الأربعاء 2023/09/27

آخر تحديث: 11:52 (بيروت)

سيرة "مواقف"...الستينيات الأسطورية وظهور شخصية المثقف

الأربعاء 2023/09/27
increase حجم الخط decrease
نشر موقع eurozine هذا البحث لإيفون ألبرز Yvonne Albers، عن مجلة "مواقف" الثقافية وبداياتها ومثقفيها ومواضيعها ثم توقفها عن الصدور في منتصف التسعينيات، وهو يظهر جانباً بارزاً من السجال اللبناني العربي، وسبق أن نشرنا فقرة من البحث نشرت في مدونة hypotheses

كانت مجلة "مواقف" اللبنانية التي صدرت بأشكال مختلفة بين عامي 1968 و1994، إحدى المجلات الثقافية الرائدة في العالم العربي، وتعكس أعدادها الأربعة والسبعون الاضطرابات الفكرية التي أحدثتها حرب الأيام الستة، والحرب الأهلية اللبنانية، والثورة الإيرانية، فضلاً عن عمليات التحديث واسعة النطاق في الثقافة الأدبية العربية.

بيروت1978. في عددها الأول الصادر بعد انقطاع دام أربع سنوات تنشر مواقف ترجمة لمقال إدوارد سعيد الصادر عام 1975 بعنوان "تأملات حول البداية". ويتحدث سعيد فيه عن مشكلة البدايات في الأدب، والفرق بين "البدايات" و"الأصول"، وما يعنيه هذا الاختلاف للنقد. ولا يقتصر هذا المقال على إدخال ما بعد البنيوية الفرنسية في النقاش العربي فحسب، بل يلفت الانتباه أيضًا إلى البداية الجديدة للمجلة. فللمجلة بدايات عديدة بالطبع: انطلاقتها بإصدار العدد الأول، بداية كل مقال وكل مساهمة فردية، أو بدايتها الجديدة بعد التوقف مؤقتًا عن النشر. وكما أن كل عدد من المجلة هو بوليفونيا "تعدّد" أصوات، فإن مجموع المجلات الثقافية العربية  الصادرة خلال القرن العشرين كان عبارة عن بوليفونيا من الأصوات الأيديولوجية والسياسية والجمالية. إن تاريخ أي مجلة هو دائمًا تاريخ العديد من المجلات: تلك التي تمايز نفسها عنها وتجادل ضدها، وتلك التي تشعر بالقربى تجاهها، سواء كانت منشورة بلغتها أم بلغات أخرى. ويمكن أن يكون لهذا التاريخ العديد من البدايات المختلفة، لذا دعونا نبدأ من إحداها.

بيروت 1973. كان هذا العام لا يزال في بداياته لكنه كان على وشك أن يصبح حافلاً بالأحداث السياسية، تماماً مثل العديد من السنوات الأخرى في الشرق الأوسط منذ الستينيات. إنه عام حرب يوم الغفران، المعروفة عربيًا باسم حرب تشرين والتي يحقق فيها الحلفاء العرب انتصارًا مزعومًا على إسرائيل، وللمرة الأخيرة ولسنوات عديدة مقبلة، يسيطر عليهم شعور جماعي بالوحدة العربية. إنه عام الحظر النفطي، الذي شهد صعود دول الخليج كقوة إقليمية لكن أيضًا اعتمادها المتزايد على الغرب. لقد رسخت الأنظمة العسكرية الاستبدادية في سوريا والعراق واليمن نفسها، وبدأ التضامن مع فلسطين في التراجع مع تنامي قوة منظمة التحرير الفلسطينية. استمرت الاحتجاجات الطلابية في لبنان، وأصبح التلفزيون أخيراً الوسيلة المهيمنة. الحرب الأهلية اللبنانية غير بعيدة. في بداية ما سيصبح قريباً عاماً مضطرباً، يحمل الناشر والصحافي البيروتي سهيل إدريس بين يديه العدد الجديد من مجلته الأدبية "الآداب"، وإذ يقلبها بين يديه يطلق تنهيدة حرى ورقيقة كقصيدة حب عربية:

"هذا، إذن، هو العدد الأول من السنة الحادية والعشرين من عمر "الآداب".. وأنا اكتب هذه الكلمات قبل أيام قليلة من صدوره. لكني منذ الآن أراه أمامي، وأراني أمامه، أخذه بيدي، كما أخذت زهاء أربعين عددًا سبقته، فأقلّبه لحظات، ثم أشرع في قطع صفحاته، أتلمس ورقه بأصابعي، وأطالع عناوين مقالاته التي قرأتها، وأشم رائحة الحبر فيه، حتى إذا فرغتُ من تقليبه، أرحته على الطاولة وأنا أتنفس الصعداء".

إن شهيق إدريس ليس سوى تنهيدة ناشر عانى طويلاً، وعلى دراية بالصعوبات اليومية لنشر المجلات، والذي تمكن، بالرغم من كل شيء، من إصدار عدد آخر. بعض هذه الصعوبات يتشاركها محررو المجلات في أنحاء العالم: المؤلفون المتلكئون، المخطوطات الرديئة، الضغوط المالية، وقلة القراء. وفي الوقت نفسه، في لبنان والدول العربية الأخرى، يجب على المجلة أن تتعامل مع ظروف سياسية واقتصادية ومؤسسية محددة تجعل مهنة نشر المجلات غير آمنة بشكل دائم، فالقيود المفروضة على القطع الأجنبي وعلى التصدير، إلى جانب الرقابة الشديدة في البلدان المجاورة مثل مصر وسوريا والعراق - وهي البلدان التي كانت تزوّد هذه المجلات ذات يوم بحصة كبيرة من قرائها – قد سرّعت بالإجهاز على غالبية المنشورات المماثلة قبل الأوان.

بيد أن تنهيدة إدريس هي أيضًا تنفس الصعداء. أن يفعل الشيء الصحيح مرة أخرى، وأن يؤدي واجبه كمثقف. فقد لعبت الآداب دورا ليس بالقليل في صياغة تعريف دور المثقف في الجدل العربي. وفيما يتعلق بنقد حرب الجزائر في أواخر الخمسينيات وأثناء دراسته في باريس، تعرف إدريس على جان بول سارتر ومفهوم الأدب الملتزم، وهو ما أثار اهتمامه: إذ بدا أن هذا هو الجواب عن الكيفية التي يمكن للأدب من خلالها أن يصبح جزءاً من مشروع قومي عربي. كانت شعبية سارتر الهائلة في العالم العربي تنبع في المقام الأول من كتاباته المنشورة في مجلة الآداب، وهي مجلة أخذت زمام المبادرة من مجلة "الأزمنة الحديثة" Les Temps Modernes. وكما طلب سارتر من كتاب مجلته أن "يكتبوا من أجل عصرهم"، كذلك خاطب إدريس كل هؤلاء الكتاب في العالم العربي الذين "يعيشون تحولات عصرهم ويشهدون عليها"، ومثل سارتر، سعى إدريس إلى ربط الأدب بالهموم الاجتماعية، الأمر الذي جعل الشرخ بين المثقفين العرب و سارتر بعد دعم الأخير لإسرائيل خلال حرب الأيام الستة أكثر إيلاماً.

في النصف الثاني من القرن العربي العشرين، كانت الكتابة للمجلات أمراً ضرورياً لكل من يعتبر نفسه مؤلفا، سواء كان "ملتزماً" أم لا. وكانت ثمة أسباب عملية لذلك، فكما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، أتاحت المجلات الأدبية والثقافية العربية فرصة للكتّاب الشباب لتقديم قصائدهم ورواياتهم ومسرحياتهم إلى جمهور أكبر، ومنذ القرن التاسع عشر، كانت النصوص الأدبية محورية بالنسبة للمجلات العربية، التي رأت إلى حد كبير أن دورها هو الارتقاء بالقراء العرب. فمنذ الأيام الأولى، لعب محررو المجلات أنفسهم دور الأديب. وخلال فترة الانتداب الفرنسي والبريطاني في الشرق الأوسط والحكم الاستعماري الفرنسي في شمال أفريقيا، خضعت المجلات لعملية تسييس مكثفة واستمر هذا الأمر بعد الاستقلال بل وتزايد، وأصبحت المجلات منصات للأفكار وأجهزة الدعاية لمختلف التيارات القومية ووسيلة أساسية لإنهاء الاستعمار الاجتماعي والثقافي. وبالنتيجة أصبح الأدب والكتاب مسيسين، وظهرت شخصية "المثقف" التي أُعلن عن وفاتها مرارًا وتكرارًا طوال القرن الماضي، وبالنسبة للمثقف، لم تكن الكتابة في المجلات مجرد واجب، ولم يكن تأسيس مجلة محض هواية مُتكلفة، بل كانت تشكل بالأحرى جوهر إحساس المثقف بذاته.

إن أعظم لحظات المثقفين والمجلات الثقافية التي ينشرونها ويكتبون لها هي أوقات الأزمات وهذا بمثابة قانون غير مكتوب، ففي هذه الأوقات يعرِّف المثقفون "والمجلات الثقافية" أنفسهم ويخترعونها من جديد إذا صح التعبير. وكانت "مواقف" إحدى هذه الحالات: فالأزمة التي تأسست فيها لا تزال تقسم تاريخ الأفكار العربي إلى ما قبل وما بعد، كما أنها سوف تستجيب، إبان صدورها بين عامي 1968 و1994، للعديد من الأزمات الأيديولوجية والمادية والمؤسسية – ومن ثم فهي كناية عن وثيقة وسجل لواحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ الأفكار العربي الحديث.

بيروت، مدينة البدايات
تشرين الأول/أكتوبر 1968. مجلة جديدة تظهر في كوى أكشاك بيروت وعلى رفوف مكتباتها وتُوزع على الطلاب في حرم الجامعة، كان غلافها مقتصدًا وبسيطًا ويبرز اسم المجلة "مواقف" بخط واضح.

نحن في الستينيات الطويلة، الستينيات الأسطورية التي شهدت بروز حركات ثورية جديدة في الغرب، وحركات التحرر الوطني في المستعمرات الأوروبية السابقة. كانت بيروت لا تزال "جمهورية الآداب العربية" في ذلك الوقت، كما سماها سمير قصير ذات مرة، حيث تمتع الفنانون والمثقفون من جميع انحاء العالم العربي بحرية سياسية وفنية بلا حدود، وكان ضعف الدولة اللبنانية ورقابتها، والتقاليد الصحفية الطويلة يعنيان انجذاب الناشرين والمطابع والمجلات إلى بيروت منذ الأربعينيات، ما جعلها مكانًا مختلفًا عن أي مكان آخر في الشرق الأوسط.

كما أن دمغة المجلة تشي بما هو أكثر، فبدلًا من الإشارة إلى نوعها "أدبية، سياسية أو ثقافية"، على جاري العادة في المجلات العربية، ها هي تهتف بشكل استفزازي "للحرية والإبداع والتغيير". وفي مقدمة العدد الأول المكتوبة على شكل بيان، وكما هو مُعتاد في ذاك الوقت وذاك النوع من الدوريات يُعلن أدونيس "إنها فعل المجابهة، وهذا الفعل يتخطى كل تكريس، كل نهائية، كل سلطوية، إنه النقد الدائم، وإعادة النظر الدائمة... إنها الثقافة التي لا تُعنى بتفسير العالم او الحياة أو الإنسان، إلا لغاية أساسية: تغيير العالم والحياة والإنسان، إنها الثقافة-الثورة".

من هذه الكلمات المثيرة، يمكن للقراء المطلعين استخلاص بعض الاستنتاجات الأولية حول المجلة الجديدة. وكان أدونيس معروفًا لهم بالطبع. أولاً، لأنه كان في طريقه لأن يصبح أحد أهم شخصيات الشعر العربي الحديث - وكان الشعر هو الحقل الأدبي الرائد في الثقافة العربية، القادر على جذب جمهور كبير. وثانيًا، لأن أدونيس كان على علاقة سابقًا بالمجلة الأدبية "شعر" التي نُشرت من عام 1958 إلى عام 1970، حيث كان مدير تحريرها قبل أن يغادرها في عام 1964. كانت "شعر" قد قطعت مع الشكل الأدبي التقليدي، وبخاصة الشِعر، على نحو أكثر جذرية من مؤيدي الحداثة العربية السابقين. وبحسب المجموعة المحيطة بأدونيس والخال مؤسس المجلة، كان تحرير الشعر هو الخطوة الأولى نحو تحرير الذات العربية من أنماط الفكر الراسخة وإتاحة الوصول إلى الحداثة العالمية.

كان ولع "شعر" بالحداثيين الأوروبيين فضلَا عن عدائها المزعوم للتقاليد الشعرية العربية وإيمانها بالاستقلال الفني، بمثابة هرطقة في حقل الأدب العربي حيث يضع الأدب القومي الملتزم المعايير. وتعرضت، منذ بداياتها، لانتقادات شديدة من اليسار. وأصبح دفاع أدونيس الصريح عن "شعر" عائقاً بعد انفصاله عنها، وقد ساعده انفصاله عن المجلة على إعادة تموضعه السياسي. وبعد عام 1964، اقترب أكثر من اليساريين وأصبح مساهمًا منتظمًا في الآداب ألد خصوم شعر. مع هذا كان  للمشروع المستقل أن يخدم أغراضه بشكل أفضل، بافتراض أن ثمة مسافة كافية بينه وبين شعر حتى لا يبدو "مشروعه" تقليدًا لها. وفي الوقت نفسه، كان لا بد أن يكون قريبًا بدرجة كافية من أجل تعزيز المهمة الحداثية التي وسمت شِعر وأدونيس ذاته.

وتحاول "مواقف" السير على هذا الخط الرفيع. فمنذ البداية، تغطي نطاقًا واسعًا من المواضيع مع الاحتفاظ بمكانة مركزية للشعر وقبل كل شيء للشعراء الشباب وغير المعروفين إلى حد كبير. لكن، وبخلاف شِعر، يمتد مشروع مواقف النقدي إلى جميع مناحي المجتمع العربي. وكما أُعلن في مقدمة العدد الأول: لم تعد القصائد والمقالات - أو الإنتاج الأدبي والنظري - تُعامل على أنها أنواع منفصلة، ولكنها تشكل «ممارسة كتابية» تخدم هدفًا واحدًا: الحث على التغيير.

ومع ذلك، ثمة ما هو أكثر لنجاح تأسيس "مواقف" من ابتعاد أدونيس الذكي عن مشروع مجلته السابقة. إذ تظهر مجلته "الخاصة" في سياق حدث سياسي يتعارض بشكل أساسي مع التصور الذاتي للتفوق العربي الذي ميز الوعي السياسي منذ عبد الناصر. ففي 5 حزيران 1967، هزم الجيش الإسرائيلي الجيش العربي في هجوم مفاجئ، وبعد ذلك احتلت إسرائيل مرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، مما تسبب في نزوح ربع مليون فلسطيني إلى الدول المجاورة. وتؤثر النكسة بشدة على أولئك الذين اعتبروا أنفسهم تقدميين ولكنهم لم يروا أو لم يريدوا أن يروا أن هذه الهزيمة ماثلة في الأفق.

"لقد ضربتنا مثل الصاعقة" هكذا يتذكر صادق جلال العظم (1934-2016) المفكر السوري والماركسي والمحرر المشارك لـ"مواقف" من عام 1972 إلى عام 1980، ومثل العديد من معاصريه، يصف نكسة حزيران بأنها دعوة للصحوة السياسية والفكرية، وهو ينتمي إلى الأصوات الأولى التي طالبت باعتبار الهزيمة العسكرية مناسبة لإلقاء نظرة فاحصة أخيراً على العلل السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها العرب. كما ينشر أدونيس "بيان 5 حزيران 1967" في عدد ربيع 1968 من مجلة الآداب، وكذلك في المجلة المغربية أنفاسSouffles، كما تنشره المجلة الفرنسية Ésprit مترجمًا، ويتحدى فيه المثقفين العرب لتحمل مسؤولية تخلف مجتمعاتهم ويكتب مرددًا صدى زولا: "هذا الشبح الذي نسميه الفكر العربي المعاصر، أتهمه، وأنا جزء منه، بأنه عاجز جاهل. أتهمه بأنه تابع جبان مسحوق".

يقدم العدد الأول من مواقف نفسه على أنه استجابة للمطالبة بنوع جديد من المثقفين وعلى أنه تجسيد للنقد الذاتي العربي، ويحتوي على مساهمات لمؤلفين عرب بارزين، بمن فيهم الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1905- 1993) ونجيب محفوظ (1911-2006)، وكلاهما يناقش ما تعنيه النكسة للإنتاج الفكري والأدبي. ولكنها، في المقام الأول، تُفرد مساحة  للمؤلفين الأصغر سنًا مثل عالم الاجتماع والناشر المشارك لاحقًا حليم بركات (وُلد 1936) الذي يساهم بدراسة نقدية للطائفية في المجتمع اللبناني، كما أنها تحذو حذو شِعر بنشرها أشعارًا لكتاب عرب شباب وشِعرًا مترجمًا.


(تأييد سارتر لإسرائيل صدم المثقفين العرب)

بعد ذلك بوقت قصير، تبدأ مواقف بنشر النظرية، وخاصة نصوص مؤلفي اليسار الجديد مثل جان بول سارتر، وهنري لوفيفر، وهربرت ماركوز، ولويس ألتوسير. ويُفسَّر هذا الميل الواضح نحو فرنسا إلى حد ما بعلاقات أدونيس الوثيقة بالمثقفين الفرنسيين، والتي تشكلت خلال إقامة طويلة في فرنسا في أوائل الستينيات. وقد عنى إرث الحكم الفرنسي في المنطقة أن التأثير الثقافي الفرنسي على الطبقات المثقفة اللبنانية والسورية لا يزال قوياً. ويتجلى هذا التقارب أيضًا في تعبير مواقف الواضح عن التضامن مع الاحتجاجات الطلابية وحركات الحقوق المدنية، والتي بلغت ذروتها في أوروبا والولايات المتحدة عام 1968. وقد كان  التسييس اليساري للطلاب في جميع أنحاء العالم قد طال الطلبة في العالم العربي. وفي القاهرة وبيروت على وجه الخصوص، دخلت حركة الاحتجاج الطلابية التي تشكلت طوال العقد مرحلتها الأكثر حدة في عام 1968، وقد غذتها نكسة حزيران، فضلاً عن الاحتجاجات المعاصرة في الجامعات الغربية. وكما هو الحال في باريس أو برلين، هناك مطالب مدوية في بيروت بتغيير النظام الجامعي والنظام السياسي في حد ذاته. ويؤكد المحررون، في مقدمة عدد خاص عن "حالة النظام الجامعي في لبنان" أن مسألة الجامعات ليست مسألة "إصلاح" بل "ثورة بروح العلم والتقدم، موجهة نحو المستقبل".

بعد عام 1967، أصبح يُنظر بشكل متزايد إلى مستقبل العالم العربي على أنه لا ينفصل عن مستقبل فلسطين، وتلعب حركة المقاومة دورًا تكوينيًا داخل المجموعات الطلابية واليسار اللبناني. لم يعد الأمر مجرد كلام شكلي حول العلاقة بين النظرية الثورية والممارسة، ويصبح التضامن مع "القضية الفلسطينية" جزءاً أساسياً من هوية المجلات اليسارية في بيروت. وينطبق هذا على المجلات الراسخة مثل مجلة "الطريق" الشيوعية، وكذلك على مشاريع النشر الجديدة مثل "شؤون فلسطينية" إحدى مطبوعات منظمة التحرير الفلسطينية. وفي حين أن هاتين المجلتين تهتمان في المقام الأول بالسياسة والمجتمع، فإن "مواقف" مخصصة للجوانب الثقافية للقضية الفلسطينية، وبالتالي سد الفجوة الصحفية. وحتى نهاية السبعينيات، كان هذا هو المكان الذي تدور فيه مناقشات الكتاب الثوريين وشعر المقاومة. وقد ظهر العدد الأول الذي ركز على فلسطين في عام 1970، وحمل مساهمات لممثلين بارزين عن المقاومة، مثل غسان كنفاني، الروائي والمتحدث باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وناجي علوش، الأمين العام للاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين والعضو القيادي في حركة فتح.

وحتى أوائل الثمانينيات، حافظت مواقف على وجهة نظر أيديولوجية محددة للغاية نائية بنفسها عن الليبرالية المبكرة لشِعر وكذلك عن الشيوعية التقليدية. ويرجع ذلك أساسًا إلى تكوينها الفريد من المحررين. في البداية وقبل كل شيء أدونيس وزوجته الأديبة خالدة سعيد، وبعد ذلك بوقت قصير، انضمت شخصيات أخرى إلى مجموعة التحرير الأساسية وستواصل تشكيل صورة المجلة: حليم بركات وصادق العظم، بالإضافة إلى المؤرخ الفلسطيني هشام شرابي (1927-2005) والشاعر العراقي بلند الحيدري (1926–1996) والفنان الفلسطيني كمال بلاطة (مواليد 1942) والفنان اللبناني سمير صايغ (مواليد 1945)، وبعد ذلك بقليل جاء الناقد السوري كمال أبو ديب (مواليد 1942) والصحافي والناقد والكاتب اللبناني إلياس خوري (مواليد 1948). وبالرغم من محدودية توزيعها وافتقارها التام للتمويل الخارجي وحظرها في معظم الدول العربية، سرعان ما أثبتت "مواقف" نفسها منبرًا بارزًا  للنقد الفكري والتجريب الأدبي ضمن مشهد المجلات العربية. ونُشر منها واحد وثلاثين إصدارًا من أصل 74 إصدارًا في السنوات الثماني الأولى من حياتها التي استمرت 25 عامًا - أي حتى أولى نهاياتها الثلاث.

بيروت، مدينة النهايات
في ربيع عام 1975، اندلعت التوترات السياسية المحلية التي كانت تعتمل في السنوات السابقة: تدخل الحرب الأهلية اللبنانية مرحلتها الأولى العنيفة، والتي استمرت حتى عام 1978، ويسفر تكتل الميليشيات المتعادية، المتزامن إلى حد كبير مع الانقسامات الطائفية، عن تقسيم  بيروت إلى غرب يهيمن عليه المسلمون وشرق يهيمن عليه المسيحيون. كان عبور الخط الأخضر الذي يقسم المدينة يعني المخاطرة بحياة المرء، ويضطر محررو مواقف، الذين يعيشون في شطري بيروت، إلى وقف اجتماعاتهم التحريرية الأسبوعية ولم يعد بإمكان المجلة الظهور.


(الياس خوري... عاش وهم أمل الثورة الإيرانية)

يستمر هذا الوضع حتى عام 1978، عندما يستأنف المحررون العمل ويصبحوا قادرين على نشر العدد 32. وبدلاً من التقدمية الطليعية، يُصارع هذا العدد معضلة: عجز النشاط الفكري في مواجهة العنف الصرف وغير المنضبط، والالتزام الأخلاقي بالاستمرار رغم ذلك.  يقول الياس خوري في افتتاحية العدد الجديد الأول "هذه الحرب لا تنتهي". ما الذي يجب عمله؟ ابدأ من جديد: "الحرب هي مؤشر بداية". ومع ذلك" لا تكون ثقافتنا إلا لحظة بحث وقلق من أجل الخروج من دوامة الأوهام". بداية لا تنشد "الحقيقة" وإنما مجرد البداية.  لقد تغير التصور الذاتي للمحررين بشكل كبير: "لا ندعو إلى شيء، ولا نبشر بشيء، نكتب ملاحظات وأسئلة لكننا نشعر ونتحسس ونلمس ولادة زمن آخر، يحتاج إلى لغة أخرى و إلى موت كثير".

لقد خُنق المزاج الثوري الذي حشد جيلاً كاملاً بعد 1967/1968 إلى حد كبير. ودفعت مشاركة اليسار اللبناني في الحرب، ولا سيما في مجزرة الدامور[1]، العديد من المثقفين اليساريين إلى الشك بشكل أساسي في عصمتهم الأيديولوجية. وكان العنف بمثابة الرد على أعمال العنف التي أودت بحياة العديد من المثقفين اليساريين، وأحياناً في عمليات اغتيال مستهدفة. وبعد عام 1967، سعت مجموعة تحرير مواقف – واليسار الجديد ككل – إلى مفهوم عالمي جديد للثورة تبلور في المقاومة الفلسطينية. ومع ذلك، وصمت الحرب الأهلية هذه اليوتوبيا، فحتى أولئك الذين قاتلوا بالقلم بدلاً من السيف كانت أيديهم ملطخة بالدماء. ما هو دور الناقد في ظل هذه الظروف؟ وهل كان الواقع الأدبي والنقدي لا يزال ممكنا في هذا الواقع الجديد؟ فقط، على ما يبدو، إذا ما انتُقدت الكتابة ذاتها بلا رحمة أكثر من ذي قبل.

هذا ما تعلنه افتتاحية خوري. وفي السنوات التالية، تصبح "مواقف" منصة للتحول الخطابي داخل جزء من اليسار العربي بعيدًا عن اليسار الجديد نحو ما بعد البنيوية، وتُنشر النصوص الأساسية لفرديناند دي سوسير ورولان بارت وجاك دريدا بالعربية للمرة الأولى. كما يُقدم  النقاد والمؤرخين العرب ممن استلهموا هؤلاء المفكرين: مثل إدوارد سعيد (1935-2003) الذي كان هو نفسه محررًا مشاركًا بين (1978-1979) والذي قسم استشراقه القراء العرب أو محمد أركون (1928-2010) الذي أثارت قراءته للإسلام  كتاريخ خطابي انتقادات شديدة من قبل علماء الدين، وأصبح التفكيك والقوة الخطابية مفهومين هامين. وكانت مواقف لا تزال  تركز على تحرير اللغة العربية والمجتمع العربي، إلا أن المناخ السياسي الذي حدد وسائل هذا التحرير قد تغير. فقد أُضعِف اليسار العربي، وفي الثمانينيات دخلت قوة سياسية أخرى إلى المشهد: الإسلام السياسي. فبعد أن كانت الإسلاموية موجودة على هامش النقاش العلماني في العقود الماضية، أصبحت الآن قضية ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. وكما هو الحال في أوروبا في الوقت نفسه، تحتل "الثقافة" - وقبل كل شيء الثقافة الإسلامية - موقعًا مركزيًا في النقاش العربي، حيث لعبت "مواقف" دورًا رئيسيًا منذ الثمانينيات فصاعدًا.

ويمثل العدد 34 الصادر ربيع 1979 لحظة فاصلة في هذا الصدد. فقد أثارت إطاحة الشاه الإيراني رضا بهلوي على يد رجل الدين الشيعي آية الله الخميني وأتباعه، ردود أفعال متباينة على اليسار في كل من العالم العربي والغرب. ويسعنا التذكير بسوء تقدير فوكو، الذي لم ير إلى الثورة بوصفها تغييرًا إلى نظام ثيوقراطي، ولكن كمقاومة للشكل الحديث من الحكم في حد ذاته. وينقسم المثقفون العرب أيضًا إلى معسكرين: فبينما يحتفل أولهما بالثورة باعتبارها انتصارًا للشرق المقموع على الغرب الإمبريالي، الذي كان الشاه يمثله بالنسبة للكثيرين، يرى الآخر أنها انتصار للدين على الصراع الطبقي. وينتمي محررو مواقف إلى المجموعة الأولى، ويخصصون في هذا العدد ملفاً واسعاً حول هذا الموضوع. وفضلَا عن النظرة الإيجابية بشكل أساسي لثورة الخميني، تنتقد المساهمات أيضًا الماركسية الأرثوذكسية. ورفضًا للمبدأ القائل بأن الدين هو "أفيون الشعب" يسلط جميع المؤلفين الضوء بطريقة أو بأخرى على الإمكانات التعبوية للدين، والتي جادلوا بأنها ظهرت خلال الثورة.

لكن عندما يتعلق الأمر بدور الإسلام في الثورة، تتباين آراؤهم. إلياس خوري يرى في الثورة استمراراً لصراع تاريخي يربط آية الله بالمصلح جمال الدين الأفغاني في أواخر القرن التاسع عشر. فقد حاول الأفغاني تحديث الإسلام، الذي فهمه على أنه حلقة الوصل بين شعوب الشرق، وبالتالي اعتبره السلاح الوحيد ضد الإمبريالية الغربية، وهذا ما عارضته الثورة الإيرانية أيضاً، بحسب خوري. ومثل فوكو، يذهب رئيس التحرير أدونيس أيضًا إلى ما هو أبعد من السياسة بالمعنى الضيق: فالإطاحة بالشاه تكشف عن ثقافة الشرق الأصيلة، والتي يقول إنها كانت محجوبة لفترة طويلة جدًا من قبل ثقافة غربية سطحية. فالإسلام، بالنسبة لأدونيس، ليس عقيدة دينية ولا ممارسة سياسية، بل هو جوهر الثقافة الشرقية نفسها، ولهذا السبب فهو الأساس الوحيد الذي يمكن أن يُبنى عليه التغيير الاجتماعي الحقيقي.


(صادق العظم انتقد مواقف زملائه السابقين)

الحماس للثورة الإيرانية الذي تخللّ هذا العدد يثير ردود أفعال قوية، وليس فقط من خارج مواقف. كان أحد أشد المنتقدين هو صادق العظم، الذي ترك مواقف بعد صدور العدد، وفي مراجعته لكتاب الاستشراق عام 1981، انتقد العظم بشدة موقف زملائه السابقين، وعلى رأسهم أدونيس. كان كتاب سعيد قد صدر للتو باللغة العربية، وقد ترجمه كمال أبو ديب، أحد كبار محرري مواقف، حيث نُشرت مقتطفات منه أيضًا. ويرى العظم في دراسة سعيد ورد فعل أدونيس "استشراقًا معكوسًا" وهو استشراق يعيد إنتاج الماهوية "الجوهرية" التي ينتقدها المؤلفون على وجه التحديد. ويستمر الجدل الذي دار بين العظم وأدونيس بقية حياة الرجلين، ويمكن متابعته على صفحات مواقف وغيرها من الدوريات[2]، وأصبح مثالا نموذجيا للانقسام بين المثقفين العلمانيين فيما يتعلق بالإسلام السياسي. أدونيس – إلى جانب المساهمين الآخرين في قضية ربيع 1979 – ينأى بنفسه عن رد فعله المبتهج الأولي بعد سنوات قليلة، بعد أن كشف النظام الجديد في طهران عن طابعه القمعي. ومع ذلك، فإن فكرة الاختلاف الجوهري بين الغرب والشرق، ومسألة اللجوء الخلاق إلى التراث الثقافي للشرق والإسلام، سوف تشغل بال رئيس تحرير مواقف حتى النهاية.

في عام 1982، مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وصلت الحرب الأهلية إلى ذروة جديدة. هاجر أدونيس وخالدة سعيد إلى باريس عام 1984. وفشلت الجهود المبذولة لمواصلة نشر مواقف في نهاية المطاف، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الخلافات الشخصية بين المحررين. ومرة أخرى تتوقف المجلة. وفي عام 1988 تعاود المجلة الظهور في مرحلتها الثالثة والأخيرة، بتمويل من دار الساقي في لندن، ويسفر التحول من مشروع جماعي ممول ذاتيًا إلى منشور موجه نحو الربح عن تغيير حاد في مظهر المجلة. وبالمقارنة مع السنوات الأولى، عندما كانت كل قضية تقريبًا تُنظّم بشكل مختلف معطية الانطباع بأنها تتفاعل مع عصرها، أصبحت بعد عام 1988 أكثر كثافة. ووُحدت التصاميم والعناوين وأصبحت المجلة شبه أحادية، حيث تركز القضايا في الغالب على موضوع واحد. وعلى الرغم من أن المجلة لا تزال تضم الأسماء الكبيرة في الأدب والنقد العربي، إلا أن هناك المزيد من المساهمات من المؤلفين الأوروبيين. تبدو مواقف ممتلئة أكثر من اللازم، إن لم تكن متخمة. لكنها تحافظ على سمعتها من بغداد إلى الرباط باعتبارها إحدى المجلات الثقافية الرائدة في العالم العربي.

النهايات النهائية
في كانون الثاني 1973، لم يكن كل هذا قد حدث بعد. سوف يرى سهيل إدريس مجلة الآداب خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وسوف تصمد أكثر من كل المجلات الأخرى. وفي نهاية تأمله يوجه انتباهه إلى القارئ:

"وطوال هذه الأعوام العشرين، كان يعزيني دائمًا من التعب والتضحية أني كنتُ أتمثل قارئ "الآداب" يسأل عنها أواخر كل شهر، وينتظر وصولها إلى المكتبة التي اعتاد أن يتردّد إليها، فإذا رآها معلقة على الواجهة، خفق قليه وتنفس الصعداء، كأنما كان يخشى ألا تصدر ذلك الشهر".

في خريف 1994، سيبحث قارئ مواقف عبثاً عن المجلة في مكتبته المحلية في بيروت أو الدار البيضاء، أو في صندوق بريده في باريس أو برلين. لن يكون هناك تنفس للصعداء. وسيكون العدد 74، عن المرأة العربية، هو الأخير. وكما هو الحال في كثير من الأحيان، وفي أكبر تناقض ممكن مع عددها الأول الصاخب، ستكون نهايتها صامتة.

(*) رابط المقال هنا

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- في 20 كانون الثاني/يناير 1976، وقعت مجزرة في بلدة الدامور المارونية، راح ضحيتها مئات الضحايا، وعلى الرغم من التقارير المتناقضة حول الجهة التي شاركت في المذبحة على وجه التحديد، إلا أن الجناة كانوا ينتمون في الغالب إلى مجموعات تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية. واعتبرت هذه العملية انتقاما للمجزرة التي نفذها الكتائبيون في منطقة الكرنتينا في بيروت قبل يومين.

[2]- كان آخرها في ما يتعلق برد فعل أدونيس الرسمي على الحرب الأهلية السورية خلال مراحلها الأولى، والذي فُسِّر على أنه داعم للأسد ومناهض للسنّة، وقد أدى هذا الجدل إلى خسارة أدونيس، وهو علوي كان يدافع دائماً عن العلمانية والإنسانية، الكثير من مصداقيته في المجال العام العربي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها