطئة، وهم يجادلون بأن الإنتاج الدرامي ليس سوى "نشاط" يمكن أن يتلاشى في أعقاب أدنى تراجع اقتصادي. يستحضر كاتب السيناريو نجيب نصير، أكياس القمامة السوداء التي يستخدمها المنتجون السوريون لتوزيع المستحقات المالية كرمز لهذا التقلقل:

"يأخذون كيس قمامة، ويضعون فيه النقود، ويوزعونها على كتّاب السيناريوهات، الممثلين، ومؤجرّي المعدات، وهذا كل شيء، لا شيء آخر. عملياً، الدراما السورية كلها الآن ممولة من الخليج، وهي بدائية، ليس الأمر كما لو كانت هناك شركات كبيرة ومعقدة برأس مال وأسهم. تأتي النقود في حقيبة سوداء وتُوزع. وهذا مرتبط بالبنية التحتية. البنية التحتية التي لدينا ترقى إلى مستوى الكاميرا وجهاز المونتاج. هذا كل ما لدينا وقد رأيتِ، ذهبتِ إلى مواقع التصوير، وهذه مواقع حقيقية يستأجرونها بالمال المدفوع من الحقيبة السوداء، والأماكن الطبيعية: المقاهي، والمنازل، والمستشفيات. إنها مبنية على علاقات ليست من الصناعة بشيء، بل على التجارة البسيطة. لا توجد شركات إعلانية تتدخل، إنه قطاع قائم بذاته ومنفصل. شركات الإنتاج هي مجرد استثمارات: فأنت تشتري المسلسلات بالطريقة نفسها التي تشتري بها النسكافيه. هذا العام، كانت هناك 38 مسلسلاً سورياً، في العام المقبل قد يكون هناك صفر. لذلك لا شيء يمكنك تسميته بالبنية التحتية، لا شيء. هناك كيس القمامة، ما نسميه الحقيبة السوداء، ما يضعون المال فيه، ويصنعون الدراما".



غير أن التقلقل الظاهر هذا سهّل أيضًا قابلية الحركة، وربما، فضلًا عن الانتقال نحو الإنتاج المشترك، مكّن إنتاج الدراما من البقاء خلال الصراع. فبينما تستمر رقابة الدولة السورية، تقلصت مشاركة القطاع العام في الإنتاج، على الرغم من جهود إعادة الهيكلة الأخيرة التي تهدف إلى استغلال مشاركة القطاع الخاص. وتقوم شبكات الأقمار الاصطناعية لدول مجلس التعاون الخليجي الآن بتمويل أو شراء معظم الأعمال الدرامية وتحصل في المقابل على حقوق البث الحصرية لرمضان. وفي هذه البيئة التنافسية، يفتقر مبدعو الدراما السورية إلى مزايا منافسيهم. ففي مصر، تُجنّب الحمائية الحكومية، صانعي التلفزيون، من تقلبات السوق العربية من خلال الحد من عدد المحطات غير المصرية المملوكة للحكومة، التي قد تبث. كما يقوم المنتجون المصريون بتسويق باقات المسلسلات المصرية لشبكات دول مجلس التعاون الخليجي. بينما حظيت الصناعة السورية بقليل من هذه الخدمات، على الرغم من الاجتماعات السنوية التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة بين الرئيس بشار الأسد ومبدعي الدراما الرئيسيين بالإضافة إلى تأكيدات دورية لدعمه الشخصي. ومع ذلك، فإن حاجتها إلى الحماية التجارية أكبر. مع محطة قمر اصطناعي خاصة واحدة تم إطلاقها مؤخرًا، لا يوجد في سوريا سوق وطني للدراما يضاهي مجموعة القنوات المصرية. يجادل المنتجون السوريون بأن هذا النقص في مشاركة الدولة يعرضهم لنزوات الممارسات التجارية المعروفة.

يفخر صانعو الدراما بما يحققونه بموارد قليلة جدًا وبالأعباء الإضافية للقيود الأيديولوجية والمالية والقيود الحالية في زمن الحرب. ويعبر الكثيرون عن شغفهم بالمسلسل وإمكاناته. أولئك الذين هم في مواقع إبداعية يعتبرون أنفسهم فنانين أولاً، لكنهم يظلون ملتزمين بفكرة التقدم اليسارية. وهم يبرزون القضايا التي يصعب التطرق إليها في وسائل الإعلام العادية، آملين إثارة النقاش، وفي النهاية، التحول الاجتماعي والسياسي. لكنهم، كما يدركون جيدًا، يعملون في ظروف تجارية ليست من اختيارهم. كما أدى انتشار إمكانية الوصول إلى الأقمار الاصطناعية إلى ظهور جماهير واسعة، وتمويل متزايد. ومع ذلك، فإن السوق الإقليمية المزدهرة تهدّد باحتواء النقد الاجتماعي وعرقلة الاندفاعات الإصلاحية، حيث تشكل الأعمال الملتزمة اجتماعياً نسبة أقل بشكل متزايد من تدفق البرامج المتزايد باستمرار.

تحتفظ الحكومة بالسيطرة على المحتوى، بينما تتقلب تصورات صانعي الدراما حول تدخل الرقابة من سنة إلى أخرى ومن مشروع إلى آخر. يجب الموافقة على سيناريو كل مسلسل مُصّور في سوريا. يجب أيضًا على أولئك الذين يبثون على المحطات السورية إخضاع إنتاجهم النهائي لرقابة إضافية، وهي مرحلة يتجنبها أولئك الذين يبثون على الشبكات العربية فقط. في حين أن استراتيجيات التصوير خارج البلاد في زمن الحرب تتجنّب سيطرة الحكومة بالكامل. ومع ذلك، يشير العديد من الشخصيات في الصناعة إلى الرقابة الاجتماعية التي تواجهها جميع الإنتاجات، وهي نزعة محافظة متنامية قائمة على الدين، والتي استمرت مع سيطرة شبكات دول مجلس التعاون الخليجي- السعودية والإماراتية بشكل كبير..

فقد ظهرت تحولات موضوعية ملحوظة، لا سيما تديّن لا يكاد يُلحظ يتعارض مع التوجه العلماني والاجتماعي التقدمي إلى حد كبير للعديد من صنّاع الإعلام السوريين. وقد استجاب بعض صانعي الدراما التلفزيونية السورية لتيار الأسلمة من خلال توشيح أعمالهم بالدين، وهي خطوة يسخر منها الآخرون في الصناعة. وبينما تجذب القصص المثيرة التي تصور الإسلام المتشدّد والملاحم التاريخية للإمبراطورية الإسلامية والاستحضار الفولكلوري لدمشق القديمة، تمويلًا واسع النطاق واهتمامًا إعلاميًا دوليًا، نادراً ما تتحدى هذه البرامج السلطة السياسية أو الدينية بشكل مباشر.

ومع ذلك، فإن الرسائل التقدمية المُضمرة والقراءات البديلة المحتملة لهذه الأعمال تعقد أحيانًا نوستالجياها المحافظة. إنها تثير نقاشًا عامًا حيويًا حول القضايا والأحداث التاريخية التي لم تُطو أبدًا، فقد أصبحت تمثيلات التاريخ والمناقشات حول تلك التمثيلات انتقادات للحاضر.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها