الأربعاء 2023/01/18

آخر تحديث: 13:48 (بيروت)

سالاماندرا... في الدوغما الشامية والحاجة إلى عكيد (1/2)

الأربعاء 2023/01/18
سالاماندرا... في الدوغما الشامية والحاجة إلى عكيد (1/2)
يتطلب فهم ظاهرة دمشق القديمة الإلمام بالتكوين الاجتماعي لسوريا المعاصرة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
- جَمال دمشق مخفي ولا يمنحك كل شيء منذ اللحظة الأولى. جمالها يأتي إليك شيئاً فشيئاً. (غسان جبري، مخرج تلفزيوني من دمشق)

- دمشق مثل الفتاة الجميلة التي تريد أن تكون مرغوبة. (ناديا خوست، كاتبة من دمشق).

- دمشق عاهرة لكنها راقية. لا تعطي نفسها إلا لمن يدفع أكثر. (صحافي علوي).

استناداً إلى بحث ميداني بين العامين 1992-1994 في دمشق، وبناءً على رؤى بورديو حول التمايز والعلاقة بين الاستهلاك والوضع الاجتماعي، تهتم أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك CUNY، كريستا سالاماندرا(*)، بشكل أساسي، ببناء هوية النخبة الدمشقية من خلال الاستهلاك والإنتاج الثقافي. تجادل بأن دمشق و"النزعة الدمشقية" تعملان كنقطتين محوريتين للمناقشات والحجج حول الهوية والمكانة والأصالة والهيبة، وأن مثل هذه الجدالات تتم بشكل أساسي من خلال "شعرية الاتهام". هذه "النزعة الدمشقية" يمكن تحريها وتلمسها في اشتباكها مع الحداثة ومع هويات أخرى في طور البروز. تتعقب فصول كتابها "دمشق القديمة الجديدة" هذه الخطابات المتنازع عليها لدى ظهورها في إنتاج مجموعة متنوعة من الاستدلالات البصرية والنصية للمدينة القديمة. على وجه التحديد، تتطرق سالاماندرا إلى التاريخ والجغرافيا الحضرية لدمشق، وتسليع التراث من خلال مواقع الترفيه مثل المطاعم، والممارسات الرمضانية والمسلسلات التلفزيونية، والمذكرات، وغيرها من أشكال الإنتاج الثقافي... وهنا بعض من مقدمة الكتاب، مع التنويه بأن سالامندرا تستخدم مصطلح مُخبِر بالمعنى الفضفاض للكلمة، بمعنى الإدلاء بإفادة أو رواية خبر ما، وليس بالمعنى الازدرائي الدال على الوشاية وهو المعنى الدارج لدينا:

لم يكن العمل الميداني أول تجربة متعمقة لي في سوريا. ففي العام 1987، قضيت عاماً في دمشق أدرس اللغة العربية من خلال منحة فولبرايت بعدما أكملت درجة البكالوريوس في لغات وآداب الشرق الأدنى. في الفصل الأول الذي عشت فيه في مهاجع للطلاب، عشت تفاعلاً حميماً يومياً مع طالبات سوريات من خلفيات متنوعة. في النصف الثاني من العام، انتقلت إلى البلدة القديمة، واستأجرت غرفة في الطابق الأرضي في منزل في حي باب توما، مع مهاجرين جدد من منطقة حوران في جنوب سوريا، وهم أسرة رقيقة الحال جاءت هجرتها في سياق محاولتها التكيف مع الحياة الحضرية.

كانت الحياة قاتمة بالنسبة لمعظم مواطني دمشق. فقد أصاب انقطاع التيار الكهربائي اليومي الطويل، الكثيرين الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف المولدات الخاصة. والصناعة المحلية، المزدهرة الآن، كانت في حدودها الدنيا، وكان الاستيراد مقيداً. كما أدت المحاولات المتكررة لوقف تدفق التهريب من لبنان والأردن، إلى نقص حاد في السلع الأساسية مثل الأرز والشاي والسكر وزيت التدفئة وغاز الطهي. جنّد السوريون حيلهم كلها ما أدى إلى توسيع علاقات المحسوبية والالتزامات الأسرية إلى أقصى حد.

أبرزت دمشق، بشوارعها النظيفة وحياتها الليلية الفقيرة والخفية، واجهة مرتبة ولكنها مقتصدة. كانت الثقافة العامة أقلّ تطوراً بكثير مما هي عليه الآن، مع وجود عدد قليل فقط من الفنادق والمطاعم. كما استاء المسؤولون من العروض العامة الواضحة للاستهلاك، حتى أنهم حدوا من تصوير الأطعمة الفاخرة في التلفزيون الخاضع لسيطرة الدولة. ومع ذلك، وسط هذا المشهد الكئيب للمدينة، حيث أُجبر الكثيرون على قضاء الكثير من وقتهم في البحث عن ضروريات الحياة، كانت ثمة إشارات إلى نمط حياة مختلف تماماً. بعد ظهر أحد الأيام، ذهبت لتبديل العملة في فندق شيراتون، وهو مكان بعيد كل البعد عن أسلوب حياتي الطلابي وخلفيتي في الطبقة العاملة. رأيت هناك مجموعة من سبع أو ثماني نساء يتكئن على الكراسي الجلدية الفخمة في الردهة، في انتظار العشاء في مطعم الفندق ذي الطراز الفرنسي. جلست لبضع دقائق، مفتونة، أراقب من خلف نبات كبير موضوع في أصيص. طاردتني صورة "السيدات اللائي يتناولن الغداء" واللواتي يرتدين الثياب الفخمة والمنسوجات باهظة الثمن، وتناقضها مع معظم ما كان يقع خارج هذا الفندق. عندما عدت إلى سوريا للعمل الميداني في خريف 1992، كنت أخطط لتركيز بحثي على الثقافة العامة والتمايز الاجتماعي لدى النخبة، وهي تيمة مفقودة إلى حد كبير من الإثنوغرافيا في الشرق الأوسط. كنت سأكتشف ساحة عامة جديدة مزدهرة من مواقع الترفيه حيث تعرِض الطبقات القديمة والجديدة المكانة والثروة.


(طلائع الأسد)

لم تكن دمشق موقعاً ميدانياً سهلاً. شبابي النسبي وأنوثتي يسّرا بعض العلاقات وفي بعض الحالات ربما خففا الشكوك، كما أنهما أحدثا توترات لم يكن من السهل التغلّب عليها. كانت الهياكل الأبوية لدى النخبة الحضرية في سوريا تضع النساء في مواجهة النساء، وكان على المرأة الأجنبية التي تدخل هذا المجال أن تتعامل مع التفاعلات الاجتماعية والمهنية شديدة التنافسية. عقبة أخرى تمثلت في الافتراض العام، الذي يتشاطره السوريون من جميع الفئات الاجتماعية والدينية، بأن الباحثين الأجانب جواسيس. مثل هذا الشك يمثل خطراً شائعاً في العمل الميداني في معظم أنحاء الشرق الأوسط العربي. أحد المخبرين صاح في وجهي ذات مرة: "سؤالك استخباراتي، وليس أكاديمياً". وتحدثت أخرى عن رد فعل زملائها السوريين عندما علموا أنها تعمل مع باحثين أجانب: فقد قالوا لها "ألا تعلمين أن كل هؤلاء الأجانب جواسيس؟" كيف يمكنكِ إحضار س. إلى النادي العربي، ماذا لو كانت جاسوسة؟ وقد قلت لهم "وإن تكن جاسوسة، فهي تسأل فقط أسئلة عامة جداً". مع ذلك، ما زال الناس يشككون كثيراً في الأجانب، وهذا من وجهة نظر سياسية". وبالمثل، قال صديق سوري إنه حتى لو كنا، نحن الباحثين الأجانب، لا نعتبر أنفسنا جواسيس، فإن هيئات التمويل لدينا لها صلات بأجهزة المخابرات الغربية، التي تستفيد بعد ذلك من أعمالنا المنشورة. حتى عندما استشهدتُ بمجموعة من المنح الدراسية التي يتم إنتاجها كل عام، والغموض النسبي للإثنوغرافيا ضمن هذه المنح، وصغر جمهورها، لم أستطع إقناعه بأنني كنتُ أي شيء آخر سوى  إثنوغرافية استعمارية تم توظيفها للمساعدة في إخضاع السكان الأصليين.

الأنثروبولوجيا نفسها جديدة على سوريا، وقد عمل القليل من علماء الأنثروبولوجيا في دمشق. لا علماء أنثروبولوجيا سوريين، ولا قسم للأنثروبولوجيا في أي جامعة سورية. ولم تكن الإثنوغرافيا مفهوماً مألوفاً لأي تخصص آخر، في حين يمتاز قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق بالمناهج الكمية. نظراً لعدم وجود منحة دراسية أنثروبولوجية أصلية، واجه مخبريّي ذوي التعليم العالي صعوبة في فهم البحث الإثنوغرافي وكانوا في بعض الأحيان في حيرة من اختياري للتحدث معهم بدلاً من الاعتماد فقط على المصدر التاريخي الكلاسيكي في المدينة.

ومما فاقم عدم الإلمام بالممارسات الإثنوغرافية تركيزي على الثقافة الشعبية. بالنظر إلى الحداثة والتهميش النسبيين للأشكال الثقافية الشعبية كأهداف للبحث العلمي الاجتماعي، لم يكن تشكك السوريين تجاه دراستي مفاجئاً. بدت الثقافة الشعبية شيئاً غريباً وصعباً على نحو غير عادي للتحقيق في نظر السوريين، نظراً للانحياز القوي للثقافة العربية تجاه الكلاسيكية مقابل اللغة العامية. هذا التمييز، المرتبط بالازدواجية الواسعة للغة العربية، أكثر وضوحاً في سوريا مما هو عليه في مصر أو دول الخليج العربي، حيث يتم إعطاء الأشكال العامية تعبيراً أدبياً ذا قيمة اجتماعية. كان الاهتمام العلمي بالمطاعم والبرامج التلفزيونية غريباً جداً على السوريين.


(مقهى في دمشق)

ومع ذلك، تؤكد الحالة الدمشقية على بروز الثقافة الشعبية. بينما اقترح مخبريّي أن أقرأ محمد كرد علي، وعلماء آخرين من دمشق، فإن ما تحدثوا عنه في المناقشات اليومية للمدينة كان تمثيلها في وسائل الإعلام الشعبية. إن تجاهل أهمية مثل هذه المواد يعني أن نُسلِم أماكن مثل سوريا إلى تصورات نمطية قديمة من اللاحداثة. حتى بين المجموعات الصغيرة وغير المتعلّمة التي تشكّل موضوعاً أكثر تقليدية للبحث الأنثروبولوجي، أصبحت الثقافة الشعبية جانباً ذا مغزى متزايد في العالم الاجتماعي اليومي.

عنصر مهم آخر في التصورات الأكاديمية المعاصرة للحياة السورية هو بنية وتأثير الدولة السورية، بأجهزتها الأمنية القوية والقاسية في بعض الأحيان. إن عملي يقلل من شأن هذا الجانب من سوريا، والذي غالباً ما يكون مبالغاً فيه في كل من المنح الدراسية ذات التوجه السياسي وفي وسائل الإعلام الغربية والخيال الشعبي. بالنسبة للزائر العادي، قد تشير الصور الأيقونية الطاغية للرئيس، ووجود حراس مسلحين في شوارع دمشق إلى دولة بوليسية أكثر تدخلاً مما هو موجود بالفعل. لم أتعرّض أبداً لأي مضايقات، على الرغم من أنني أجريت بحثاً علنياً، وكثيرًا ما كنتُ أدوّن الملاحظات وأجري مقابلات في الأماكن العامة مثل مقهى Bresil في فندق شام بالاس، أو مطعم لاتيرنا. المسؤولون السوريون، في المناسبات النادرة التي تعاملت معهم، كانوا دائمًا متعاونين وداعمين. وعلى حد علمي، لم يتعرض أي سوري مشارك في بحثي للخطر. ومع ذلك ظللت مدركة تماماً أن موضوعي الذي غامر بالدخول في التضاريس الحساسة للفوارق الطبقية والدينية والمناطقية، مكروه بالنسبة لأيديولوجية حزب البعث ويوحي بالنقد السياسي. أنا ممتنة للعديد من السوريين الذين تحدثوا معي بسخاء، على الرغم من أي رقابة ذاتية قد مارستها غرائزهم.

هويات النخبة
يتطلب فهم ظاهرة دمشق القديمة الإلمام بالتكوين الاجتماعي لسوريا المعاصرة، وهي دولة تكتنز مجموعة معقدة من الهويات الدينية والطبقية والإقليمية والعرقية المتداخلة والمتشابكة في كثير من الأحيان. ما زال المشهد الاجتماعي السوري محاطاً إلى حد كبير بالصمت الأكاديمي، حيث يتجنّب كل من الباحثين الأجانب والمحليين الموضوعات المعاصرة - وبالتالي الحساسة سياسياً - في هذه الدولة البوليسية تقريباً. يؤدي الافتقار إلى إحصاءات موثوقة إلى تفاقم المشكلة. بالنظر إلى النقص في الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية، وتركيز معظم المؤرخين على ما قبل العام 1960، فإن العمل في السياسة والاقتصاد السياسي هو الذي شكل الفهم الغربي للمجتمع السوري المعاصر. وتتمحور معظم هذه المواد حول تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي وسيطرته على النظام السياسي السوري لما يقرب من أربعين عاماً. من غير المفاجئ أن يستمر صعود حزب البعث في إبهار المحللين السياسيين، لأنه قصة صعود فلاحين فقراء "من الخِرق إلى الترف"، قصة فلاحين من طائفة دينية موصومة تنتزع السيطرة السياسية من نخبة حضرية من العائلات "البارزة" التي هيمنت على الحياة السياسية والاجتماعية المحلية لعقود، إن لم يكن لقرون.

من الصعب المبالغة في التأكيد على الدرجة التي سيطرت بها عائلات النخبة الدمشقية على النظام السياسي والمجتمع السوري قبل العهد البعثي. في كتابه عن التعبئة السياسية الجماهيرية في عشرينيات القرن الماضي، يشدد جيمس جلفين James Gelvin على إحجام "المتنورين" الدمشقيين عن توسيع الحركة القومية خارج دائرتهم الضيقة. كانت الحركة القومية السورية مؤلفة إلى حد كبير من النخبة الدمشقية، التي "لم تتفاوض مع السكان حول الأيديولوجيا أو البرنامج، لم تؤلف أبداً خطاباً سياسياً مقنعاً لغير النخب، ولم تُنشأ أبداً روابط مع السكان مماثلة لتلك التي أقيمت بين النخب القومية ومواطنيهم المستقبليين في مناطق أخرى من العالم".

ظل وضع ومكانة العائلات الرائدة في المدينة مستقراً خلال النصف الأول من القرن العشرين، على الرغم من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الواسعة النطاق التي أحدثتها الحرب والمجاعة والاستعمار. جاءت الضربة الأولى لهذا الاحتكار مع محاولة الوحدة مع مصر وتنفيذ السياسات الاشتراكية الناصرية. مع توطيد حكومة حزب البعث في العام 1963، تحولت السلطة السياسية إلى نخبة عسكرية غير دمشقية وغير حضرية إلى حد كبير، والتي أصبحت أكثر قوة بعد النجاحات المتصوَّرة في حرب 1973. خلال السنوات الأولى من حكم حزب البعث، تم تهجير الدمشقيين بشكل منهجي من المناصب الرئيسة في الجيش والحكومة والحزب. ولا يشغلون اليوم مناصب رئيسة في أي من القوى الأمنية المختلفة التي يعتقد معظم المحللين السياسيين أنها تتولى زمام السلطة في سوريا. في المجال الاقتصادي، كان على الوجهاء الدمشقيين أن يزاحموا منافسين جدد وأن يخسروا أمامهم أحياناً، بما في ذلك الدولة، لأن التأميمات في منتصف الستينيات قوضت سيطرة الأعيان على التجارة والصناعة. ظهرت نخب بيروقراطية وحزبية جديدة مع توسع النظام في قاعدة سلطته. وغالباً ما عاد الفلاحون السابقون الذين حققوا ثروات في الخليج خلال طفرة النفط في السبعينيات، ليس إلى قراهم، بل إلى دمشق، وشكلوا جزءاً من طبقة من الأثرياء الجدد الذين تربطهم صلات قوية بالنظام.

بين خصوم الدمشقيين كان أعضاء من الطائفة العلوية. ففي انعكاس مذهل للثروات، صعدت هذه المجموعة التي كانت في يوم من الأيام في أسفل السلم الاجتماعي، إلى أعلى ذرى السلطة السياسية، وباتت تسيطر الآن على معظم المناصب الرئيسة في حكومة الأسد. تعتبر الطائفة العلوية أو النصيرية، والتي تعتبر هرطقة من قبل المسلمين السنّة الذين سيطروا لفترة طويلة على المدن السورية، فرعاً من الإسلام الشيعي، ومزيجًا توفيقياً من المعتقدات والممارسات الإسلامية والمسيحية واليهودية. في القرن التاسع عشر، كان العلويون في القرى الساحلية في شمال سوريا أقلية مُضطهدة ومستغلة يعملون غالباً كمزارعين ويرسلون بناتهم إلى المدن- دمشق على وجه الخصوص- للعمل كخادمات في المنازل الغنية. في حين جند مسؤولو الانتداب الفرنسي، كجزء من تكتيكهم "فرّق تسُد" أعداداً كبيرة من العلويين في جيشهم، مما أدى إلى تفاقم التوترات بين العلويين في المناطق الريفية وسُنّة المدن.



إن تاريخ العلويين، الذي يدركونه جيداً هم ونظراؤهم الدمشقيون، هو تاريخ فقر وذلّ وعبودية. مصطلح "علوي" الذي كان ذات يوم تحقيرياً، بات يشير الآن إلى مصدر القوة السياسية والقمع. يقوم العلويون وغير العلويين على حد سواء بالتعبير عن ذلك بصمت، أو باستخدام واحد من مجموعة متنوعة من المصطلحات المشفّرة بدلاً من ذلك. عادة ما تشير مصطلحات مثل "الغرباء"، "القرويين"، "أهل الريف"، "الفلاحين"، أو "الأقليات" إلى العلويين على وجه الخصوص.

في المناقشات اليومية، غالباً ما يربط السوريون الهوية العلوية بكل من الثراء المُحدث الأرعن والتأثير غير المستحق. من الصعب تقييم مدى دقّة هذا التصور في عكس الحقائق المعاصرة. إن علاقة الانتماءات الطائفية والمناطقية والطبقية بين النخب السورية معقّدة ومتغيرة باستمرار. والمحللون الذين حاولوا تصنيف التركيبة الطبقية في سوريا -وهي مهمة ضخمة باعتراف الجميع- لم يُظهروا كيف تتقاطع الانتماءات الطائفية والإقليمية مع الانتماءات الطبقية. لم يحلل أحد التركيبة الطائفية أو الإقليمية للبنية الطبقية في دمشق بالطريقة التي قام بها حنا بطاطو في عمله "فلاحو سوريا" على الرغم من أن هذه الانتماءات مهمّة لسكان دمشق أنفسهم ويتم التذرع بها دائماً في مناقشات السلطة أو الامتياز أو الفقر.

الفروق الاجتماعية من جميع الأنواع تظهر بشكل متزايد، على الرغم من - أو ربما بسبب - الجهود الرسمية لحزب البعث على مدى أربعين عاماً لمحوها. كان تفكيك الفروق الطبقية والإقليمية والدينية من الأمور المركزية في النسخة الاشتراكية من القومية العربية. وبحسب دستور الحزب: "الأمة العربية وحدة ثقافية وأي اختلافات قائمة بين أبنائها عرضية وغير مهمة وسوف تختفي مع يقظة الوعي العربي".

سعى مشروع البعث إلى خلق شعور بالأمة يربط تعدّد المجموعات العرقية والإقليمية والدينية واللغوية. فالأمة الحديثة في سوريا لها صدى تاريخي ضئيل. كان الكيان السابق أكبر - المقاطعة العثمانية لسوريا الكبرى - وأصغر - المدن والبلدات والقرى الفردية. قبل فترة الانتداب (1922-1946)، كان الانتماء إلى المدينة هو الغالب. عرّف السوريون أنفسهم على أنهم دمشقيون أو حلبيون ونادراً ما عرفوا أنفسهم على أنهم عثمانيون. حاولت عملية التأميم خلق مفاهيم وطنية - ما وراء الوحدة العربية - للترابط لتحلّ محل مفاهيم المحلية والدين والطبقة. هذا لا يعني أنّ سوريا أصبحت أكثر تجانساً أو مساواة خلال ذروة الاشتراكية القومية في الستينيات والسبعينيات، بل يعني أن التعبيرات العامة للهويات دون الوطنية كانت من المحرّمات. كان الملتزمون بالقومية العربية يؤمنون بسياساتها المتجانسة. تشهد التأكيدات الأخيرة لهوية النخبة المحلية من قبل قوميين سابقين بارزين، على فشل مشروع البعث الاشتراكي. كما أخبرتني شابة من مدينة حمص "لا أتذكر أن الناس كانوا يذكرون من أين أتوا، أو ما هي طائفتهم عندما كنت في المدرسة. الآن هذا كل ما تسمعه".



أدى التخفيف النسبي للقيود المفروضة على حرية التعبير خلال التسعينيات إلى فتح مساحة للتعبير العام عن الاختلاف، حيث أدى الزوال العالمي للأيديولوجية الاشتراكية إلى إضعاف مبادئها المتجانسة. بدأ نقاش حيوي حول الموضوعات المحظورة سابقاً في وسائل الإعلام وفنون الأداء وحولها. بعد فترة طويلة من الابتعاد عن الأنظار بشكل متعمّد، بدأت طبقة التجار الدمشقيين - أبناء وبنات النخبة الحضرية الحاكمة القديمة- في إعادة تأكيد نفسها. تعبّر النخبة الدمشقية عن هوية محلية دينية وثقافية وطبقية تتعارض منذ فترة طويلة مع سياسة حزب البعث والنظام الحالي، وهي تفعل ذلك بصوت عالٍ.

التحول الحضري
يتجلى النزوح السياسي للنخبة القديمة في المشهد الحضري المتغير. فقد شهدت دمشق نمواً سكانياً سريعاً طوال القرن العشرين، واشتمل معظم هذه الزيادة على حركة سكان الريف، العلويين وغيرهم، إلى المدينة. غالباً ما يؤرخ أنصار دمشق القديمة هذا التدفق للمهاجرين من الريف بفترة صعود حزب البعث والسيطرة العلوية، ومع ذلك، كانت العملية قد بدأت بالفعل خلال فترة الانتداب، عندما تضاعف عدد سكان المدينة. إذ سعى بعض المهاجرين للحصول على فرص اقتصادية في العاصمة بعد المجاعات التي تسببت فيها الحرب العالمية الأولى التي دمرت القاعدة الزراعية في سوريا. جاء البعض الآخر خلال الخمسينيات، عندما أدت الممارسات الزراعية الجديدة وفرص العمل الحضرية المتزايدة إلى جعل حياة الفلاحين غير محتملة بشكل متزايد. استبدلت التنمية الرأسمالية أنظمة الحيازة بالمكننة والعمل المأجور، وحولت الفلاحين إلى بروليتاريا ريفية وخلقت بطالة منتشرة. في الستينيات، أسفر صعود العسكر إلى السلطة عن جلب العديد من عائلات الفلاحين، غالباً من العلويين، إلى مساكن جديدة بخسة الثمن في ضواحي دمشق. يصف أحد المخبرين الدمشقيين تأثير هذا التدفق، كاشفاً عن حالة من الاغتراب يتشاركها الكثير ممن يتعاطفون مع النظام الاجتماعي القديم: الدمشقيون مستاؤون من كل الأشياء التي لا تنتمي إلى دمشق القديمة. يبلغ عدد سكان دمشق الآن ثلاثة ملايين نسمة، من بينهم ما لا يزيد عن نصف مليون من أصل دمشقي. البقية من الخارج. يسميهم الدمشقيون الغرباء، الأجانب. يعود الدمشقيون إلى عاداتهم القديمة لتمييز أنفسهم عن كل ما هو غير دمشقي.

إن هجرات الفلاحين على نطاق واسع إلى المدن، وما ينتج عنها من تغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة، هي ظواهر عالمية. لكن ما يجعل الحالة الدمشقية مميزة هو أن هؤلاء المهاجرين الريفيين يُنظر إليهم من قبل النخبة السياسية النازحة على أنهم اغتصبوا السيطرة على الدولة. عندما يشير الدمشقيون إلى هؤلاء "الغرباء"، فإنهم يفعلون ذلك غالباً بمصطلحات طائفية، ويربطون المهاجرين بالعلويين. ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن "علوي" هنا لا تشير إلى مجرد طائفة، بل مجموعة من الخصائص الطبقية والثقافية والإقليمية واللغوية الحقيقية والمتصورة. ففي البيئات غير المتجانسة، تكون الفروق الاجتماعية كتجربة معيشية فوضوية وأكثر تعقيداً مما قد يوحي به حتى مخطط التصنيف العلمي الاجتماعي الأكثر صرامة.

بعبارة أخرى، فإن الفروق الاجتماعية التي أستقصيها ليست تلك الخاصة بالدين بالمعنى الضيق، لكنها تتعلق بالمظاهر، والتوجه إلى العالم، والأذواق، والمواقف، والتصورات. هذه الفروق ليست فطرية أو ثابتة، بل يُعاد بناؤها باستمرار وفقاً للظروف المتغيرة- في بعض السياقات التاريخية  تم التأكيد عليها، وفي حالات أخرى تم التقليل من شأنها. على سبيل المثال، ظهرت التوترات الطائفية المتصاعدة في دمشق في القرن التاسع عشر، عندما أدت هيمنة التجار المسيحيين بين أولئك الذين استفادوا من التوغل الأوروبي في الأسواق المحلية إلى اندلاع موجة قصيرة ولكنها دراماتيكية من أعمال العنف ضد المسيحيين.

يأخذنا هذا الفهم للتمييز الاجتماعي إلى ما وراء ثنائية الطائفية مقابل الانتماءات الأخرى المنصوص عليها في الكثير من أدبيات العلوم السياسية. فهو يساعد في استكشاف تناقض الهيمنة العلوية على النظام السياسي السوري على الرغم من الإيديولوجية العلمانية المعلنة لحزب البعث. العلويون هم مجرد التجسيد الأقوى والأكثر وضوحًا لما يعتبره الدمشقيون "الآخر". وبالتالي فإن ما أشير إليه على أنه "تمايز اجتماعي" لا يمكن اختزاله بشكل صحيح في الطائفية. أزعم أن الإشارات الطائفية تعمل كتعبير محلي بدلاً من تصنيفات تحليلية. لا يكمن التحدي الذي يواجه المحلل في تجنب المفاهيم الخاطئة الواضحة المضمنة في فئات التمييز هذه، لكن بدلاً من ذلك وضعها في محاور تحليلية تساعدنا على فهم كيفية عمل التعابير المحلية.

(*) كريستا سالاماندرا:
أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك CUNY، مؤلفة أول كتاب عن ثقافة الاستهلاك في سورية: "دمشق القديمة والحديثة. الأصالة والتمايز في سورية المدينية"، 2004. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها