الإثنين 2023/12/18

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

سعاد زكي... مطربة في مصر وعاملة نظافة في اسرائيل

الإثنين 2023/12/18
increase حجم الخط decrease
ذات مساء تسعيني، أظنه العام 1995، وأنا أقلب في المذياع وقتما كنا لا نزال نستمع إلى أثير الموجة المتوسطة قبل زمن الـ"FM"، قادتني أطراف أصابعي إلى إذاعة صوت إسرائيل من أورشليم القدس، الإذاعة الرسمية الناطقة بالعربية. ولفت انتباهي صوت سيدة طاعنة في العمر تشدو بإحدى أغنيات أم كلثوم، ورغم هرمها فقد كانت تؤدي أداءً غنائياً سليماً ينم عن أنها كانت – في الأيام الخوالي – تتمتع بقدرات صوتية جيدة، وبعد انتهائها من الغناء نادتها مقدمة البرنامج بالفنانة سعاد زكي التي أخذت تتحدّث عن أمجادها الفنية في مصر، وعن منافستها لأم كلثوم التي شاركتها بطولة فيلم "سلامة" سنة 1945 من إخراج توجو مزراحي.

لم أكن حتى تلك الليلة قد سمعت عن فنانة مصرية أو عربية بهذا الاسم، فسألت الناقد السينمائي سمير فريد عنها وعما قالته عبر الإذاعة الإسرائيلية، فأبدى دهشته من أنه لم يسمع من قبل بذلك الاسم. ثم لجأت إلى الناقد والباحث أحمد رأفت بهجت، المتخصّص في الشأن الفني اليهودي وله العديد من المؤلفات في هذا الصدد، فكان موقفه من موقف سمير فريد. فقررتُ البحث عن حقيقة تلك السيدة.


كانت نقطة البداية الحصول على الكتيب الدعائي لفيلم "سلامة" الذي وجدت فيه بالفعل اسم سعاد زكي في الترتيب الثالث بعد أم كلثوم وفؤاد شفيق، ليتأكد لي أن هذه السيدة حقيقة واقعة، ثم بدأت تتواتر المعلومات التي تؤيد تلك الحقيقة. لكن هل كانت بالفعل منافسة قوية لأم كلثوم حسبما صوّرت آلة الدعاية الإسرائيلية التي تعاملت معها على أنها المطربة الثانية بعد سيدة الغناء العربي؟ أعتقد أن الأمر فيه الكثير من المبالغة. صحيح، كانت سعاد زكي مطربة موجودة في الساحة الفنية المصرية منذ النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى العام 1950، وغنت من ألحان كبار الموسيقيين أمثال زكريا أحمد وداود حسني ورياض السنباطي. وصحيح، ظهرت سعاد في خمسة أفلام كمطربة وممثلة بين العامين 1942 و1947، بدءاً من فيلم "بحبح في بغداد" وصولاً لفيلم "التضحية الكبرى". وصحيح أنها شاركت أم كلثوم في فيلم "سلامة" سنة 1945 والذي أدت فيه دور المطربة "جميلة"، وكانت ذات شهرة واسعة. إلا أن هذا لا يعني أنها كانت تنافس أم كلثوم ذراعاً بذراع، رغم النجاح الطيب الذي حققته قبل أن تقرر الهجرة إلى إسرائيل بعد عامين من قيام الدولة العبرية. فمن هي تلك المجهولة سعاد زكي؟ 

تشير المعلومات إلى أن اسمها الأصلي سعاد إيزاك حلواني، من مواليد العام 1915 لأب من أصول سورية وأم تتحدر عائلتها من يهود المغرب. تعلّمت كشأن بنات اليهود في مدارس الفرير، لكن حبّها للفن قادها لترك دراستها على غير رغبة والدها الذي قاوم هذا الاتجاه بحكم عمله في القضاء، بينما جاء التشجيع من جانب عمها الذي كان من أشهر مقاولي البناء في مصر. وبدأت سعاد طريق الاحتراف بعد عامين من افتتاح الإذاعة المصرية الرسمية في أيار 1934 على يد الموسيقار مدحت عاصم الذي قدمها لجمهور المستمعين تحت اسم المطربة المجهولة، ما شغل الناس في البحث عن اسم تلك المطربة، فساهم ذلك في ذيوع اسمها سريعاً حتى أني وجدت تعليقاً مكتوباً على ظهر إحدى صورها القديمة يصفها بأنها مطربة الإذاعة الأولى سنة 1936. في هذه الأثناء تزوجت سعاد من عازف القانون محمد العقاد الابن، سليل عائلة العازفين العِظام، من دون أن تتحوّل عن اليهودية، وأنجبت ابنها الوحيد الذي لم تذكر المصادر الاسم الذي سجله به الوالد في الأوراق الرسمية.

وبعد قيام دولة إسرائيل هاجر عدد من أفراد أسرتها إلى هناك بينما فضلت هي الهجرة مع زوجها إلى الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً بعدما تلقّى عرضاً مغرياً للعمل هناك من جانب إحدى المُنتجات الأميركيات، وسافر العقاد وحده أولاً إلى هناك لترتيب أوضاع إقامة أسرته، لكنه وقع في غرام المُنتجة، فقرر الزواج بها. ولما أرسل إلى سعاد في القاهرة ورقة طلاقها، قررت اللحاق ببقية أسرتها في إسرائيل سنة 1950 خوفاً من أن يسعى العقاد لطلب ابنه للإقامة معه، وممنية نفسها هناك بمستقبل عظيم في عالم الغناء والتمثيل.


وفي فلسطين المحتلة عاشت سعاد أولاً في أحد معسكرات العابرين قرب تل أبيب، ثم انتقلت إلى مدينة حيفا حيث أدخلت ابنها مدرسة الفرير، فيما بدأت هي الغناء عبر الإذاعة العربية الإسرائيلية، واستمر ذلك عشرين سنة، بحسب النسخة العربية من صحيفة "تايم أف إسرائيل" التي أجرت حواراً قبل سنوات مع ابنها الذي كان يبلغ من العمر وقتها التاسعة والستين. وكشف الرجل الذي يعمل طبيباً نفسياً، حقائق مهمة في حياة والدته، مثلاً أن مَن قام بـ"طهوره" في القاهرة هو الحاخام سيمحون الذى قام بطهور الملك فاروق، وهي معلومة جديدة تماماً فى سيرة الملك السابق. وقال أنه تسمى في إسرائيل بـ"موشيه زكي"، تيمناً بكنية والدته، وأنه يدين باليهودية وليس الإسلام، وأن والدته، مع تراجع فرصها في الغناء وانصراف الإذاعة الإسرائيلية عنها، لم يعد دخلها يكفيها، فافتتحت أولاً كافتيريا في حيفا حاولت أن تمارس فيها الغناء، ثم اضطرت للعمل كعاملة نظافة في أحد البنوك كي تستطيع الإنفاق على تعليم ابنها الذي حصل على الدكتوراه بعد ذلك.

وأضاف موشيه زكي أنه نجح، بعدما تجاوزت أمه السبعين من العمر، في إعادة الحياة الزوجية بين أمه وأبيه، وأنها سافرت للإقامة معه في الولايات المتحدة. غير أن العقاد تعرض لحادث سرقة في نيويورك فقد على أثره آلة القانون الخاصة به، ما جعله يقرر الهجرة معها إلى إسرائيل، وبقي العقاد في حيفا حتى وفاته العام 1993 ودُفن في مقابر المسلمين هناك، فيما عاشت سعاد زكي في المدينة ذاتها حتى رحيلها العام 2004، ودفنت في مقبرة يهودية بطيرة الكرمل. 

وادعى موشيه زكي في هذا الحوار أن الحكومة المصرية أحرقت أغنيات أمه والأفلام التي شاركت فيها، مع أن هذا غير صحيح، وقال أن ذلك تسبب في عدم معرفة الأجيال الجديدة بوالدته. لكن المدهش هو ما علقت به الصحيفة الإسرائيلية على حياة سعاد زكي، حين قالت إنها تحولت من مطربة قاهرية إلى أمّ عازبة وعاملة نظافة في بنك، وأنّها تخلت عن الشهرة والثروة في مصر من أجل الحلم الصهيوني. لقد كانت سعاد زكي من أقوى الفنانات اليهوديات في مصر إيماناً بالمشروع الصهيوني، ربما حتى أكثر من راقية إبراهيم التي قيل الكثير عن دورها في خدمة إسرائيل، لكن أتراها حققت حلمها الشخصي هناك؟!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها