الخميس 2024/02/22

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

الفن التشكيلي عن غزّة...استغلال أم تعبير صادق؟

الخميس 2024/02/22
الفن التشكيلي عن غزّة...استغلال أم تعبير صادق؟
increase حجم الخط decrease
في ظلّ الإبادة الجماعيّة التي يتعرّض لها أهالي غزّة، نرى مجموعة لا بأس بها من الفنانين التشكيليين الذين يسخّرون أعمالهم الحاليّة لتوثيق الفظائع التي تحدث في غزّة أو لتوثيق التراث الفلسطيني في محاولة للحفاظ عليه. منهم من اختار رسم الأطفال الذين حرموا من طفولتهم، البعض يصوّر الصحافيين والأطباء الأبطال كتقدير لجهودهم، ومنهم من يصوّر أهم رموز التراث الفلسطيني، كأن يرسم ملثماً بكوفيّة. في الجهة المقابلة، هناك مجموعة من الفنانين، رفضت ابتكار أيّ أعمال فنيّة، لأنهم يعتبرون أنها قد تجمّل المجازر، أو ربما تكون استغلالاً لحياة ومآسي الأطفال والمدنيين الأبرياء، بغية ارتفاع عدد المشاهدة والنشر والبيع. 

هذا الإختلاف في وجهات النظر، لم ينحصر بين الفنانين التشكيليين. لقد أبدى الكثير من محبي ومتابعي الفن رأيهم في الأعمال التي تتناول حرب غزّة، في مواقع التواصل الإجتماعي، لتتباين وجهات النظر. كثر شاركوا رسوماً لأطفال وأبطال غزّة في صفحاتهم، بسبب إعجابهم بها، وإحساسهم بأنّ هذه الرسوم تختصر كلّ ما يودون التعبير عنه. لكن كثر هم أيضاً مَن هاجموا تلك الرسوم في صفحاتهم، قائلين بأنّها استغلال لما يحصل في الأرض الفلسطينيّة بهدف تسويق الفنانين لأنفسهم والشهرة. واعتبر البعض أن الوقت الآن ليس مناسباً للفن، وعلى الجميع نقل الصورة المأسوية لبقيّة المجتمعات كما هي، من دون محاولة تجميلها باستخدام الرسوم. فهل آن الأوان للفنان التشكيلي بأن يستخدم أعماله كسلاح لمقاومة الإحتلال؟

فكرة التعبير عن أهوال الحرب في الأعمال الفنيّة ليست جديدة. فمثلاً، الفنانة الألمانية كيث كولفيتز Kathe Kollwitz، وهي فنانة تعبيريّة عايشت الموت منذ طفولتها، إذ خسرت جميع إخوتها في صغرها، ثمّ عاد الموت في كبرها ليأخذ أصغر أبنائها كضحيّة للحرب العالميّة الأولى العام 1914. انهمكت كولفيتز بإنشاء أعمال عن ضحايا الحرب ومآسيها، ونفذّت تلك الأعمال بوسيط الحفر والطباعة، وارتبط اسلوبها بالتعبيرية بسبب حدته وقدرته على القَول، وظهر ذلك في أعمالها، تباينات حادة بين الضوء والظلال، وبين الحياة والموت. نرى جثة لضحية في إحدى الطبعات، امرأة اغتُصبت وقُتلت، تحدّها الورود من كل جانب وكأنها تنمو من خلالها. يمكن رؤية موقف كولفيتز من الموت وتناقضاته الصادمة في مشهد مثل هذا، لا يمكن وصفه بالشاعريّة أو محاولة إضفاء طابع رومانسي على المأساة، لكنه في الوقت نفسه لا يمثل رؤية أحاديّة صارمة، ففيه تتضافر رموز الحياه والموت لأنه يصعب فصلهما من الأساس.

لم يصنّف التاريخ أعمال كيث كولفيتز على أنّها استغلال لضحايا الحرب ومآسيهم، بل صنّفها على أنّها أعمال تعبيريّة أرّخت معاناة الشعب خلال حقبة معيّنة، والأهم، أنّها صُوّرت من منظور امرأة. كولفيتز لم تُتهم باستغلال الحرب ليس فقط لأنّها كانت إحدى ضحاياها، فبالإضافة إلى أنّ أعمالها في غاية الصدق من ناحية التعبير، هي لم تسع في تلك الأعمال إلى الشهرة أو البيع. لكن الحرب العالميّة الأولى، لم ترافقها السوشال ميديا، فتزامن الإبادة الجماعيّة مع عصر مواقع التواصل الإجتماعي والسعي وراء زيادة عدد المتابعين، يحثنا على التساؤل أمام أي عمل فنّي نراه على تلك المواقع، هل هذا العمل هو فعل مقاومة ووقفة تضامنيّة مع الشعب الفلسطيني؟ أم هو استغلال لما يحدث بهدف الشهرة؟

استطلعت "المدن" آراء عدد من الفنانين التشكيليين في موضوع الأعمال الفنيّة التي تتناول الحرب على غزّة. بعض هؤلاء الفنانين تضمنت أعمالهم الحاليّة موضوع غزّة، وبعضهم اختار أن لا يتناول موضوع الحرب حاليّاً. فكان أوّل الحديث مع الفنان التشكيلي السوري، يوسف عبدلكي، الذي لا تعدّ القضيّة الفلسطينيّة مستجدّة في أعماله الفنيّة. يجرّد عبدلكي الفن من مهمة التوثيق، التي نسبت إليه قبل ظهور الكاميرا، ويحدثنا عما هو أسمى "اللوحة هي عمل ثقافي، لا تقدّم رغيف خبز لجائع ولا تقصف دبّابة. الفن ليس لديه القدرة على تغيير المآسي التي تحيط بالبشريّة. العمل الفنّي يعبّر عن وجدان الفنان، وفي لحظات مهمّة واستثنائيّة، قد يعبّر عن الوجدان الجماعي. التحريض، تسجيل الوقائع، ما عادت هذه من مهام الفنان، بل مهام عدسة الكاميرا. الكاميرا ترصد الوقائع المباشرة، أمّا اللوحة فترصد ما هو أبعد، اللوحة ترصد موقف الإنسان من العدالة والإنسانيّة والحريّة وما إلى ذلك...". أمّا في حديثه تحديداً عن الجرائم التي ترتكب في غزّة ودور الفنان حيالها، فيقول: "أنا أؤمن أنّه ما من إنسان، يتحلّى بذرّة من الضمير، يرى الجريمة العظمى التي تحصل في غزّة ويقبل بها. تناول الفنان لهذه المأساة في أعماله، لم يعد هو موضوع السؤال، بل السؤال هو: كيف يعبّر الفنان عن هذه الجريمة الكبرى؟ يتعلّق الأمر بدرجة تأثير الحدث على ضميره وبقدراته وموهبته. كما أنّه لا يمكن تحديد قيمة هذه الأعمال في الوقت الحالي، الزمن هو من سيحدد قيمتها. بمعنى آخر، قد يقدّم أحد الفنانين عملاً اليوم، يثير الدهشة، أمّا بعد عشرين عاماً، فقد يكون عمله دون أي قيمة، والعكس صحيح".

الفنان اللبناني الشاب، المعروف بإسم رينوزRenoz، يرى الأمر من منظور مغاير، يوضح أنّ الفن في ظل ما يحصل، لا يقدّم أيّة إضافة في حالات الحرب، وخصوصاً بالمواجهة مع وحشيّة هكذا أحداث. الأمر أشبه بأن نرمي وردة بوجه السلاح المصوّب إلينا. العنف يقابل بالعنف فقط، الثقافة والفن فعّالان في وقت السِّلم لأنهما ببساطة لا يستطيعان حماية الشعب من القصف. للأسف، من السهولة أن تتحول الأحداث بفلسطين لمحتوى استهلاكي، لأنّها محتوى حسّاس ولا يمكن للمتلقي إلّا التعاطف. إنّ استخدام الفنانين لمحتوى المجازر التي تحدث كموضوع حسّاس، يسطّح الأحداث ويجرّدها من حقيقتها. ويحدث هذا من خلال تلطيف الصورة الوثائقية المنشورة من قبل المصورين ووكالات الأخبار. يقوم الفنانون اليوم بخلق صورة لطيفة مغايرة للواقع العنيف البشع الذي يعيشه أهل غزّة. الممارسة الفنيّة تخدم حين تغذّي القضيّة الفلسطينيّة وليس حين تستغلّها لتغذّي العمل الفنّي".

أمّا الفنانة اللبنانيّة غادة الزغبي، فاعتبرت أنّ تناول القضيّة الفلسطينية في الأعمال الفنيّة لدى الفنانين العرب ليس وليد الحرب الحاليّة فقط، فالكثير من الفنانين تناولوا موضوع فلسطين في لوحاتهم، لأنّهم يولدون ويترعرعون على مبدأ القضيّة الفلسطينيّة، وهي واحدة منهم. تقول: "الفن كردّ فعل، أم الفن كفعل بحد ذاته؟ هنا يكمن السؤال. يعتمد الأمر على ما يريده الفنان في التعبير عن موقفه أو مشاعره، وعلى قدر المساهمة التي يستطيع تقديمها للقضيّة الفلسطينيّة والإنسانيّة عمومًا. فالقضيّة الفلسطينيّة ليست حدثًا طارئًا ولم تبدأ البارحة، بل معظمنا كفنانين عرب ولدنا والقضيّة معنا، وبانت مساهمتنا الفنيّة ازاءها في أعمالنا بشكل مباشر أو غير مباشر على مر السنين، إنّما الشعور بضرورة التعبير الآن وفي هذه الظروف القاسية والصادمة هو أمر صعب جدّاً ويختلف من فنان الى آخر". تضيف: "أمّا بالنسبة إلي فلا أستطيع أن أقدم أي عمل يمكنه أن يوازي أو يفي الفلسطينيين حقهم في هذه اللحظة، مقابل ما نراه لديهم من قوة وعزيمة وإيمان بالأرض وربط مصيرهم بها. أي عمل قد أقدّمه يمكنه أن يوازي مشاهد الصمود والتسليم للأرض؟ فيديو واحد مما نشاهده يوميّاً هو أقوى وأعظم تعبير يفوق جميع محاولاتي. إن رسمت يومًا لفلسطين فهو أمر شخصي أوّلاً ينطلق من حاجة شخصيّة للخروج من العجز والوقوف في المكان الذي أنتمي اليه. ولا أعلم كيف ومتى يمكنه أن يخرج من حواسي إلى اللوحة، فهو يحتاج إلى أن يرقد مدّة في عقلي وجسمي، أن يتاح له الوقت كي ينمو ويخرج إلى اللوحة ببناء يكون له وقع أو تأثير ما، وهكذا برأيي تكون لديه فرصة بأن يكون فاعلاً إلى جانب كونه إنفعالاً".

أما التشكيلي والناقد الفنّي، منصور الهبر، فلا يسلخ الحرب في غزّة عن كونها فنّاً في حد ذاتها: "لا بد من التأكيد أنّ حرب غزّة لا تنفصل عن كونها فناً. لأوّل مرّة يصوّر مقاتلو غزّة المعارك في بث حيّ live، ويراها العالم على الهواتف. هذا ينتمي إلى فن الفيديو، ومعارك القتال تنتمي إلى فن الأداء... لا أستطيع منع فنان أن يعبّر عن حرب غزّة، لكن تبقى النتيجة، هل هو عمل فنّي أم استغلال للحدث؟". أمّا عن اختياره الابتعاد عن تناول موضوع الإبادة في لوحاته، يقول الهبر: "اخترت الإبتعاد عن معالجة موضوع حرب غزّة، لكن هذا لم يبعدني عن التأثر وحرب غزّة تنعكس في عملي ولكن بطريقة غير مباشرة قد تحفّزني أكثر في الصياغة الفنيّة".

بطبيعة الحال، رأي الفنان العربي في ظل هذه الأوضاع، لا بد أن يُقابَل بمنظور مَن هو داخل غزّة، يواجه مأساة الإبادة بحذافيرها. عند سؤال الكاتب والصحافي حلمي موسى، الذي يعايش كلّ ما يحصل داخل قطاع غزّة، أوضح أنّ الفن هو سلاح بيد المظلومين، رغم أنّ الواقع حمل صوراً فائقة القيمة: "كان الفن ولا يزال سلاحاً بأيدي المظلومين والثائرين ويعبّر عنهم وأحياناً يوصل رسالتهم بأسرع ما يكون. وبديهي أنّ الأمر يعتمد على الصيغة التي يقدّم بها الفنان فكرته. الواقع حمل صوراً فائقة القيمة من الناحية الفنيّة، رغم أنّها لمبتدئين في التصوير، لكنّها عكست واقعاً بائساً بشكل جذّاب، أظهر البؤس ولم يجمّله. وهناك صور وفيديوهات لأطفال تطفح بالمرارة والصمت عند إصابتهم بجروح أو عند فقدانهم والديهم وأقربائهم. الصور كثيرة والتعبير عنها بحاجة لروح مرهفة. والمهم هنا هو الغاية والأسلوب في التعبير عن هؤلاء الناس وصمودهم".

أمّا بالحديث عن سوق الفن، ومدى إقبال المستثمرين الفنيين على الأعمال التي تتناول غزّة والقضيّة الفلسطينيّة، يؤكد براق نعماني، صاحب غاليري براق في الحمرا (بيروت)، أنّ الطلب على تلك الأعمال ليس وليد الحرب الراهنة: "القضيّة الفلسطينيّة في سوق الفن مطلوبة كثيراً، زاد الطلب عليها بعد المجزرة التي تحصل. أنا شخصيّاً، أرسل نسبة من أرباح هذه الأعمال للتبرّع من أجل دعم غزّة. في الوقت نفسه، أعتبر أنّ عرض هذه الأعمال هو وسيلة لتثقيف المقبلين عليها عن فلسطين وقضيّتها. الصهاينة مهتمّون بقمع الفنان المؤيد بأعماله للقضيّة، لأنّهم يعلمون مدى أهميّة تلك الأعمال، ونحن بعرض هذه الأعمال، نقاوم هذا القمع".

في العام 1937، أنهى الفنان الإسباني بابلو بيكاسو Pablo Picasso، العمل على لوحته الأشهر "غرنيكا Guernica" التي بلغ عرضها 7.8 أمتار. كان قد كلّف بها من قبل الحكومة الإسبانيّة، لتعرض في الجناح الإسباني في المعرض الدولي للتقنيّات والفنون في الحياة المعاصرة Internationale Le De Arts Et Techniques Dans La Vie Moderne. استوحى بيكاسو لوحته من قصف غرنيكا، حين قامت طائرة حربيّة ألمانيّة وإيطاليّة مساندة لقوّات القوميين الإسبان بقصف في 26 أبريل (نيسان) 1937، بغرض الترويع خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة. عرضت اللوحة مأساة الحرب والمعاناة التي تسببها للأفراد، لتصبح معلماً أثريّاً تذكّر بمآسي الحروب. طافت هذه اللوحة في جولة عالميّة لتصبح من اللوحات الأكثر شهرة. كما أنّ جولتها تلك ساهمت في لفت أنظار العالم للحرب الأهليّة الإسبانيّة. قد يتهافت فنانو اليوم على عرض أعمال موضوعها غزّة والقضيّة الفلسطينيّة، وقد تختلف النيّة التي تدفعهم للقيام بهذه الأعمال، ومن الطبيعي أن تتعدد الآراء حولها، لكنّ الزمن سيغربل تلك الأعمال، ليختار من بينها، ربما بعد مئات السنين، "غرنيكا فلسطينية".  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها