الثلاثاء 2024/03/12

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

تحيه كاريوكا... الممثلة التي نسي الجمهور أنها راقصة

الثلاثاء 2024/03/12
تحيه كاريوكا... الممثلة التي نسي الجمهور أنها راقصة
increase حجم الخط decrease
لعل تحية كاريوكا كانت أكثر الفنانات المصريات إثارة للجدل، وربما الدهشة أيضاً، فهذه السيدة التي لم تلق حظها من التعليم، يعتبرها إدوارد سعيد النموذج الذي يسترعي الانتباه ويدفعك للكتابة عنه. الراقصة التي تربت في مدرسة بديعة مصابني، أمضت في سجون عبد الناصر بحدود مئة يوم بسبب دورها السياسي، وهي المرأة التي صرّحت ذات يوم بأنها تزوجت 13 مرة لا تتذكّر منهم سوى سبعة أزواج، فإذا بي أحصيهم 17 زوجاً...

وهذه المرأة القوية، ابنة البلد الجدعة، خانها مظمم أزواجها ولم تعش حياة أسرية مستقرّة، ولذلك كله وغيره، قل ما شئت عنها. إختلف معها، إنعتها بما يتراءى لك من صفات، إعتبرها شخصية جدلية، جريئة، صِدامية أكثر مما ينبغي، تخلق لنفسها معارك هي في غنى عنها، أرفض آراءها في الفن والحياة، تعامل بحذر وتحفظ مع كلامها عن نفسها وعن صولاتها وجولاتها في دهاليز السياسة والعمل الاجتماعي. لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر الحقيقة المؤكدة، وهي أنّ تحية علامة مهمة في تاريخ الفن العربي المعاصر خلال ما يقرب من 65 عاماً امضتها في التمثيل والرقص الشرقي، ثمّ رحلت في صمت يوم 20 أيلول 1999 وهي التي لم تألف هذا الصمت في حياتها.


(من فيلم "شباب امرأة") 

كان توغو مزراحي أول مخرج يلتفت إلى ملاءمة وجه تحية لكاميرا السينما، فاستعان بها العام 1935 في فيلم "الدكتور فرحات" الذي قام ببطولته فوزي واحسان الجزايرلي، وأتبعه بفيلم آخر في العام التالي هو "غفير الدرك" من بطولة علي الكسار، ومن هذا الفيلم إلى "وراء الستار" سنة 1937 مع المخرج كمال سليم. وهكذا أصبحت تحية راقصة سينمائية مألوفة للمشاهد حتى أنها شاركت قبل سنة 1942 في سبعة أفلام معظمها من إخراج توغو مزراحي الذي كان غزير الإنتاج في تلك المرحلة. لكن أشد ما كان يقلق تحيّة، أنها مجرد راقصة، مع أنها ترى في نفسها موهبة لا تقلّ عن غيرها من نجمات السينما، لا سيما بعدما نجحت في أداء دورها الصغير الذي أسنده لها توغو مزراحي أيضا في فيلم "ليلى بنت الريف" سنة 1941.

ومن هنا قررت أن تنزل إلى ميدان الإنتاج كي تصبح ممثلة معترفاً بها، خصوصاً أنها كانت قد حققت شهرة واسعة في عالم الرقص بعدما تحوّل اسمها من تحية كريم إلى "تحية كاريوكا" على أثر نجاحها اللافت في أداء رقصة الكاريوكا الشهيرة الآتية من أميركا الجنوبية. ولم تكن تحية قد جمعت ثروة تؤهلها دخول عالم الإنتاج بمفردها، فكوّنت مع كل من الممثل حسين صدقي والمخرج حسين فوزي شركة أطلقوا عليها "أفلام الشباب"، وتنازلوا جميعاً عن أجورهم من أجل إنتاج فيلم "أحب الغلط" سنة 1942، أول بطولة سينمائية في مشوار تحية. ورغم توالي الأفلام بعد نجاحها في هذا الفيلم، إلا أنها كانت بحاجة إلى نجاح زاعق يثبت مكانتها السينمائية، وهو ما حققه لها العام 1944 فيلم "طاقية الإخفاء" للمخرج نيازي مصطفى.

   
(فيلم "حب وجنون")

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وارتفاع حظوظ الكوميديا الموسيقية على يد كل من المخرجين حسين فوزي وعباس كامل وأحمد بدرخان وحلمي رفلة، استطاعت كاريوكا أن تجد لنفسها مكاناً فى التوليفة التجارية الناجحة، شأنها في ذلك شأن منافستيها سامية جمال ونعيمة عاكف. غير أن تحية تميزت عن الاثنتين بأنها لم توقف تعاونها على شخص بعينه، فبينما كانت سامية حاضرة مع فريد الأطرش في أفلامه أكثر من غيره، وبينما قصرت نعيمة تعاونها على زوجها المخرج حسين فوزي، انفتحت تحية على الجميع من أبطال ومنتجين ومخرجين، وهذا يفسر غزارة أفلامها في تلك الفترة وظهورها شبه الدائم في أفلام المطربين محمد فوزي وإبراهيم حموده، وعبد العزيز محمود، وشكوكو، والكحلاوي، ومحمد أمين، وكارم محمود، وأيضاً فريد الاطرش، بالإضافة إلى تعاونها مع معظم نجوم الكوميديا بداية من نجيب الريحاني في "لعبة الست" للمخرج ولي الدين سامح سنة 1946، ثم إسماعيل ياسين نجم الخمسينيات الأشهر كما في أفلام: "عقبال البكاري، البطل، محسوب العيلة، حماتي قنبلة ذرية، صاحبة العصمة، والست نواعم".

  
(مع بديعة مصابني)

وما زاد من قدرة كاريوكا على الانتشار السينمائي عدم تعاملها بحساسية مع ما اصطلح على تسميته بـ"البطولة المطلقة"، إذ لم تمانع القيام بالأدوار المساعدة الجيدة في الوقت ذاته الذي كانت فيه بطولاتها المطلقة تحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً. هكذا فعلت مع ليلى مراد في "شاطئ الغرام" سنة 1950، وفاتن حمامة في "ابن الحلال" سنة 1951، ومريم فخر الدين في "ليلة غرام" في العام نفسه، وصباح في "خدعني ابي" العام 1951 أيضاً، وهدى سلطان في "حميدو" سنة 1953، وماجدة في "شاطئ الأسرار" سنة 1958.

لكن يبقى السؤال المهم: إذا كانت تحية قد دخلت الى عالم السينما من باب الرقص الشرقي، فلماذا استمرت على الشاشة نحو ستين عاماً، فيما لم تكمل راقصات كثيرات غيرها في عالم السينما؟ رغم أن بعضهن كن أكثر مهارة وجمالاً من كاريوكاً، بل وأكثر شهرة أيضاً في مرحلة بدايتها، كحال أستاذتها بديعة مصابني التي تزامن ظهورها السينمائي معها حين أنتجت بديعة ومثلت العام 1935 فيلم "ملكة المسارح"، وأيضاً الراقصة نبوية مصطفى التي ظهرت في العام نفسه في فيلمي "بواب العمارة" و"معروف البدوي"..

أولاً: كانت تحية في بداياتها السينمائية، دون العشرين من عمرها، بينما كانت غالبية الراقصات المشهورات وقتئذ أكبر منها بكثير. بل أن راقصة مثل "بمبه كشر"، أول راقصة ظهرت على شاشة السينما في فيلمي "ليلى" و"بنت النيل" في العامين 1927 و1929، توقفت تماماً بعد هذين الفيلمين ثم ما لبثت أن رحلت عن الدنيا. أما بديعة، فكانت في حدود الأربعين، وكذلك نبوية ومعظم الأخريات. وهذا معناه أن تحية كان لديها النفَس الطويل والوقت المتسع لتحدث التراكم الذي يؤكد وجودها، خلافاً لكل راقصات زمانها -ما عدا سامية جمال ونعيمة عاكف طبعاً- واللتين كانت تجاربهما في السينما مبتورة وغير مكتملة.

ثانياً: لم تثقل كاريوكا نفسها في تلك الفترة بأمور فرعية تنال من تركيزها السينمائي. فلم تهتم بأن تكون صاحبة فرقة كبديعة مصابني أو ماري منصور. ولم تقحم نفسها- حتى ذلك الوقت- في دهاليز السياسة مثل حكمت فهمي. ولم تدخل في صراعات غير أخلاقية مع منافساتها كما حدث بين بيا عز الدين وبديعة مصابني. صحيح أن تحية دخلت في أكثر من تجربة زوجية فاشلة، من بينها زواجها من الأميركي جيلبرت ليفي الذي أخذها معه إلى أميركا وحال ذلك دون تقديمها لأي فيلم سنة 1947، لكن حتى هذه الزيجة كان هدف تحية منها الوصول الى هوليوود والعمل هناك. كما أنها كانت حتى العام 1946، قد قدمت 22 فيلماً كانت كفيلة بثبات صورتها في أذهان المشاهدين، حتى أنها حين عادت في العام التالي إلى مصر، عوّضت غيابها بستة أفلام دفعة واحدة، ثم 28 فيلماً في الأعوام الأربعة اللاحقة على توقفها الاضطراري. وهو عدد يزيد بـ12 فيلماً عن مجموع ما قدمته خلال السنوات الـ12 التي سبقت زواجها وسفرها الى اميركا.

وهناك توقف استثنائي آخر في سنوات توهج ونشاط تحية، كان سببه أيضاً زيجة أخرى، طرفها الثاني هذه المرة هو مصطفى كمال صدقي، قائد الحرس الحديدي قبل ثورة يوليو، والذي دخلت معه السجن حينما اتُّهم الثنائي مع آخرين بتكوين تنظيم سري لقلب نظام الحكم في فترة الاضطراب السياسي التي عاشتها مصر سنة 1954. لكنها عند دخولها السجن، كانت تحية صاحبة 62 فيلماً وعلامات مميزة مثل: "لعبة الست" مع نجيب الريحاني، "مأ اقدرش" مع فريد الأطرش، و"غرام راقصة وحب وجنون" مع محمد فوزي، "حماتي قنبلة ذرية" مع إسماعيل ياسين، ثم أنها حينما خرجت من السجن واستعادت حريتها ونشاطها الفني قدمت فى العامين اللاحقين ثمانية أفلام من بينها رائعتاها "شباب امرأة" إخراج صلاح أبو سيف و"سمارة" إخراج حسن الصيفي، والفيلمان إنتاج سنة 1956. وهذا معناه أنها استعادت سريعاً ما يمكن أن تكون قد فقدته وهي بين جدران السجن.

ثالثاً: حافظت تحية على سمعتها الطيبة لدى الجمهور العام. فهي في حدود علمي لم ترتبط بالعمل في ملاه ليلية بعينيها، مثل حورية محمد وحكمت فهمي وبيا عز الدين، وإنما انصب معظم رقصها في الحفلات او الرحلات الداخلية والخارجية. كما أنها لم تسع مثلاً للحصول على لقب راقصة الأمراء أو راقصة السرايا، مثل ثريا سالم. حتى علاقتها الملتبسة مع الملك فاروق، كان فيها من الندية ما يدعو للدهشة، وهذا كله ساعدها على قبول أبناء الطبقة المتوسطة والشعبية لها كممثلة يمكن أن تحاكي إحدى بناتهم أو جيرانهم، وهي ميزة لم تتمتع بها على هذا القدر بين الراقصات على مدى تاريخ السينما المصرية كله، سوى سامية جمال ونعيمة عاكف.

رابعاً: كانت تحية قبل ذلك كله تتمتع بموهبة فطرية في التمثيل، جعلتها أفضل راقصة ممثلة. موهبة ساعدتها في التفوق على مثيلاتها اللواتي لم يستطعن مواصلة المشوار في السينما، بينما بقيت تحية، حتى بعدما توقفت عن الرقص.

خامساً: كانت تحية من الذكاء بحيث تواكب التطوّر الذي طرأ على الذوق العام من الكوميديات الموسيقية الشعبية التي سادت طوال الأربعينيات وحتى بدايات الخمسينيات، بل كانت إحدى فارساتها، في الدراما الاجتماعية في الخمسينيات، والكوميديا الأسرية في الستينيات التي استفادت من تطوّرها العمري في تلك الفترة لتحفظ لنفسها مكاناً على النحو الذي شاهدناه في فيلم "أم العروسة" سنة 1964.

    
  (فيلم "طاقية الاخفاء")

وإذا كانت كاريوكا تدين بظهورها في الشاشة لتوغو مزارحي، واذا كان حلمي رفلة هو أكثر المخرجين استعانة بها في أفلامه (14 فيلماً)، فإن علاماتها البارزة وكلاسيكياتها الباقية تحمل توقيع مخرجين آخرين: صلاح ابو سيف "شباب امرأة، الفتوة" عاطف سالم، "احنا التلامذة، أم العروسة، خان الخليلي"، بالاضافة إلى ولي الدين سامح "لعبة الست"، واندرو  مارتون "وا إسلاماه"، وحسن الصيفي "سمارة". واللافت في هذه الأفلام المهمة، أنها لم تكن في جميعها (ربما باستثناء "لعبة الست") الراقصة الممثلة، وإنما كانت ممثلة فحسب. جردت نفسها من ميزتها التي تنفرد بها عن غيرها من الممثلات، وراحت تعتمد فقط على قدراتها التمثيلية. ولولا أنها تمتعت بمثل هذه المقدرات، لما تقبلها الجمهور الذي تعود أن تمتعه برقصاتها، حتى نجحت في عدم لفت انتباه المشاهد إلى أنها اعتزلت الرقص، لدرجة أنه ليس معلوماً على وجه الدقة متى اعتزلت كاريوكا الرقص العام لأن مشاهدي السينما تناسوا مع تكرار أفلامها وبراعتها كممثلة، أنها في الأصل راقصة جاءت إلى السينما من هذا الباب. وربما كانت هذه الميزة هي التي ساعدتها علي تحدي الزمن- فنياً- وهي تتحول من أدوار الفتاة الشابة إلى المرأة الناضجة، فألام المستوعبة لكل ما يدور حولها، بداية من دورها الخالد في فيلم "أم العروسة".

واللافت أن تحية في كل أدوارها لم تتخل عن قوة شخصيتها في الشاشة، لم تكن تحب دور المرأة الضعيفة ولذلك كانت دائماً صاحبة المبادرة، وذات تأثير واضح في الأحداث. هذه القوة في الشخصية لم تمنعها في مرحلة الشباب من إظهار فتنتها وأنوثتها، وهذا واضح في "شباب امرأة" و"سمارة" و"المعلمة" على سبيل المثال. وحينما رسمت الأيام تجاعيدها على الوجه الصبوح، حلّت حكمة الزمن محل الفتنة والأنوثة، كما في "خلي بالك من زوزو" أو "آه يا بلد آه" لكنها في الحالتين المرأة القوية ذات النبرة العصبية العالية.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها