الإثنين 2023/12/11

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

عن أشهر عملية اغتيال إسرائيلية بمصر...جريمة في الحي الهادي

الإثنين 2023/12/11
increase حجم الخط decrease
ليس هناك وصف لما تمارسه إسرائيل حالياً تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، سوى أنه أحد أشكال الإرهاب، وهو نهج وأسلوب أعتاد عليه قادتها حتى من قبل قيام الدولة العبرية. والفارق بين ما كان يقوم به الإسرائيليون قبل قيام دولتهم، وبين ما يقومون به الآن، هو أن الأول كان إرهاب أفراد أو عصابات، فيما يمكن تسمية ما يحدث اليوم بإرهاب الدولة، وشواهد التاريخ تدلّ على ذلك بوضوح. واحدة من صفحات هذا التاريخ يتصدرها اسم اللورد موين، أحد رموز السياسة الخارجية البريطانية في أربعينيات القرن الماضي. فماذا في التفاصيل؟ وكيف نقلتها السينما المصرية من خلال فيلم مهم في محتواه وفي سياقه الزمني؟   
 
قبل أربع سنوات من قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وأيضاً قبل نحو عشر سنوات من تأسيس أول جهاز مخابرات في مصر على يد الضابط زكريا محيي الدين، احد أعضاء مجلس قيادة ثورة تموز/ يوليو 1952، وبالتحديد في 6 تشرين الثاني العام 1944 اخترقت بضع رصاصات حاجز الصمت الذي كان يخيم على شارع حسن صبري في منطقة الزمالك الراقية في القاهرة، لتستقر في صدر اللورد والتر موين، الوزير البريطاني المقيم في منطقة الشرق الأوسط والمسؤول عن ملف فلسطين، فأردته قتيلاً في واحدة من أشهر جرائم الاغتيال السياسي التي عرفتها مصر في أربعينيات القرن الماضي، وكان من أبرز ضحاياها رئيسا وزراء مصر أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، والقاضي الخازندار، ومرشد جماعة الأخوان المسلمين حسن البنا.


فجأة تحول الحي الهادئ إلى ساحة للمطاردات بين العدد القليل من المارة الذين صودف وجودهم، وبين شابين في العشرينيات من العمر يستقلان دراجتين بخاريتين وهما في هيئة عمال إصلاح أعطال التلفونات. كان الشابان مدرّبَين وماهرَين، وقدرتهما على المراوغة والنفاذ من الطرق الضيقة تعوق تلك المطاردات وإلقاء القبض عليهما. لكن رجلاً مصرياً شجاعاً تكفل وحده بهذه المهمة، هذا الرجل هو الكونوستابل الأمين عبد الله، من رجال شرطة العاصمة الذي امتدّ به العمر حتى بدايات القرن الجديد. استطاع هذا الجندي الذي كان يقوم بدوريته المعتادة في مراقبة أحوال الشارع، أن يطارد الشابين على دراجته البخارية، وأن يضيق الخناق على الأول فوق كوبري أبو العلا القديم الذى تمت إزالته قبل ربع قرن تقريباً، حتى سلمه إلى جندي المرور المتواجد في المنطقة، وتفرغ لملاحقة الآخر، إلى أن تمكن من توقيفه داخل إحدى الحدائق. لم يكن أحد، حتى تلك اللحظة التي اقتاد فيها الأمين عبد الله صيده الثمين إلى نقطة الشرطة، يعرف حقيقة الشابين ودوافعهما وراء هذه الجريمة التي هزت مصر وأساءت إلى العلاقات المصرية البريطانية أكثر مما كانت عليه فى تلك السنوات.

لكن سرعان ما بدأت الأمور تتكشف مع تحقيقات الشرطة. فهذان الشابان هما اليهوديان إلياهو حكيم وإلياهو بيت زوري، عضوا منظمة "ارغون" أحد فروع "شتيرن" الإرهابية والتي كان من بين أعضائها في ذلك الوقت كل من مناحيم بيغن وإسحاق شامير اللذين توليا لاحقاً منصب رئاسة الوزراء في إسرائيل، وهي المنظمة المنبثقة عن عصابات الهاغانا التي كانت أحد أهم أسباب قيام دولة إسرائيل في فلسطين العام 1948. وكان الهدف من وراء اغتيال اللورد موين في القاهرة، إلى جانب إحراج الحكومة المصرية، هو التخلّص من أحد أهم معارضي إنشاء الدولة الإسرائيلية في فلسطين، وكذلك إرهاب كل من يفكر في التعاطف مع شعب فلسطين في صراعه مع هذا الكيان الذي بدأ يتكوّن.

 وبعد مرور 33 عاماً كانت كافية لنسيان القصة وأبطالها، قررت مؤسسة السينما في مصر إعادة تذكير الجيل الجديد بما حدث، بتحويل وقائع هذه الحادثة إلى عمل سينمائي صاغ له القصة اللواء عبد المنصف محمود، وكتب له السيتاريو والحوار السيد زيادة وحسن رمزي، وتولى إخراجه حسام الدين مصطفى. هذا الفيلم هو "جريمة في الحي الهادي"، بطولة رشدي أباظة ونادية لطفي وزوزو نبيل، فيما قام بدوري إلياهو حكيم وإلياهو بيت زوري، الممثلان زين العشماوي ورشوان توفيق، وكانا في بدايات مشوارهما الفني، وعُرض الفيلم للمرة الأولى في سينما ديانا وسط القاهرة، في 25 أيلول 1967، بعد اقل من أربعة أشهر على هزيمة حزيران، في رسالة ذات مغزى – أظنّها كانت مقصودة - بأن مصر ماضية في مقاومة روح الهزيمة وإزالة آثار العدوان بشتى السبل وعلى كافة المستويات.

وجاء في تقديم الفيلم ضمن الكتيب الدعائي له: "في أواخر الحرب العالمية الثانية، كانت العصابات اليهودية في كل أنحاء العالم تحاول أن تفرض للصهيونية وجوداً في قلب الوطن العربي الكبير وتمهد لذلك بشتى الطرق الدنيئة غير المشروعة ولو وصل الأمر إلى القتل، ووضعت عصابة شتيرن تخطيطاً محكماً لاغتيال لورد موين الوزير البريطاني المقيم في القاهرة الذي لا يعجبه من بلاده أن تمالئ حفنة من اليهود على حساب صداقة ملايين العرب، وكانت العصابة ترمي من وراء ذلك إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول إسكات ذلك الصوت الحر إلى الأبد، والثاني إلقاء تبعة اغتياله على مصر لتظهر أمام العالم بمظهر البلد الفوضوي الهمجي الذي تسفك فيه دماء الأجانب".

ثم يمضي الكتيب الدعائي قائلاً: "وجاء دور المباحث في كشف معميات هذه الجريمة الكبرى، وتولى الضابط اللامع أحمد عزت، مهمة الكشف عن التنظيم الذي يقف وراء القاتلين، وقبل أن يتوصل إلى ذلك، اكتشف فرع العصابة في مصر أمره، فلجأت إلى أدنى وسائل الانتقام واختطفت ابنته الوحيدة كرهينة، وخيّرته بين أن يهرب الشابين خارج مصر أو تقتل ابنته، وحددت له موعداً وبذلك أصبح الرجل في أسوأ موقف يقفه ضابط مسؤول. هذا ما يفسره على الشاشة فيلم جريمة في الحي الهادي".

وأذكر أنني في العام 1995، كنت في معية أحد الوفود الفنية المصرية في العراق، وكان من بين أعضاء الوفد كل من نادية لطفي وكرم مطاوع وزوجته سهير المرشدي، وهناك في إحدى الأمسيات البغدادية تحلقنا حول مائدة الفنانة نادية لطفي، وعلى سبيل التسامر سأل كرم مطاوع الحاضرين عن اسم الفيلم الذي جمع بين كل نادية لطفي وسهير المرشدي، فأجبته على الفور: "جريمة في الحي الهادي" وهنا انسابت ذكريات نادية لطفي كالحرير لتقول: "كانت تجربة مهمة رغم الأيام الصعبة التي كنا نعيشها في أعقاب هزيمة 1967، وأذكر أن الدكتور عبد القادر حاتم، مسؤول الثقافة والإعلام في ذلك الوقت، نقل لنا كأسرة الفيلم تكليف الرئيس عبد الناصر شخصياً بضرورة إنجاز الفيلم في أسرع وقت حتى تصل الرسالة سريعاً إلى الصهاينة بأننا ماضون في مواجهتهم على كل الأصعدة، وقد تنازلنا عن جزء كبير من أجورنا تقديراً للهدف الكامن وراء الفيلم". فيما أشارت سهير المرشدي إلى أنها أدّت دورها ودرجة حرارتها فوق الأربعين، وأن مخرج الفيلم حسام الدين مصطفى رفض منحها أجازة لأيام على الرغم مما عرف عنه من وسوسة وخوف من العدوى، "لكن الجميع كانوا حريصين على الانتهاء من الفيلم في أسرع وقت تنفيذاً للتكليف الرئاسي وإيماناً بالرسالة التي يود أن يلقيها في وجه الإرهابيين الصهاينة". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها