الثلاثاء 2023/12/26

آخر تحديث: 08:56 (بيروت)

1979 في المسرح السوري: من التسييس إلى المنعطف الداخلي

الثلاثاء 2023/12/26
1979 في المسرح السوري: من التسييس إلى المنعطف الداخلي
سعدالله ونوس
increase حجم الخط decrease
هنا مقالة كتبتها الباحثة والناقدة الألمانية، فريديريك بانويك، عن المسرحي السوري، سعدالله ونوس(1941 - 1997)، تؤرخ لجوانب في الثقافي العربية في الفترة الحرجة...

 

في خريف 1977، أصبح الرئيس المصري، أنور السادات، أول سياسي عربي يزور إسرائيل في مهمة رسمية، حيث أوجز خططه للسلام في خطاب ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي. وبذلك، انهار العالم بالنسبة لجيل كامل من المثقفين اليساريين في العالم العربي. وقد ترك عرض السلام الأحادي هذا، الذي أدى إلى اتفاقات كامب ديفيد في العام 1978 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في عام 1979، القضايا الرئيسة المتعلقة بوضع اللاجئين الفلسطينيين ووضع القدس والأراضي المحتلة معلقة من دون إجابة. وهكذا، بدا أن الحل الشامل والمتساوق للصراع في الشرق الأوسط  قد ارتكس بعيدًا.

أصبح هذا اليوم أيضًا نقطة تحول حاسمة في المسيرة الأدبية والحياة الشخصية للمسرحي السوري، سعد الله ونوس. فقد حاول الانتحار في ليلة هذا الحدث الهام وتوقف عن كتابة المسرحيات لأكثر من عشر سنوات.

كان ونوس ينتمي إلى جيل من المثقفين والفنانين العرب، ممن تأثر فهمهم السياسي والفنّي لذواتهم بشدة بالصراع الفلسطيني. إذ تكشف أعمال ونوس الأولية عن انخراط اجتماعي مكثف وصفه بأنه "مسرح تسييس". لكن تموضعه كفنان ملتزم تغيّر خلال الجزء الأخير من حياته، التي انقطعت بسبب المرض وانتهت في عام 1997، عندما كان يبلغ من العمر 56 عامًا فقط.

(السادات في الكنيست 1977)

تحولت المسرحيات التي نشرها بعد هذا الصمت، الذي ألزم نفسه به من مسرح تعليمي للتسييس، إلى دراسات نفسية تركز على الفرد والأقليات وقضايا النوع الاجتماعي، التي يمكن اعتبارها جزءًا مما وصفه الأكاديمي فادي بردويل باعتباره "الانعطاف نحو الداخل". وكان هذا النمط الأدبي الجديد منخرطًا سياسيًا كما في السابق، لكن الطريقة التي تمظهر بها هذا الالتزام السياسي كانت مختلفة، حيث تركّز على الشواغل الفردية بدلاً من تلك الجماعية.

في فيلم وثائقي للمخرج السوري، عمر أميرالاي (1944-2011)، بثته قناة ARTE عام 1997 بعنوان "وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء"، يتحدث ونوس عن نقطة التحول الحاسمة في حياته وعمله: "حين زار السادات اسرائيل، لم أعرف كيف أصف شعوري، كان فيه شيء من الذهول، رغم أني أستطيع أن أقول أن هذه الزيارة لم تفاجئني. في يوم، كانت الشمس فيه متألقة جدًا، ورغم أني كنتُ محبوسًا في هذه الغرفة بالذات وراء مكتبي، وقد أغلقت كل النوافذ، الخارجية والداخلية، فقد كنت أحس أن الشمس تنفذ من شقوق النوافذ وتدخل إلى الصالون وكأنها عدوان خارجي على سكينتي الداخلية، جلستُ وكتبت "أنا الجنازة والمشيعون معًا"، كان ذلك أعتقد آخر نص، تلته فترة طويلة من الصمت. بعد أن أنهيتُ كتابة ذلك النص، قلتُ لنفسي أني متعب، وينبغي أن أذهب وأستريح بضعة أسابيع في مكان ما، لتكن حلب أو لتكن اللاذقية، ولكني كنتُ شديد التوتر، وكنتُ أعلم أنني لن أستطيع أن أسيطر على نفسي، وكان الوقت عند الغروب تقريبًا. تناولتُ حبة منوم، وحاولتُ أن أخرج من حالتي بالنوم، بعد ساعتين أو أقل، استيقظتُ أشد توترًا وضيقًا، وكانت الظلمةُ شاملة أمامي، في تلك الليلة أقدمتُ على محاولة الانتحار الجدية".(ونوس، في فيلم أميرالاي، الدقيقة 25: 14 – 28:50)

 

تشي هذه الشهادة المؤثرة لأحد أهم المسرحيين في المسرح العربي الحديث بنقطة تحول فردية وسياسية في أواخر السبعينيات. فإذا افترضنا أن شيئًا أساسيًا قد تغيّر في هذا الوقت، فقد نسأل ببساطة، إذن: ما هذا التغيير؟ وماذا عن مفهوم السياسة في الفن؟ هل بقي على حاله بعد نقطة التحوّل هذه في عام 1979 ثم بعد ذلك، في الثمانينيات والتسعينيات، حيث غير ونوس وآخرون من جيله أسلوبهم الأدبي، متخلين عن جمالية التسييس لصالح الدعوة إلى "الإنسانية النقدية؟".


التسيس والالتزام في أعقاب 1967

كان ونوس يرى نفسه، بوصفه مثقفًا، جزءًا من حركة طليعية عالمية. وتأثرت المرحلة الأولى من كتاباته، من بداية الستينيات إلى أواخر السبعينيات، بالمسرح السياسي لإروين بيسكاتور، ولكن قبل كل شيء بالمسرح التعليمي لبريخت. وتكشف أعمال ونوس الأولية عن انخراط اجتماعي مكثّف، وصفه عام 1969 في مقدمة مسرحيته "مغامرة رأس المملوك جابر" وفي العام التالي في "بيانات لمسرح عربي جديد" بأنه "مسرح التسييس". كما صاغ وعلى نحو استفزازي، في مرحلة اتسمت بتطورات اجتماعية مهمّة نجمت عن الهزيمة الوطنية على يد إسرائيل، ملامح جمالية "تسييس" حوّلت المسرح العربي إلى وسيلة أمل، وحرضت على الإصلاحات السياسية ودفع عملية الدقرطة: "إننا نصنع مسرحًا لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعًا". (ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد).

من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن حرب حزيران (يونيو) عام 1967 لم تؤد إلى الاستسلام أو اليأس في عمل هذا الكاتب المسرحي، بل على العكس من ذلك: ففي أعقاب الهزيمة الشاملة، تصوّر مسرح التسييس الخاص به.

بين الالتزام واليأس

تغير المنظور المتفائل والمثالي إلى حد ما بشكل كبير بسبب الظروف السياسية القاتمة في الشرق الأوسط. فبعد محاولته الانتحار في كانون الأول (ديسمبر) 1977، لم يكتب ونوس مسرحية واحدة لمدة أحد عشر عامًا. وكسر صمته لأول مرة في خريف 1989 بمسرحية ذاع صيتها بقدر ما كانت مثيرة للجدل- وهي مسرحية حاولت رواية الصراع الفلسطيني من وجهة نظر إسرائيلية: "الاغتصاب"(بيروت، دار الأداب 1990). مثلت الاغتصاب نقطة تحول في كتابات ونوس الدرامية. فلأول مرة، يركز على الفرد، بدلاً من العواقب الجماعية والجسدية والنفسية والآثار المترتبة على الاضطهاد السياسي. تتناول هذه الدراما المشاكل البين- شخصية وتقدّم دراسات نفسية للشخصيات وتحقق توصيفًا متعدّد الأبعاد والطبقات لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين. فالعدو الذي صُوّر لعقود على أنه وحش غير إنساني و"كتلة موحدة ومتجانسة" في الأدبيات السورية، صوره ونوس فردًا يعاني من عنف الدولة الإسرائيلية مثل ضحاياه.


من المهم أن نلاحظ أنه في هذه الفترة من التاريخ بالضبط، حدثت نقطة تحوّل ثانية بعد الأولى في أواخر السبعينيات في حياة هذا الكاتب المسرحي وعمله: فقد شُخصت إصابة ونوس بسرطان الغدة الدرقية في عام 1991. وأعطى مرضه العضال، الذي تفشى بعد وقت قصير من حرب الخليج، كلماته الكئيبة وزناً أكبر. من جانبه، وصّف ونوس نفسه باعتباره ضحية للتاريخ السياسي لعصره، مُصورًا مرضه وموته الوشيك باعتبارهما نتيجة لمشاكل سياسية لم تُحل: "يبدو أن عمرنا يجب أن يكون سلسلة متواصلة من الضربات، ولقد كانت الضربة الأخيرة موجعة بصورة أشكّ معها أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، تلك الضربة هي حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب. وكما قلت ليس من قبيل الصدفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب مباشرة، وأثناء القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق". (المقابلة آنفة الذكر مع أميرالاي).

في السنوات التالية، من عام 1991 حتى وفاته في 15 مايو 1997، كتب، على حد تعبيره، ضد الموت. تغيّر المنظور الواضح في كتاباته بعد تفشي مرضه، ومعه تقنياته الأدبية وتوصيفه للشخصيات.

من المسرح التعليمي إلى الدراسات النفسية

من مسرحه التعليمي الموسوم بأسلوب الأمثولة ونبرته المتشدّدة سياسيًا حيث كانت الشخصيات محض نماذج، إلى المرحلة الأخيرة من حياته وفيها تناول ونوس موضوعات فردية محدّدة واستكشف المشكلات البين شخصية وقدم دراسات نفسية وتوصيفات متعددة الأبعاد.

في مقابلة مع الكاتبة، ماري إلياس، في عام 1992، أوضح ونوس أنّ التحوّل الحاسم في عمله نابع من إدراكه أنه في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كان الانخراط السياسي في العالم العربي ميؤوسًا منه. إذ هُمشت مجموعات المعارضة في المجتمع، وتعفنت القوى السياسية القائمة حتى النخاع، وانقسمت بشكل ميؤوس منه. وأصبح الإيمان بالقدرة على تغيير العالم من خلال النضال والأعمال البطولية والاستشهاد فجأة وهمًا. وخلال هذه السنوات، التي شهد فيها أيضًا السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الإسرائيلي عام 1982، ودّع ونوس الفكرة التي وجهته حتى الآن: أن مشكلات العالم العربي يمكن إرجاعها إلى علاقات السلطة البسيطة في المجتمع.

وتبعًا لذلك تغير الشكل الأدبي والمحتوى الموضوعاتي في عمل ونوس، وتحوّل عمله، من التمثيلات التبسيطية عمدًا، والتي تهدف إلى إحداث تغيير سياسي وإعادة هيكلة علاقات القوة، إلى نهج يهدف إلى توليد رؤى حول مشاكل الفرد في المجتمع، وكذلك قضايا الأقليات والجندر.  فالأكثر صعوبة من التحريض على تغيير النظام، بحسب ما قال عام 1992، هو "إثارة مجتمع متحجّر مُقيّد بالخرافات". هذا النمط الجديد من الدراما قاد ونوس إلى نوع من التحرر الجمالي واكتشاف الذات.

كان هذا الانعطاف إلى الداخل ينطوي على تحوّل أساسي في صورة المثقف اليساري لذاته. إذ يمكن وضع إنكفاء ونوس عن اعتقاده بأن علاقات السلطة في العالم العربي ومشكلاتها يمكن حلها وتغييرها من خلال مسرح التسييس ضمن خطابات خيبة الأمل لدى اليسار العربي- التي لم تبدأ في حالة ونوس إلا بعد زيارة السادات للقدس عام 1977. ولم يتخل مثقفو اليسار العربي، ممن سلطوا نقدهم على تخلّف المجتمع العربي في أعقاب نكسة 1967، عن تضامنهم مع الجماهير في سياق هذه العملية. وقد وصّف صادق جلال العظم هذه المقاربة الجديدة بشكل مناسب في حوار عام 1997: "ما أوضحه السياسي ياسين الحافظ لي هو أهمية التصدي النقدي للبنى الفوقية للفكر والثقافة والتراث والدين والتي عرقلت الإنجازات الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية لحركة التحرير العربية".

وانتقد العظم التناقض بين الأجندات الأساسية "الثورية" الاقتصادية والسياسية لحركة التحرر العربية و بنيتها الفوقية "المحافظة". وكان هذا التناقض، بحسب العظم، يعيد إنتاج قيم "الجهل، وصناعة الأساطير، والتخلف، الخضوع والقدرية" ومن ثم "عرقلة نشر القيم العلمية والعلمانية، والتنوير، والديموقراطية، والإنسانية". كان هذا الجدل هو ما حدا بونوس، من وجهة نظري، تعديل أسلوبه الدرامي بعد صمته الأدبي الطويل في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.

وتعكس المسرحيات الخمس التي كتبها ونوس في التسعينيات وحتى وفاته عام 1997، بعد نجاح "الاغتصاب" كأول مسعى له في نهجه النفسي الجديد، تعكس التعريف الذاتي الجديد للمؤلف. فلم تعد هذه المسرحيات تتضمن رسالة أو ايديولوجيا سياسية مباشرة وواضحة تتناول "الناس" أو "الجماهير"، وكان المُخاطَب بالأحرى هو الفرد، أو مجموعة محدودة من الأفراد المنفتحين أو الواعين والأذكياء بما يكفي لفهم التعبير المُستتر عن النقد السياسي والاجتماعي القاسي.

في المرحلة الأخيرة من كتابته وفي سياق سلسلة من الانتكاسات في العالم العربي، تخلّى ونوس عن الفكرة التي مفادها أن التغيير في علاقات السلطة من شأنه أن يسفر تلقائيا عن تغيير داخلي في المجتمع. وتعكس خيبة آمل المثقف اليساري الملتزم الواقع الاجتماعي- السياسي الجديد عام 1979 والعقدين التاليين. فقد هشمت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية أو أعطبت بقسوة، على أقل تقدير، الإمكانيات الإبداعية لفهم هذا المؤلف السوري لمعنى الانخراط الفكري والأدبي. فهو لم يعد يعتقد أن مشكلات العالم العربي يمكن إرجاعها إلى علاقات السلطة البسيطة في المجتمع وكرس نفسه بدلًا من ذلك لـ"إثارة مجتمع متحجر ومقيد بالخرافات".

وعلى هذا النحو تمثل أحداث عام 1979 الاتجاهات المتوازية للتغيير الاجتماعي والتحولات الشخصية في سيرة مسرحي رائد وأسلوبه الأدبي. وقد مُثِّلت هذه الأحداث في سرد ونوس الذاتي الفكري وفي سيرته باعتبارها نقاط تحول أثارت درجة متزايدة من الوعي الذاتي  المقترن بوعي مفاده ضرورة تغيير شيء ما. وتعتبر المسرحيات التي نشرها بعد صمته الأدبي الطويل بمثابة رده النقدي على الفشل التام للإنسانية الاجتماعية والوطنية في الوعي العربي في حقبة ما بعد الاستعمار. ويتلاقى هنا مفهوم "الإنسانية النقدية" بوصفه أداة لمواجهة الاستبداد المستمر والتخلف في المجتمع العربي ما بعد الاستعمار على النحو الذي صاغه إدوارد سعيد، يتلاقى تقريبًا مع التحوّل في موقف ونوس في عام 1979 "فالإنسانية هي المقاومة الوحيدة بل والنهائية التي نملكها ضد الممارسات اللاإنسانية والمظالم التي تشوه التاريخ الإنساني". (سعيد).

وبدوره يعتقد الروائي والصحافي اللبناني، الياس خوري، أن من شأن نقدٍ ذاتي صريح وقاسٍ فقط أن يمكّن العالم العربي من التعامل كما ينبغي مع الوضع المعقّد لما بعد الاستعمار. ويدافع في مقالة نُشرت عام 2002 في مجلة "الطريق" عن "نهضة ثالثة/ نهضة ثقافية"، ويرى سعيد بوصفه دليلًا ورائدًا لنوع معين من المثقفين العرب، مثقف يضطلع عن طيب خاطر بدور المثقف العام في المعارضة الفكرية للسلطات الحاكمة، ويُطالب، بالمقارنة مع الموقف الذي اتخذه ونوس، باستبدال الأدوار التقليدية للعقلانية العربية مثل الملك، أو الشيخ أو الشاعر أو السياسي أو الضابط أو المقاول أو الصحافي بمجموعة جديدة من الأدوار. ولا بدّ، بوحي من النقد السعيدي، من الشروع في ممارسة معارضة وحركة فكرية جديدة تواجه القمع والجور الذي تمارسه الحكومات العربية والثقافة الكارهة للآخر والايديولوجيات الدينية في العالم العربي. وينسجم هذا الفهم الجديد للدور العام المنوط بالمثقف العربي تمامًا مع التوجه الجديد لسعد الله ونوس ونظرته بصفته مثقفًا ملتزمًا بإنسانية نقدية جديدة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها