الثلاثاء 2023/12/26

آخر تحديث: 08:49 (بيروت)

الحقيقة والخيال في علاقة فريد الأطرش وجمال عبد الناصر

الثلاثاء 2023/12/26
increase حجم الخط decrease
     غصّ تاريخ الحياة الفنّية في العالم العربي بالكثير من المغالطات، بعضها بفعل ذوي المصالح والأهواء، والبعض الآخر بفعل غياب التوثيق الدقيق وابتعادنا زمنياً عن الوقائع والملابسات، وربما كانت علاقة الرئيس جمال عبد الناصر بكل من عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش مثالاً صارخاً على ذلك الزيف الذي لحق بهذا الملف المثير...

فقد ظلّ الاعتقاد سائداً بين العامّة بأن العندليب الأسمر كان صاحب الحظوة الأولى عند عبد الناصر الذي كان يميّزه على فريد الأطرش، أما أم كلثوم فكانت في منطقة أخرى عند الرجل الأول، بعيداً عن هذا الصراع الخفيّ بين فريد وحليم على محبّة عبد الناصر، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً، بحسب ما أعلنها واحد من أقرب المقرّبين من عبد الحليم نفسه، وهو الإعلامي الراحل وجدي الحكيم الذي قال بأن العندليب هو الذي كان يروّج لمسألة قربه من عبد الناصر، وأنّ آلة الدعاية الحليمية بالغت في هذا الأمر فيما كان عبد الناصر ميالاً لفريد وعاشقاَ لفنّه، وأن أولاد الزعيم الراحل، هم الذين كانوا يفضّلون صداقة عبد الحليم ربّما بحكم تقاربهم في العمر وتجاوبهم مع تودّد العندليب لهم، ويوم أن قال وجدي الحكيم ذلك في بداية التسعينيات تقريباً، شنّ المحامي مجدي العمروسي، صديق عبد الحليم المقرّب، هجوماً مضاداً استعمل فيه كل أسلحته الدعائية – ربما لأسباب تجارية تتعلّق بشركة صوت الفنّ المالكة لحقوق أغنيات حليم وأفلامه - من أجل التأكيد على مكانته عند مؤسسة الرئاسة في وقت حكم عبد الناصر، ومنذ ذلك الحين، وبسبب رحيل كل أبطال المشهد تباعاً، أصاب هذا الملف كثير من الافتئات واللغط وافتعال الخيال لا سيما في ما يخص تحديداً علاقة فريد الأطرش بالرئيس الراحل، ولعلها فرصة سانحة كي نميط اللثام بشيء من التوثيق عما خفي في تلك العلاقة الخاصة بين الرجلين. 
     (فريد وحليم)
     كان فريد الأطرش أول مطرب يقدّم نشيداً وطنيا وليس أغنية، يثمن فيه نجاح ثورة الضباط الأحرار حين بثت الإذاعة المصرية مساء 27 أيلول 1952 "نشيد الشباب" تلحين وغناء فريد الأطرش ومن نظم بيرم التونسي ومأمون الشناوي، حتى وإن كان عبد الحليم وغيره قد سبقوه في تقديم الأغنيات الوطنية التقليدية التي مجّدت قادة الثورة، غير أن فريد فطن إلى هذا الأمر وقدّم في مساء 24 من أيار 1958 أول أغنية لعبد الناصر تحت عنوان "حيوا البطل" بمناسبة عودة عبد الناصر من أول رحلاته للاتحاد السوفييتي، لكن جذور العلاقة المباشرة بين الرجلين كانت قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات، يوم أن ذهب فريد إلى مقر مجلس الوزراء في 12 شباط 1955 (كان منصب رئيس الجمهورية شاغرا فيما كان عبد الناصر رئيساً للوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة) والتقاه مقدماً له تبرعا قدره 200 جنيه من أجل منكوبي السيول في محافظة قنا في صعيد مصر وتقديم الشكر له على حضوره العرض الخاص لفيلم "عهد الهوى" قبل ذلك اليوم بخمسة أيام، وفي هذا الصدد هناك رواية شائعة بأن فريد كان في ذلك الوقت يمرّ بأزمة صحيّة على أثر النهاية المأسوية لعلاقته بالملكة ناريمان، طليقة الملك فاروق، ولم يستطع حضور العرض الخاص لفيلمه الجديد، فأبرق إلى عبد الناصر متمنياً عليه حضور عرض الفيلم واستقبال جماهير فريد نيابة عنه، وهو ما فعله عبد الناصر، وبصرف النظر عن دوافع الرجل الذي حضر في تلك السنة أكثر من عرض خاص مثلما حدث مع فيلمي "اسماعيل ياسين في الجيش" و"الله معنا"، إلا أنّ فريد ارتأى أنه من اللائق الذهاب إلى مقر مجلس الوزراء وتقديم الشكر للرئيس، ولم يكن هذا هو اللقاء الوحيد الذي جمعهما، فقد كرّر فريد زيارته إلى مكتب عبد الناصر في 13 تشرين الأول 1955 وقدم له مئتي جنيه أخرى مساهمة منه في حملة تسليح الجيش المصري، ومنذ ذلك الحين توطدت علاقة الرجلين حتى رغم سعى عبد الحليم الاستئثار بمحبّة عبد الناصر الذي أصبح منذ العام 1956 رئيساً رسمياً لمصر.
     (فريد بالزي العسكري)
     

     استمر فريد يقدّم الأغنيات الوطنية التي كانت بعضها تذكر صراحة اسم جمال حتى ترك مصر إلى لبنان، قبل أشهر من وقوع هزيمة حزيران 1967، وبعد نحو اثنين وثلاثين شهرا عاد فريد فجأة إلى مصر في 29 كانون الثاني 1970 ليغني أغنيته الشهيرة "سنة وسنتين"، وكذلك قصيدة "لست وحدك" التي تغنت بها فايزة أحمد من ألحانه وأذيعت في 9 آذار 1970 من نظم الشاعر اللبناني عبد الجليل وهبي، وبعد خمسة أيام فقط تلقى فريد اتصالاً من صلاح الشاهد، كبير الأمناء برئاسة الجمهورية أخبره فيه بأن الرئيس عبد الناصر قد انعم عليه بوسام الاستحقاق من الطبقة الأولى ما كان يعني بالنسبة له ترحيباً عملياً من جانب رئيس الدولة بعودته إلى أرض مصر مرة أخرى، وفي صباح اليوم التالي – 15/3/1970 توجه فريد إلى مقر رئاسة الحمهورية لتسلّم الوسام الذي جاء في براءته: "من جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة إلى الموسيقار فريد الأطرش... تقديرا ًلحميد صفاتكم وجليل خدماتكم للموسيقى قد منحناكم وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى وأمرنا بإصدار هذه البراءة إيذانا بذلك".

     ووفق ما ذكره نبيل حنفي محمود في كتابه "فريد الأطرش ومجد الفيلم الغنائي"، فقد استقبل الجميع حصول فريد على وسام الاستحقاق استقبالاً طيباً، وأقيم له أكثر من احتفال حضر أحدها – كان في معهد الموسيقى العربية - كل من أم كلثوم وسفيرا لبنان والكويت في القاهرة، واحد فقط لم يكن سعيداً بهذا التكريم اسمه عبد الحليم الذي عاتبه الناقد رجاء النقاش في مقاله "كلمات في الفن" المنشور في مجلة "الكواكب" في 28/4/1970 ناقلا عن مجلة "الحوادث" بعض ما قاله عبد الحليم ومنه: "فريد الأطرش أكبر فنان (مجرح) أنا ماسك عليه كلام قاله في بيروت والكويت عن مصر، وأستطيع أن أؤذيه أذية بالغة إذا كانت المنافسة بين الفنانين بالشكل ده، ولو أنني تكلّمت ما حصل على الوسام، الحكاية بسيطة، كنت أقدر بمنتهى البساطة أحط في جيبي (ريكوردر) صغير وأسجل كلامه وأخرب بيته، لكن هل هذا التصرف أخلاقي؟!" ولم يكتف رجاء النقاش باستدعاء ما قاله حليم لـ"الحوادث"، وإنما عقب قائلاً: "لست أدري لماذا سقط عبد الحليم وهو فنان ناجح بكل المقاييس هذه السقطات الصغيرة التي لا تليق به؟ لماذا لا يكتفي بنجاحه وفنه ويبتعد هن هذا الأسلوب الاستفزازي الذي يعامل به الكثيرين من زملائه؟!".

      (فريد يقبل الضريح)
     وفي الوقت الذي كان يكتب فيه رجاء النقاش هذا المقال الحاد جاء الموقف الأقوى الذي أبان صلب العلاقة بين فريد وعبد الناصر وأكذوبة عبد الحليم التي ظل يردّدها عن خصوصية علاقته بالزعيم المصري، فقد أراد فريد أن يلتقي بجمهوره في أول حفل عام بعد عودته إلى مصر، واختار لذلك ليلة شم النسيم في 26 نيسان 1970، وهو اليوم الذي اعتاد فيه حليم إقامة حفله بهذه المناسبة، ويبدو أنها كانت مكايدة من جانب فريد الذي تأكد من حظوته لدى عبد الناصر، وكانت المشكلة تتمثل في أي من الحفلين يذيعه التلفزيون المصري على الهواء في تلك الليلة؟ لكن عبد الناصر فض الاشتباك بنفسه حين أمر أن ينقل التلفزيون حفل فريد الطرش على الهواء ويُسجل حفل عبد الحليم ويُذاع في سهرة اليوم التالي، ونقل الإعلامي وجدي الحكيم أن عبد الناصر أثناء حضوره حفل زفاف ابنة عبد اللطيف البغدادي، عضو مجلس قيادة الثورة السابق، استدعى حليم وعاتبه على مواقفه المتلاحقة من فريد، وبذلك وضع الرجل حدا لتلك المعارك المتعاقبة منتصراً فيها لفريد الأطرش على طول الخط.


     بقي في هذا الملف المثير مشهد النهاية حيث توفي عبد الناصر، بعد تلك الواقعة بخمسة أشهر في 28 أيلول، وأفردت الصحف المصرية والعربية صورة لفريد وهو يبكي على قبر الزعيم، وبعدها بأيام أطلق أغنيته الشهيرة "حبيبنا يا ناصر" في رثاء الرئيس الراحل والتي يقول مطلعها: "حبيبنا يا ناصر يا أعز الحبايب، بطل وانت حاضر بطل وانت غايب، زعيمنا يا ناصر يا أغلى الرجال، يا فاتح طريق مجدنا يا جمال، دموعنا عليك في الكفاح والعمل، دموعنا بتروي زهور الأمل، وبكرة دموعنا ح تبقى ابتسامة، تنور طريقنا طريق الكرامة".

     وهكذا ودع فريد الأطرش "حبيب العمر" وهو النعت الذي كان يصف به عبد الناصر مستلهما إياه من عنوان واحدة من أشهر أغنياته.
      
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها