السبت 2023/11/18

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

ذكريات مغمورة من أجل "التقدّم"...منازل مفقودة في زمن الأسد

ذكريات مغمورة من أجل "التقدّم"...منازل مفقودة في زمن الأسد
نساء الفرات
increase حجم الخط decrease
كان بناء سد الفرات، الذي مثّل الواجهة التحديثية لسوريا البعثية، بين العامين 1968 و1973، بمثابة لحظة رمزية مشحونة لخطاب تقدمي تضمن في جوهره افتراضات حول عدم التجانس الداخلي الزمني: فبينما روّج لصورة أمّة سورية تقدمية حديثة، قام في الوقت نفسه باقتلاع سكان هذا الجزء من البلاد إلى عالم الماضي والحاضر المتخلفين والمتقادمين، مما بخّس من قيمة أنماط حياتهم وتطلعاتهم الفعلية وشرعَن تهجيرهم بعد غمر قراهم وحقولهم تحت البحيرة الناشئة. كانت الهويات وأنماط الحياة "القبلية" مستهدفة بشكل رئيسي من خلال هذا التبخيس.
هنا الجزء الثاني والأخير من مقال (راجع الجزء الأول) للأنثروبولوجية البريطانية كاثرينا لانغ، يستند إلى البحوث الأدبية والعمل الميداني الإثنوغرافي المتقطع في سوريا بين العامين 2001 و2011...

ربما ليس من المستغرب بالنظر إلى التاريخ الحديث للمنطقة، وبالنظر، خاصة، إلى التشرّد الذي عانى منه العديد من الأشخاص من الجيل الأكبر سنًا، أن ذكريات المنازل السابقة جعلت التغييرات بمرور الوقت واضحة وملموسة. فكما هو الحال في العديد من الأجزاء الأخرى من الريف السوري، تغيّرت عمليات بناء المنازل في وادي الفرات بشكل كبير خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. وارتبطت أنواع مختلفة من المساكن بأساليب محددة من التواصل الاجتماعي والعمل. وكانت الخيَم، التي لم تعد تستخدم في وقت عملي الميداني، موضوعًا متكررًا لمثل هذه المحادثات.

كان البعض قد باعوا خيَمهم لأسر لا تزال تمارس أسلوب حياة الرحل (موسمياً)، واحتفظ آخرون بها مخزنة وملفوفة في زاوية من المنازل الدائمة الجديدة. لكن بالنسبة لمحاوريّ، لم تكن الخيمة رمزًا مريحًا للمنزل ونمط حياة سابق فحسب، بل كانت أيضًا مرتبطة بشكل ملموس جدًا بالعمل الجسدي الشاق. تتذكر أم سالم:

"كنا نخرج كل شتاء إلى السهوب ونعود للحصاد في الربيع. كان العمل في الخيمة من عمل النساء، لكن الرجال ساعدوا في العمل الشاق... تعلمتُ بناء الخيمة من زوجي ومن الجيران. تحتوي خيمتنا على ثلاثة أعمدة. كان بناء الخيمة مرهقًا للغاية... قبل ثلاثين عامًا، خرجنا مع خيَمنا للمرة الأخيرة. انتهت تلك الحياة الآن".

شاركت نساء مُسنات أخريات ذكريات مماثلة. ففضلًا عن الخيَم، كانت ذكريات نمط الحياة الرعوية التي شكلت حياة العديد من كبار السن في الماضي لابثة أيضًا في عدد من الأدوات المُستخدمة لتحويل الحليب إلى لبن وزبدة وتخزين هذه المنتجات. كانت هذه الأنابيب أو الأكياس، المصنوعة من جلود الأغنام المدبوغة، تسمى الشيكوا أو المزباد وكان إنتاج "اللبن والزبد" وكذلك الاستخدام اليومي لتلك الأدوات عملاً نسائيًا، ولم تُشرح الإجراءات المعنية بشكل متكرر من قبل محاورين مختلفين فحسب، لكنها - في تلك الحالات القليلة التي كانت فيها هذه الأدوات لا تزال في متناول اليد - أُظهرت لي أيضًا.



ففي نيسان 2003، على سبيل المثال، زرت أم خلف في منزلها. ودعتني، باعتبارها من النساء القلائل في قريتها اللائي ما زلن يحتفظن بقطيع (وإن كان صغيرًا) من الأغنام، لأرى كيف تُحلب النعاج وكيف يُعالج الحليب. عندما وصلت إلى منزلها في الصباح الباكر، كانت أم خلف وزوجة ابنها في طور حلب 15 من الأغنام في منزلهما (وهو إجراء تكرر بعد الظهر). وواصلنا الحديث، طوال الصباح، عن كيف كانت الحياة وكيف تغيرت. وبينما كنا نتحدث، لم تتوقف أم خلف عن العمل. وعلاوة على ذلك، لم تعلق على العمل الذي كانت تقوم به فحسب، بل علقت أيضًا على محادثتنا نفسها (وبالتالي، على طبيعة "عملي" الخاص)، وتخللت محادثتها مرارًا وتكرارًا التمتمة المتذمرة على أن "الشغل يريد عذاب ما يريد حشي كلام".

يمكن أن يكون التذكّر من خلال الكلمات والحركات والأشياء التي تستحضر روتين العمل السابق والممارسات الجسدية الأخرى أكثر أهمية، طريقة أعمق للتعامل مع الماضي، لخلق هالة عاطفية من مجرد السرد اللفظي للتجارب والأحداث السابقة. كما يمكن أن يُستخدم كأساس للمشاركة الأخلاقية مع مرور الوقت، من خلال التقييم النسبي لمزايا ومساوئ طرق معيشة معينة، متجذرة في نطاقات زمنية مختلفة. وعلاوة على ذلك، يتيح أحياناً طريقة (وإن كانت غير مباشرة) لمناقشة العواقب الاجتماعية والاقتصادية للتهجير من دون الدخول المنطقة الحساسة لنقد التحديث البعثي صراحة.

فرواية أم سالم، على سبيل المثال، تستحضر الآثار الضارة للبنية التحتية الثانوية المستمدة من مخطط الفرات: في هذه الحالة "المحطة" التي تنقي مياه الفرات وتحولها إلى مياه شرب. كانت المحطة عبارة عن مجمع كبير محاط بجدار إسمنتي يشمل المرافق التقنية بالإضافة إلى المساكن والبنية التحتية لعدة مئات من الموظفين مع عائلاتهم. شُيّد هذا المبنى الكبير بجوار منزل أم سالم وعائلتها "كان كل واحد من أبنائي يزرع ما بين 13 و 14 هكتارًا" قالت أم سالم. "ثم جاءت المحطة وأخذت جزءًا من الأرض، والآن لديهم فقط 10 هكتارات" ومثل أم سالم، لم يتلق العديد من جيرانها وأقاربها أي تعويض من أي نوع عن خسارة أراضيهم، التي صُنفت، بأي حال من الأحوال، على أنها "أراضي دولة" (ميري) بدلاً من ملكية خاصة "طابو" حسبما قالت.

وكان العديد من المحادثات حول الماضي، إن لم يكن معظمها، مشوبًا بشدة بإيحاءات عاطفية ومعيارية. ولم تهدف "المحادثات" فقط إلى إعادة بناء كيف كانت الأمور وكيف تغيرت ولكن أيضًا إلى تقييم هذه التغييرات، والحكم على الطريقة التي كانت تسير بها الأمور، واستنتاج - ضمنيًا - التوجه للعيش في الحاضر والمستقبل. وتحدثت فكرة الزمنية التي استخدموها عن تراجع (أخلاقي واجتماعي) في مواجهة التقدم المادي والتعليمي. وأكدت مُسنات كثيرات الحاجة إلى العمل الجاد، وانتقدن عدم رغبة الجيل الحالي في المشاركة فيه. وبينما اختلفت التجارب الفردية وقصص الحياة عن بعضها البعض، حتى بين أفراد من الجيل نفسه تقريبًا، ومن القرى المجاورة أو حتى من الأسرة الممتدة ذاتها، ظهرت أنماط عامة. إن ثيمة العمل الجاد كخاصية من سمات الماضي، وتفعيله من قبل النساء الأكبر سناً في الوقت الحاضر من خلال إدامة أساليب عمل قديمة الطراز، ولّدت أبعادًا متجسدة ومادية ولكن أيضًا عاطفية وأخلاقية للتذكر. فقد أشار العديد من القرويين - وخاصة كبار السن - إلى الماضي الجماعي، وعلى وجه الخصوص، إلى الفترة التي سبقت غمر بحيرة الأسد، في إيحاءات من الحنين إلى الماضي.

ولدى إدانة العلاقات والظروف الحالية المعيبة، استدعى العديد منهم رؤى لماضٍ "أكثر نقاءً". وقد بُني هذا النقاء بشكل استطرادي من خلال ادعاءات بوجود علاقات اجتماعية أكثر صحة غير ملوثة بالتنافس الوجودي الحالي على المال وعواقبه، مثل هجرة العمالة والندرة و"الجشع". كانت المواقع الأخرى ذات النقاء المفقود على ما يبدو أكثر دنيوية مثل الطعام المصنوع منزليًا مقابل الطعام المشترى من المتجر ومستدعيات الصحة البدنية. فأم صالح، على سبيل المثال، وصفت الوقت "قبل الغمر" بأنه وقت النقاء والجمال والصحة بالنسبة لها، واثنتين من بناتها، وابنتي أخيها:

"كان موكب الزفاف (الزفة) من الجمال والخيول يأتي لجلب العروس من منزل والدها. الخيول الأصيلة! لم يستخدم أحد السيارات لزف العروس.. كان منظر تلك الخيول رائعًا.

والجميع ساعد الجميع، بلا مقابل بالطبع.

لأي نوع من الأعمال؟

لكل أنواع العمل

لكن ألا يزال الناس يساعدون بعضهم بعضًا؟

في الوقت الحاضر، فقط الأصدقاء والأقارب يساعدون بعضهم البعض، ولكن من قبل "أولي" اعتاد الجميع على المساعدة، كل الجيران".

وفي ذلك الوقت، كان الجميع في القرية، وكان جميع الرجال هناك. في الوقت الحاضر، ذهب جميع الرجال للعمل في المدينة أو في الخارج.
ولم يكن هناك أطباء في ذلك الوقت. كان هناك أطباء فقط في حلب. لكن في ذلك الوقت، لم يمرض أحد، ولم نكن بحاجة إلى أي أطباء! كل ذلك تغير مع الغمر.

إن الإصرار على عدم معرفة الأمراض قبل الغمر، مما يجعل وجود الأطباء أو المرافق الطبية الأخرى غير ضروري، يجعل من الرطانة البعثية المتكررة عن تحسين الخدمات الطبية في الريف حول البحيرة الناشئة في أعقاب بناء سد الفرات مسألة مثيرة للاهتمام. تم التعبير عن مشاعر مماثلة من قبل أم صالح، وأم أحمد، التي كانت في السبعينيات من عمرها عندما التقيت بها للمرة الأولى في العام 2002. وصفت الحياة في الماضي (الحياة أولي) لي ولمجموعة من قريباتها في زيارة صباحية في منزل ابنها:

"يوجد اليوم كل شيء، لكن في ذلك الوقت، كانت حياتنا صعبة. [تشير إلى ابنتها الكبرى التي هي بدورها جدة]. أنجبتها في الليل، وفي الصباح، أجلسوني على حمار، وأنزلنا الخيمة ومضينا. [...] ذهبنا إلى حد بعيد من هنا إلى المهدوم [مسافة حوالي 25 كلم]. اضطررت إلى ركوب هذا الحمار والطفل في ذراعي، والمضي قدمًا. لا طبيب ولا مستشفى! ليس مثل اليوم، يوجد اليوم كل شيء. هؤلاء [تشير إلى ابنتها وزوجة ابنها وابنة أختها الحاضرة أيضًا] لا يعرفون ما هو الكد. (يتمتم الزوار بالموافقة، على الرغم من أنهم أيضًا اشتكوا لي كثيرًا أثناء أو بعد مهنهم اليومية من أن "حياتهم لا تتكون إلا من العمل والكدح" (حياتي بس شغل وتعب"). نعم، كانت حياتنا صعبة، لكن لم يكن هناك مرض! كنا نأكل فقط الخاثر "اللبن" والعسل والسمن العربي (الزبدة المصفاة المصنوعة من حليب الأغنام). لم نمرض أبدًا، ولم نر طبيباً أبدًا. لم يعرف أطفالي حتى ما هو "الطبيب". الآن فقط، منذ أن بدأنا نعيش في هذه المنازل ونأكل طعام تلك المدينة، التي لا أحد يعرف ماذا يضعون فيها [أصبحنا نمرض ونحتاج إلى الأطباء]".

كانت هذه الذكريات مفيدة بطرق عديدة. فقد أعربت عن حنينهم إلى الماضي المُشّيد بصورة مناقضة للوضع الحالي المُنتقد ضمنًا. وفي حين انتقدت أم خلف وأم أحمد الكسل المفترض لشابات اليوم، مقارنة بالعمل والمصاعب التي عانتها أمهاتهن وجداتهن، تناول نقد أم صالح أبعادًا جمالية (جمال مواكب الزفاف المكونة من الخيول والجمال بدلاً من استخدام السيارات والدراجات النارية اليوم)، ولكن الأهم من ذلك أنه ركز على تحول العلاقات الاجتماعية. فقد كان إصرارها على أن المساعدة المتبادلة كانت تُمنح "بلا نقود" مؤشرًا على الأهمية المتغيرة (وتقييماتها المتنازعة) للأموال في هذا الإطار المحلي - وهو تحول قيمه المحاورون الآخرون أيضًا بشكل سلبي. وصورت أم صالح المجتمع القروي في وقت ما قبل الغمر على أنه سليم - على عكس الوضع المعاصر. وقد عبرت عن ذلك من خلال تركيزها على العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل التي تميزت بتضامن اجتماعي يومي منتشر يشمل القرية بأكملها.

وبينما اعترفت بأن المساعدة التضامنية المتبادلة لا تزال موجودة، تقلّص محيط الدائرة الاجتماعية التي يمكن للمرء الاعتماد عليها للحصول على المساعدة. ووفقًا لرأيها، بدلاً من تضمين القرية بأكملها، في أوائل العام 2000، كانت تضم فقط الأقارب والأصدقاء المقربين، مما يشير إلى التحولات في الروابط الاجتماعية التي ربطت القرويين في هذه المنطقة ببعضهم البعض وقت التحدث.

وقد عُبِّر عن الشعور بالماضي كعالم من "النقاء" والتوازن والبراءة المفقودة أيضًا من خلال تقييم العلاقات الاجتماعية، والتي غالبًا ما تم التعبير عنها من خلال المعايير المتعلقة بالعلاقات بين الجنسين. ومن الأمثلة على ذلك، رواية أم عبود لهجرات المراعي الحولية لرعاة الأغنام في وادي الفرات. فقد امتلكت عائلتها عددًا كبيرًا من الأغنام. وفي كل شتاء أثناء الهجرة السنوية "في السهوب"، والانتقال من وادي الفرات نحو تدمر، أخبرتني أم عبود كيف كان والداها يبقيان في بعض الأحيان لرعاية الحقول على نهر الفرات أو يبقيان في مكان واحد معين في السهوب. بينما انتقلت هي - وكانت آنذاك لا تزال عزباء وتُنادى باسمها "فدا" إلى السهوب مع الأغنام، برفقة الراعي عبد الأحد، الذي كان يعمل للأسرة ولكن لم يكن له صلة قرابة بهم.

اهتم عبد الأحد بالرعي، في حين كانت فدا وأخواتها مسؤولات عن حلب الأغنام ومعالجة الحليب وصناعة اللبن والزبدة والجبن. وتقاسموا كلهم خيمة العائلة. في وقت عملي الميداني، كان من الممكن اعتبار ترتيبات النوم هذه غير مناسبة تمامًا للفتيات الصغيرات، اللواتي خضعت تحركاتهن وسلوكهن لمزيد من التحكم: فمخاوف وتوقعات "اللياقة" تضمنت الفصل الصارم بشكل متزايد بين الذكور والإناث. ومع ذلك، في ذلك الوقت، "لم يقل أحد شيئًا - كان طبيعيًا"، قالت أم عبود "لأنه كان هناك أمان في ذلك الوقت".

تشير ذكريات أم عبود إلى فقدان حقيقي ومُجرّب ومحسوس لحرية الحركة، وتقييد التواصل الاجتماعي. وبعيدًا من كونها تجربة فردية، فقد استُدعيت ملاحظات مماثلة من قبل نساء أخريات في سنوات سابقة. وبمعنى ما، يبدو أن هذا يعكس الافتراضات القديمة، التي أوضحها العديد من المراقبين الخارجيين لسكان السهوب العربية، بأن الإناث في الريف، وخاصة في المجتمعات البدوية، يتمتعن "بحرية" أكبر في ما يتعلق بعلاقاتهن الاجتماعية مع الذكور من نظيراتهن في البيئات الحضرية. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه في أجزاء كثيرة من الشرق الأوسط، وحتى في السياقات الحضرية، تغيرت قواعد اللباس الأنثوي والسلوك الجسدي نحو درجة أكبر من الفصل بين الجنسين في السنوات الأخيرة مقارنة بالعقود السابقة.

إن الاحتجاج بالماضي باعتباره موقعًا لطريقة حياة ضائعة وأكثر نقاء، يشير بالتالي إلى تصورات حول خسارة فعلية "للحقوق" بينما يعبّر في الوقت نفسه عن خطاب شوق إلى الماضي. بيد أن هذا الخطاب يتضمّن أيضًا - ويتجنب - التناقضات المتأصلة. ففي حين أن أسلوب الحياة المرتبط بتربية المواشي المنتقلة موسميًا، بما في ذلك الرعي والحلب ومعالجة الحليب، والانتقال في السهوب مع الخيام، وما إلى ذلك، تم تذكره بشغف وشوق كنشاط سابق، فقد كان الكثيرون يحتقرون مثل هذه الممارسات عند النظر إليها في الحاضر.

تناقضات مماثلة، على الرغم من أنها أقل وضوحًا، تتعلق بتقييمات الزراعة، ولكن أيضًا بالمجالات الاجتماعية والثقافية الأخرى، حيث تذبذبت تقييمات الماضي بين التعبير عن الحنين إليه والرفض المزدري له باعتباره تعبيرًا عن التخلف والجهل. ونظمت المواقف المتباينة تجاه المهن وأنماط الحياة السابقة مقابل "الحديثة" وتقييماتها جزئيًا من خلال الانتماء إلى الأجيال، فضلاً عن تغيير أدوار وعلاقات الجنسين.

خاتمة
يشير التاريخ الحديث للمنطقة المحيطة ببحيرة الأسد السورية إلى طبقات متعدّدة من التهميش في سوريا. وقد مُثلّت تجارب التهميش متعددة الطبقات هذه، كما تم تحديها من خلال الاحتجاج القوي بالزمنية والتاريخانية. وبرر ممثلو الدولة العنف البنيوي "التحتي"، أي التهجير واسع النطاق الناجم عن السدّ، فضلاً عن استمرار إهمال البنية التحتية في أجزاء من المنطقة، بالإشارة إلى ما يرون أنه الطابع الأمّي والمتخلف اجتماعياً للسكان المحليين. وقد قارن ممثلو الدول والحزب البعثيون والخبراء الأجانب المجد الماضي للحضارات القديمة بالماضي القريب، المنظور إليه على أنه عقبة أقل قيمة أمام التقدّم ومستقبل أكثر إشراقًاً. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استخدم المؤلفون المحليون النوع الناشئ حديثًا من المنشورات "البدوية" حول التاريخ القبلي لمواجهة عمليات الطرد هذه ضمنيًا من خلال تسليط الضوء على الفاعلية "الوكالة" التاريخية للسكان المحليين، وبالتالي إعادة كتابتها في سرديات تاريخية أكبر. بيد أن هذه الروايات بدورها، التي تركّز على الشخصيات البطولية والمعارك والأنساب والأصول، همشت، وتجاهلت المزيد من أشكال المعرفة اليومية حول الماضي.

في هذا السياق، لم تُغمر ذكريات الماضي، وروتين العمل، وأساليب العيش، فقط بسبب ارتفاع منسوب مياه بحيرة الأسد، فقد كان لها أن تغرق أيضًا بسبب الخلافات الصاخبة حول تاريخ هذا الجزء من سوريا ومستقبله. بيد أن هذه الذكريات المغمورة طفت إلى السطح مرة أخرى، لا سيما في التجمعات. فقد تشارك الإناث، الذكور، وقرويو حوض الفرات الذين ادعوا "الجهل" بالتاريخ تجاربهم الشخصية وتصوراتهم عن التغيير الاجتماعي والاقتصادي. وبالحديث عن تجاربهم الشخصية، عبروا عن إحساسهم بوجود قطيعة حاسمة، بدلاً من تغيير تدريجي، بين الماضي والحاضر. وربطوا هذا القطيعة ببناء سد الفرات وعمليات النقل التي أعقبت ذلك والتي كان يُنظر إليها على أنها وسعت المسافات الاجتماعية والاقتصادية بين الأقارب. فمن وجهة نظرهم، ميزت التغييرات الكبيرة بين الأجيال الانتقال من أسلوب رعوي قوي (ومتنقل موسميًا) إلى أسلوب حياة قروي مستقر، ونمط حياة حضري بشكل متزايد. والنساء الأكبر سناً، على وجه الخصوص، استجوبن هذه التغييرات واعترضن عليها أحيانًا، بناءً على تجاربهن في قدر أكبر من التنقل والسماع في الماضي.

(*) كاثرينا لانغ، عالمة أنثروبولوجيا متخصصة في الشرق الأوسط، وتدور منشوراتها حول توطين الأنثربولوجيا العربية، الأنثربولوجيا التاريخية للمجتمعات القبلية، وسياسة التاريخ والذاكرة في سوريا.
المقال الأصلي: Memory Studies 2019, Vol. 12(3) 322–335

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها