الإثنين 2024/01/01

آخر تحديث: 11:33 (بيروت)

هذا هو الفيلم الذي كان غطاءً لعملية "الحفار"

الإثنين 2024/01/01
increase حجم الخط decrease
    لماذا يتعامل بعضهم مع الكلام الشائع وينزلونه منزلة الحقيقة؟ أحياناً يكون ذلك عن جهل أو عدم إحاطة أو هو نوع من الاستسهال، وأحياناً أخرى يكون عن عمدٍ بهدف تمييع الحقيقة وضياع معالمها، ومع التراكم والنقل الببغائي في زمن الإنترنت يكتسي الشائع ثوب الحقيقة، بينما تصبح الحقيقة الأصيلة استثناء وينظر إليها الآخرون على أنها الخطأ بعينه...


واحد من هذه الملفات الذي تاهت بعض حقائقه وسط ركام ما شاع واستشرى هو ما يخص عملية تدمير الحفار الذي كانت تنوى إسرائيل التنقيب به عن البترول في شبه جزيرة سيناء وقت احتلالها بعد حرب حزيران، وهي العملية التي نفذها رجال الضفادع البشرية المصرية في آذار/ مارس 1970 قبالة ساحل العاصمة الإفوارية أبيدجان، وأعني هنا ما يخص الفيلم السينمائي الذي ذكره الكاتب صالح مرسي في رواية "الحفار" التي نشرتها مجلة "المصور" القاهرية أولا في الثمانينيات، قبل أن تحوّل إلى مسلسل تلفزيوني في منتصف التسعينيات، ومن بين أحداثها قيام بعثة سينمائية مصرية بالسفر إلى نيجيريا لتصوير فيلم هناك كغطاء لعملية الحفار إذا ما اضطرت المخابرات المصرية لضربه على الساحل النيجيري الغربي في حال أفلت من اصطياده في داكار بالسنغال أو أبيدجان في ساحل العاج (كوت ديفوار حاليا) ومنذ نشر الرواية ثم عرض الحلقات التلفزيونية، بحث الباحثون عن فيلم مصري صُوّر في أفريقيا في تلك الفترة فلم يجدوا سوى فيلم "عماشة في الأدغال" الذي قام ببطولته محمد رضا وفؤاد المهندس وصفاء أبو السعود ومن إخراج محمد سالم، وراق لهؤلاء ذلك الاكتشاف الرهيب، واعتبروا أن الممثلة التي أطلق عليها صالح مرسي اسم "دلال شوقي" هي صفاء أبو السعود، وآخر من ردّد تلك المعلومة إعلامي ينتمي إلى جماعة الأخوان المسلمين هو محمد ناصر له قناة على يوتيوب ينصب نفسه دائما محتكرا للحقيقة وعالما ببواطن الأمور، فضلاً عن آخرين غيره على تيك توك ويوتيوب، بل وصحافيون مصريون معروفون سايروا هذا الخطأ الشائع ودونوه في كتب لهم، مع أنني ومنذ عرض المسلسل التلفزيوني أكدت بالأدلة أن الفيلم المقصود – إن كان هناك من الأصل فيلم – ليس هو "عماشة في الأدغال" فعماشة صُوّر في أحراج أوغندا وكينيا شرق أفريقيا فيما الكلام بشأن الفيلم المخابراتي أنه صُوّر في نيجيريا غرب أفريقيا، فضلا عن أن البطولة في فيلم المخرج محمد سالم كانت لرجلين هما محمد رضا وفؤاد المهندس بينما البطولة في الفيلم المقصود لممثلة اسمها المستعار "دلال شوقي"، الأهم من ذلك أن "عماشة في الأدغال" صُوّر في بداية العام 1972 ثمّ عرض في سينما ديانا القاهرية في 6 تشرين الثاني من العام نفسه بعد أكثر من عامين على تدمير الحفار في العاصمة الإيفوارية، فكيف يكون عماشة هو المقصود؟ ولماذا الإصرار الغريب على اعتباره الفيلم الذي اتخذته المخابرات المصرية غطاء لتلك العملية؟

الأمر اللافت أنني حضرت قبل عامين ندوة في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط أقيمت بمناسبة الاحتفال بمئوية ميلاد الفنان محمد رضا بحضور نجله، الذي قال إن والده لعب دوراً وطنياً في عملية تدمير الحفار الإسرائيلي حينما شارك في بطولة فيلم "عماشة في الأدغال"، ولما سألته سؤالاً مباشراً: هل قال لكم والدكم هذا الكلام صراحة؟ أجاب: لا، لكنها معلومة نشرتها وسائل الإعلام على مدى سنوات، فلما صححت له بالأدلة ما ظلّ شائعاً، أقر لي بالحقيقة، الغريب أن القليلين الذين نقلوا عني بعد ذلك لم يلتزموا بدقة المعلومات وراحوا يضيفون من عندياتهم أشياء ساهمت هي الأخرى في تمييع الحقيقة.

     فما هو ذلك الفيلم إذن؟ ومن الممثلة دلال شوقي التي أشار إليها صالح مرسي التي قامت لبلبة بأداء دورها في المسلسل التلفزيوني؟
      أذكر أنني اتصلت بصالح مرسي وقت عرض المسلسل لأسأله عن الفيلم وعن بطلته دلال شوقي، ودار بيننا هذا الحوار:
هل تركت لخيالك العنان فى كتابة "الحفار"؟
     خيال الكاتب ضروري في بناء أي عمل درامي، لكنني أؤكد لك أن شخصيات الحفار شخصيات حقيقية بمن فيها شخصية الممثلة دلال شوقي.
     فما مساحة الحقيقة والخيال فيما يخص هذا الفيلم وتلك الشخصية بالذات؟
     ماذا تريد مني بالضبط؟ هكذا باغتني صالح مرسي، فقلت: أريد أن أعرف منك من هي دلال شوقي وما هو ذلك الفيلم؟
     لا طبعا لن أخبرك بشيء وسوف أضللك ما استطعت
     لماذا يا أستاذ صالح؟
     هكذا.. أنت سألتني، وأنا لن أجيب.
     هل هناك مشكلات من أي نوع لأي شخص إذا حاولت أنا البحث عن الحقيقة؟
     لا على الإطلاق، لكنني أنصحك بأن توفر مجهودك لأنك لن تصل إلى شيء، وإذا نجحت سوف أعطيك مئة جنيه.

     انتهت هذه المقارعة أو المساجلة الكلامية المعتادة بيني وبين أستاذي صالح مرسي التي نشرتها كاملة – في حينه – على صفحات مجلة "الكواكب"، وقبلت التحدّي، وأخذت أبحث عن ذلك الفيلم المقصود مستبعداً تماماً أن يكون "عماشة في الأدغال"، وقلت لنفسي إن فيلما يراد به أن يكون غطاء لعملية مخابراتية لا بدّ أن تتحدّث عنه الصحافة الفنّيّة حتى ولو بخبر صغير، وبعد مسح شامل لكل الصفحات الفنية في الصحف المصرية في الفترة ما بين إعلان إسرائيل عن التنقيب عن البترول بسيناء في تشرين الثاني 1969 وحتى تدمير الحفار في الثامن من آذار 1970 عثرت على خبر قصير على صفحات مجلة الكواكب منشور في بداية آذار 1970 زمن عملية الحفار يقول: نبيلة عبيد سافرت مع حلمي رفلة إلى نيجيريا للقيام ببطولة أول فيلم نيجيري، وسوف تعود ليلة العيد، وكان المقصود هنا عيد الأضحى الذي صادفت بدايته الثامن من الشهر نفسه، وبعد الإمساك بهذا الخيط تأكد لي أن الفيلم المقصود عنوانه "ابن أفريقيا" من بطولة مديحة كامل ونوال أبو الفتوح مع نبيلة عبيد ومجموعة ممثلين نيجيريين، وهو ليس فيلما مصرياً رسمياً ولا ذكر له في لوائح الأفلام المصرية، ولا في لوائح أفلام بطلاته ومخرجه، ولم يعرض في مصر، وهو ما أكدته نبيلة عبيد على صفحات "الكواكب" في الأسبوع التالي على نشر التحقيق حول الفيلم نافية أي معرفة لها بخلفيات عملية الحفار، ومؤكدة أنها سافرت إلى غرب أفريقيا للقيام ببطولة فيلم أتفق معها عليه المخرج حلمي رفلة أثناء وجودها في لبنان، وشارك معها إلى جانب مديحة كامل ونوال أبو الفتوح الممثل المصري سيد المغربي الذي كان يقيم في بيروت بالإضافة إلى مجموعة من ممثلي نيجيريا ومذيع تلفزيوني محلي كان مشهوراً هناك، مشيرة إلى أنها تتذكّر مواقف كثيرة تتعلق بتلك الرحلة منها مثلا أنها أصرّت على اصطحاب كلبها معها من بيروت إلى نيجيريا رغم اعتراض شركة الطيران على وجود الكلب معها على متن الطائرة، وأنها تحتفظ بنسخة من "ابن أفريقيا" بشقتها في لندن.

     اللافت أنني عندما حادثت الكاتب صالح مرسي بعد نشر هذا التحقيق شكرني على اجتهادي، رافضاً أن يمنحني اعترافاً صريحاً بصحة ما وصلت إليه، ثم رحل عن الدنيا وفي رقبته دين لي...، ومهما كانت مساحة الحقيقة والخيال في كل ما ذهب إليه مرسي مستفيداً من واقعة حقيقية هي وجود بعثة مصرية سينمائية في نيجيريا وقت وقوع عملية تدمير الحفار، فإن الحقيقة المؤكدة هي أن الفيلم المقصود ليس هو "عماشة في الأدغال" وهذا للتأكيد من جديد كي يكف مدّعو العلم ببواطن الأمور عن ترديد هذا الكلام المغلوط.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها